أكثر من 40 يومًا على إعلان اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي يقود القوات الموالية لبرلمان طبرق (شرق)، حربه على الحكومة المعترف بها دوليًا ومقرها طرابلس العاصمة، ولم يُحقق تقدمًا ملحوظًا على الأرض رغم رشقات المدافع المتواصلة والطلعات الجوية المكثفة مسنودة بطيران دول داعمة للهجوم، لم تصنع فارقًا ميدانيًا على حساب قوات حكومة الوفاق، ولم تُيسر له عبور الضواحي الجنوبية والشرقية للعاصمة وإسقاط طرابلس.
عجز ميداني
رغم حشد العتاد والآليات والمليشيات غير المتجانسة ذات المرجعية القبلية أو الدينية (المداخلة)، ومرتزقة من النيجر والتشاد والسودان، فإن قوات حفتر لم تُحقق تقدمًا حقيقيًا وجوهريًا على الأرض، ولم تقو على اختراق التحصينات والطوق العسكري نحو قلب طرابلس، وبقيت المعركة محصورة في أطراف العاصمة وضواحيها.
وقابلت قوات الوفاق التكتيكات العسكرية لحفتر ـ التي تراوحت بين الهجوم الخاطف على مناطق الجنوبية للعاصمة، وأخرى استهدفت الجهات الغربية والشرقية بغرض الإنهاك والاختراق – بخطط أشد فاعلية ونجاعة كان قوامها استنزاف جهود المهاجمين وضرب خطوط الإمداد والدعم، في انتظار هجوم حاسم تعكف على الإعداد له، بحسب مسؤولين محليين.
انتكاسة حفتر الميدانية أعقبتها أخرى سياسية ودبلوماسية، بدأت بإعلان نواب من البرلمان المنعقد بطبرق رفضهم للعملية العسكرية وتمسكهم بالحل السياسي للأزمة، وصولًا إلى المواقف الدولية الأخيرة الداعية إلى وقف الحرب والعودة لطاولة الحوار
لم يتعلم اللواء الأسير السابق في تشاد من تجاربه السابقة عندما خاض هجومين سابقين على العاصمة، ولم يتمكن من السيطرة عليها رغم الدعم العسكري والسياسي من بعض الدول العربية وعلى رأسها مصر والإمارات، إضافة إلى الزخم الإعلامي لهذه الدول وغيرها، وتسويقه على أنه المنقذ والبديل القادر على محاربة “الإرهاب” (المسوغ الوحيد لداعمي الهجوم).
ضغط محلي ودولي
انتكاسة حفتر الميدانية أعقبتها أخرى سياسية ودبلوماسية، بدأت بإعلان نواب من البرلمان المنعقد بطبرق رفضهم للعملية العسكرية وتمسكهم بالحل السياسي للأزمة وبالمؤتمر الليبي الجامع الذي كان مقررًا بمدينة غدامس ما بين 14 و16 من أبريل الماضي، الذي يهدف لإطلاق عملية سياسية برعاية الأمم المتحدة، وصولًا إلى المواقف الدولية الأخيرة الداعية إلى وقف الحرب والعودة لطاولة الحوار.
وكان بيان الاتحاد الأوروبي بشأن اعتبار الهجوم على طرابلس واستمرار التصعيد، خطرًا على السلم العالمي، آخر الرسائل العاجلة للواء، بأن لا غطاء دولي على عملياته العسكرية في ليبيا، والحل السياسي هو المخرج الوحيد للأزمة في البلاد، بإشراف البعثة الأممية للدعم التي يترأسها غسان سلامة، ما يُوحي أيضًا بتراجع الدعم الفرنسي لحفتر وذلك بعدم اعتراض فرنسا على البيان، إضافة إلى إعلان الإليزيه لاحقًا أنه لم يكن على علم مسبق بالهجوم على طرابلس.
لئن تراجعت فرنسا خطوة واحدة إلى الوراء بعد تأكدها من أن سياسة الأمر الواقع التي أراد حفتر فرضها بشنه الحرب، لن تلقى ترحيبًا وصدى دوليين، حافظت إيطاليا على ذات السياسة تجاه الأزمة الليبية
باريس المتهمة بدعم حفتر سياسيًا ولوجستيًا وعسكريًا من خلال وجود جنودها (قوات خاصة ومستشارين) على الرمال الليبية، سارعت على لسان وزير خارجيتها جان إيف لودريان مهندس العلاقات والتقارب مع اللواء، تحت عنوان إستراتيجية فرنسا الجديدة في المنطقة “الأمن أولًا”، إلى دعوة الأخير للقاء الرئيس إيمانويل ماكرون، لحثه – حسب قوله – على وقف إطلاق النار واستئناف محادثات السلام.
ولئن تراجعت فرنسا خطوة واحدة إلى الوراء بعد تأكدها من أن سياسة الأمر الواقع التي أراد حفتر فرضها بشنه الحرب، لن تلقى ترحيبًا وصدى دوليين، كما لم تنجح ميدانيًا، حافظت إيطاليا على ذات السياسة تجاه الأزمة الليبية، وتأكيدها المتواصل على لسان رئيس حكومتها جوزيبي كونتي أن الحل لن يكون عسكريًا.
وفي ذات السياق، لم يتضح بعد الموقف الرسمي الأمريكي تجاه العمليات العسكرية في ليبيا، وحتى المكالمة التي كشفها البيت الأبيض من دونالد ترامب مع اللواء، لا تعكس سياسة البيت الأبيض بقدر ما هي فجوة جديدة بين الرئيس وإدارته، لاقت انتقادات واسعة من شخصيات مؤثرة في المؤسسات الأمريكية، على غرار رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية ريتشارد هاس، ورئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب آدم شيف.
تراجع الإمارات بدعم حفتر علنًا، جاء بالتزامن مع دعوة الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي يوسف بن أحمد العثيمين، رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني فايز السراج، للمشاركة في أعمال الدورة الـ14 لمؤتمر القمة الإسلامي
ففي جلسة الاستماع التي عقدتها لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب الأمريكي ورسمت فيها خطوط واضحة للتعاطي الأمريكي مع الأزمة الليبية، دعت إلى وقف إطلاق النار وأكدت أن الهجوم الأخير على العاصمة طرابلس يُقوض مستقبل العملية السياسية في البلاد.
الثلاثي العربي
من جانبها، عولت الدول العربية الداعمة (مصر والإمارات والسعودية) على “نصر سريع”، يمكّن حليفهم خليفة حفتر من دخول طرابلس وإسقاط حكومة الوفاق الوطني وإفساد ما يسمونه مشروع “أخونة” البلاد، إلا أن عجز اللواء المتقاعد عن تحقيق نصر ولو جزئيًا، إضافة إلى الهجمات التي تلقاها مؤخرًا في الجنوب، والتخوف من فقدان مناطق سيطرته وخاصة تلك التي تقع فيها حقول النفط، زد على ذلك التطورات الأخيرة في المواقف الدولية، قد تدفعها إلى تعديل بوصلتها نسبيًا تماهيًا مع المستجدات، وهو ما كشفته جليًا التصريحات الأخيرة لوزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي أنور قرقاش، التي أكد فيها أن خليفة حفتر لم يتشاور مع بلاده قبل تحركه نحو العاصمة الليبية، مضيفًا “الوضع يجب أن يتوجه للاستقرار”، داعيًا إلى الحوار ووقف الحرب.
تراجع الإمارات بدعم حفتر علنًا، جاء بالتزامن مع دعوة الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي يوسف بن أحمد العثيمين، رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني فايز السراج، للمشاركة في أعمال الدورة الـ14 لمؤتمر القمة الإسلامي التي ستعقد بمدينة مكة المكرمة في 31 من مايو الحاليّ.
مخطئ من يرى أن الحرب ضد الإرهاب ستكون من مهام قوات حفتر أو جهة أخرى، كما يروج داعمو اللواء، بل هي مهمة الدولة الليبية
أما مصر الجارة الشرقية لليبيا والرقم الأهم على خريطة التدخلات الدولية في الأزمة، فتعمل على أكثر من صعيد:
أحدها دعم منقطع النظير لحفتر (زيارتين للقاهرة خلال الهجوم) لعدة أسباب منها ما تصفه بمكافحة الإرهاب والحركات المتشددة التي تنشط على حدود البلدين البالغة طولها 1150 كيلومترًا، وأخرى سياسية أهمها ضرب تيار الإسلام السياسي وتحجيم نفوذ الإخوان المسلمين في ليبيا التي تعتبرها امتدادًا للتنظيم العالمي، وإستراتيجية بدعوى موازنة الوجود التركي والقطري، واقتصادي متمثل في عقود الإعمار وامتيازات بالجملة في حال صعود حفتر إلى السلطة.
والآخر: دعم الحوار والتسوية السياسية بين الفرقاء من خلال المشاركة الدورية في اجتماعات دول جوار ليبيا.
المثال المصري يُعد استثناءً، فهي تساعد “رسميًا” جهود الأمم المتحدة لإرساء مصالحة وطنية في ليبيا وتسوية سياسية للأزمة، وإقامة دولة موحدة من جهة، وتدعم اللواء خليفة حفتر وقبائل الشرق من جهة ثانية، في مفارقة لا يُمكن فهمها إلا من منظور أمني خالص.
في ظل تقلب المواقف الدولية وتغيرها وفقًا لنظرية بنية المصالح سواء كانت اقتصادية أم أمنية أم إستراتيجية فإن حفتر أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما مواصلة الهجوم على العاصمة طرابلس ودفع كل ما لديه في هذه المغامرة، دون أن يُعير دعوات وقف الاقتتال والرجوع إلى طاولة الحوار أي اهتمام، وهو بذلك انتحار سياسي قبل أن يكون عسكريًا، أو البحث عن مخرج (اتفاق، وساطة) يضمن له مكان في أي تسوية سياسية قادمة في إطار المصالحة الوطنية الشاملة.
تزداد القناعة الدولية يوماً بعد آخر، أن مهمة مكافحة الإرهاب ليست لمن يزعمها، بل هي مهمة الدولة الليبية، بعد إرساء مؤسساتها المتمثلة في جيش موحد شرقًا وغربًا، وحكومة معترف بها دوليًا تُمثل أطياف الشعب كافة، عن طريق انتخابات حرة وشفافة.