سلبية، حسابات كثيرة، متشعبة ومعقدة ومتعارضة، هكذا يعيش الاتحاد الأوروبي أزمة طهران ـ واشنطن، والحشد والحشد المضاد على جميع المستويات بين البلدين، حتى أضحى عاجزًا عن حماية مصالحه مع إيران، يخاف من تغول ترامب وهيمنته على الكرامة الأوروبية ولا يريد خسارته في نفس الوقت، خاصة أنه لا يأمن لإيران التي أعلنت فورًا عن نواياها، في إنذارات نهائية للعالم، للانتفاض من أجل أمنه وسلامه، وإلا فالجميع سيكون معرضًا للهلاك في نفس مركب الخطر.
ماذا يحدث بين الغرب وإيران؟
في أحدث التطورات، رفضت البلدان الأوروبية التهديدات الإيرانية الجديدة مهما كانت مبطنة بشعارات إنقاذ الصفقة النووية الإيرانية، فطهران هذه المرة وضعت بيضها في سلة واحدة، وهددت بالذهاب بعيدًا إذا فشلت أوروبا والصين وروسيا في تخفيف العقوبات خلال 60 يومًا من الآن.
المفوضة الدبلوماسية للاتحاد الأوروبي فيديريكا موغريني عبرت عن انزعاجها بشدة، كما عبرت فرنسا وألمانيا وبريطانيا – الدول الأوروبية الثلاثة الموقعة على الصفقة – عن قلقهم الشديد مما سموه التدخل المثير للرئيس حسن روحاني، وفي بيان مشترك قالوا: “نشجع إيران بشدة على مواصلة تنفيذ التزاماتها بموجب خطة العمل المشتركة الشاملة بالكامل كما فعلت حتى الآن، ولكن نرفض أي خطوات تصعيدية، ونرفض بشدة أي إنذارات نهائية، وسنقيّم امتثال إيران على أساس أدائها فيما يتعلق بالتزاماتها المتعلقة بالنووي، بموجب خطة العمل المشتركة الشاملة”.
المثير أن التقييم الأخير للوكالة الدولية للطاقة الذرية، أشاد بالتزام إيران واحترامها للاتفاق النووي المبرم عام 2015
الاتحاد الأوروبي الذي يتحرك بارتجالية شديدة، ويبدو أنه يُفاجأ بالخطوات التصعيدية من الجانبين الأمريكي والإيراني، لجأ في النهاية إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ليترك على أعتابها مهمة مراقبة امتثال طهران للصفقة، في ظل توترات واضحة داخل الاتحاد، وضغوط داخلية وخارجية تمارس من ترامب على بعض الدول الأعضاء، لاتخاذ مواقف أكثر تشددًا تجاه طهران، خاصة بعد اتهام المخابرات الإيرانية بتدبير اغتيالات في فرنسا والدنمارك وبريطانيا.
المثير أن التقييم الأخير للوكالة الدولية للطاقة الذرية، أشاد بالتزام إيران واحترامها للاتفاق النووي المبرم عام 2015، وأكدت الوكالة أن الولايات المتحدة وليس إيران هي التي انتهكت الاتفاق من خلال إعادة فرض العقوبات على الجمهورية الإسلامية عام 2018، بسبب عدم اقتناع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالاتفاقية التي يعتبرها نتاج تفكير ساذج من الإدارة الديمقراطية للبيت الأبيض من سلفه باراك أوباما الذي مكن إيران من إحكام قبضتها على الشرق الأوسط، مما عرض أمن واشنطن وحلفائها الإقليميين للخطر.
وتنقسم الآراء داخل الاتحاد الأوروبي منذ إعلان ترامب تخليه عن الاتفاق النووي والانسحاب المنفرد منه، إذ تؤمن كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا بأهمية الصفقة لضمان استمرار المصالح التي ستتحقق من خلفها، من الأمن إلى التجارة الأوروبية، نهاية بالحفاظ على شرعية اتفاقية JCPOA أو خطة العمل الشاملة المشتركة بين إيران ودول الـ5+1 – الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا -، المنصوص عليها منذ عام 2015، لا سيما أن تعطيلها بشكل فردي من جانب ترامب يقضي على ما تبقى من الهيبة الأوروبية التي بعثرها الرجل خلال التفاوض على القضايا الخلافية مع أمريكا، في الأمن والتجارة العالمية واتفاق باريس بشأن تغير المناخ والتعريفات الجمركية.
يحاول وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، طمأنة بروكسل رغم الإبقاء على العقوبات النفطية، وتعزيز الوجود العسكري الأمريكي في الخليج بحاملات الطائرات وقاذفات بي 52 والاستعراض المتزايد للقوة، لشن حرب نفسية على طهران
وزادت الأمور تعقيدًا، بعد نشر الولايات المتحدة مجموعة من حاملات الطائرات في الخليج، مما كثف من التوترات العسكرية، إلى جانب تصعيد الخلاف الدبلوماسي بسبب الإصرار على اللجوء للقوة في حسم الملف الإيراني، وهي سياسة ترفضها أوروبا، ولكن أقصى ما تستطيع فعله، البقاء في المنتصف، فتحاول إبقاء طهران في الصفقة من خلال آلية خاصة تسمى INSTEX لتصفية المدفوعات دون الوقوع في عقوبات أمريكية، والالتزام في الوقت نفسه بمساعدة الشعب الإيراني على التمتع بفوائد تخفيف العقوبات، مع احتفاظها بموقفها الرافض لتحرر إيران من القيود المفروضة عليها في تخصيب اليورانيوم، مهما كان السبب، بما في ذلك العقوبات الأمريكية، وهي حملة سياسات متضاربة وضعيفة من وجهة نظر المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، لذا ووصفها بأنها “مزحة مريرة”، وكرر التهديد بقدرة بلاده على الرد.
جولات مكوكية للخارجية الأمريكية.. لماذا؟
يحاول وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، طمأنة بروكسل رغم الإبقاء على العقوبات النفطية، وتعزيز الوجود العسكري الأمريكي في الخليج بحاملات الطائرات وقاذفات بي 52 والاستعراض المتزايد للقوة، لشن حرب نفسية على طهران، تضمن عدم انزلاقها إلى مستنقع الحرب بشكل مباشر، وخاصة بعد الهجمات على السفن التجارية قبالة الفجيرة الإماراتية.
أمام الضعف الأوروبي والتنمر الأمريكي، تتشدد إيران هي الأخرى في مواقفها وتعمل على توجيه مجموعة تهديدات انتقامية وتلقي بها في جميع الاتجاهات
وترغب أمريكا في إجبار طهران على توقيع اتفاقية جديدة، تكون أوسع نطاقًا من اتفاق 2015، يضمن تحقيق السلام في الشرق الأوسط، وفقًا للمقاييس الجديدة بمنهج ترامب الذي يريد الإنهاء تمامًا على قدرة إيران على استئناف تخصيب الوقود النووي وإبعادها عن صيد الاتحاد الأوروبي في الماء العكر واستغلاله المحتمل للأزمة في البحث عن ثغرة تسمح له ببيع النفط الإيراني والتحايل على العقوبات الأمريكية.
خيارات إيران.. كل الخيارات متاحة
أمام الضعف الأوروبي والتنمر الأمريكي، تتشدد إيران هي الأخرى في مواقفها، وتعمل على توجيه مجموعة تهديدات انتقامية وتلقي بها في جميع الاتجاهات، لا سيما أن الشق التجاري للصفقة النووية لم يُفعل حتى الآن، وضاع عليها مكاسب اقتصادية كبيرة، وأصبح حاليًّا من رابع المستحيلات الحصول عليها، بعد فرض ترامب عقوباته القاسية على طهران، ومغادرة الشركات الأوروبية التي كانت ترغب في الاستثمار ببلاد فارس، خوفًا من لهيب العقوبات.
وسبق لإدارة ترامب تحذير أعضاء الاتحاد الأوروبي من اتخاذ أي إجراء من شأنه تجنب العقوبات الأمريكية التي تمرر للرأي العام العالمي والغربي بشكل خاص، باعتبارها مجرد محاولة لنزع سم النظام الحاكم في إيران، ولا علاقة لها بالمواطنين العاديين، مع أنه من السابق لأوانه معرفة هل سيتأثر النظام وحده أم سيتحمل الشعب تبعات المآساة، إذا انتهت كل الجهود لتجنب المواجهة الإيرانية الأمريكية المحتملة وعلى رأسها الإسراع في خطط الاتحاد الأوروبي لتعزيز دور اليورو وتحدي هيمنة الدولار وتقليل اعتماد أوروبا العسكري على الولايات المتحدة.
منذ الحرب العالمية الثانية، لم تدخل الولايات المتحدة أي صراع كبير، إلا في عاصفة الصحراء بالتسعينيات من القرن الماضي، ونجحت بفضل تلاحم القوى الدولية في الهدف والوسيلة
على جانب آخر، تراهن إيران على التجارب السيئة لأمريكا خارج حدودها، فهي قوة عديمة الخبرة إذا نظرنا إلى تجاربها الفاشلة في بلدان العالم، بداية من تدخلها في الحرب الكورية عام 1950 ونشرها قوة غير كافية، فتمكن الكوريون الشماليون من إنجاح إضرابهم، مما اضطر الولايات المتحدة للقتال لمدة ثلاث سنوات ولم تنتصر في النهاية، ومرر الكوريون الشماليون ما أرادوه.
ومنذ الحرب العالمية الثانية لم تدخل الولايات المتحدة أي صراع كبير إلا في عاصفة الصحراء بالتسعينيات من القرن الماضي، ونجحت بفضل تلاحم القوى الدولية في الهدف والوسيلة، بينما فشلت بمفردها في فيتنام وأفغانستان والعراق، لإصراها على عدم التعلم من روما ولندن وباريس، وغيرهم من القوى الأوروبية الذين رفضوا الانزلاق مباشرة إلى مستنقع الحرب وفضلوا دائمًا تسليح قوى محلية لديها مصلحة في هزيمة عدوهم المشترك، وقدموا للمحليين الحد الأدنى من القوة والمساعدات المادية، بينما لا تزال الولايات المتحدة تمارس هوايتها في الاندفاع كالثور الهائج، فيسهل ترويضها والإيقاع بها في دوامات لا نهائية من الصراع.
ورغم المعطيات السابقة، فإن التجربة الترامبية في الصراع مختلفة، فهي تدفع بمدرسة جديدة في استخدام القوة، بداية بتخويف الخصم والتهديد المتواصل بالقيام بعمل عسكري، ثم اللجوء إلى حرب اقتصادية شاملة، وإقرار مجموعة متنوعة من أساليب العقوبات والحصار، نهاية باستخدم القوة العسكرية، وهي تجربة سيحكم عليها في القريب العاجل، إذا لم تفلح جهود التهدئة في نزع فتيل الأزمة وإعادة الهدوء بالمنطقة إلى مربع الصفر.