ترجمة وتحرير: نون بوست
بينما تبحث أسر 100,000 سوري مفقود عن أقاربهم، يعتقد سكان البلدات والضواحي في مختلف أنحاء البلاد أنهم يعرفون مكان وجودهم: في الحقول التي شوهد فيها الجنود وهم يحفرون، أو في الأماكن التي توقفت فيها شاحنات الخضار دون سبب واضح.
قال عبيد بوجهاد، 42 سنة، وهو حفار قبور بالقرب من بلدة عقربا، جنوب شرق دمشق: “كانت الشاحنات تأتي في الليل”.
وهنا، يوجد جدار كبير مزود بأبراج للمراقبة يحيط بالموقع الذي يضم، بالإضافة إلى صفوف من القبور المميزة، على سلسلة من الخنادق. وتظهر صور الأقمار الصناعية التاريخية التي تم تحليلها بواسطة صحيفة “ذا تايمز” أنه قبل سنة 2011، كان الموقع مجرد مقبرة عادية. وبعد اندلاع الحرب الأهلية في تلك السنة، يبدو أن جزءًا منها قد تم تحويله إلى مقبرة جماعية بدءًا من سنة 2012.
وقال جهاد: “كانت الدماء تسيل من أسفل الشاحنات، وكنا نرى الدماء لا تزال على الطريق في اليوم التالي”.
تم تداول أرقام ضخمة دائمًا بشأن عدد الأشخاص الذين تم اعتقالهم وقتلهم على يد نظام الأسد، خاصة منذ بداية الانتفاضة في 2011. ومن بين قائمة يحتفظ بها المراقبون تضم 136,000 شخص مفقود، من المعروف أن حوالي 31,000 منهم قد تم إطلاق سراحهم. ويترك ذلك ما لا يقل عن 105,000 شخص “مفقودين”، يُفترض أنهم قتلى.
وهناك أدلة متزايدة تشير إلى أن العديد من المحتجزين السابقين تم دفنهم في مقابر جماعية بالقرب من دمشق.
في أحد المواقع بالقرب من القطيفة، على بعد حوالي 50 كيلومترًا شمال شرق العاصمة، يقول المسؤولون المحليون إن عدة آلاف تم دفنهم سرًا بين سنتي 2013 و2015. ومنذ ذلك الحين تم تجريف قطعة الأرض التي تبلغ مساحتها 10 أفدنة وهي محاطة بجدار حجري عالٍ. وقبل سنتين، أصبحت موقعًا لقاعدة لحزب الله. وداخل الجدار، توجد الآن مركبات عسكرية مهجورة ومعدات اتصالات مهجورة تحت أزيز أبراج الكهرباء المنخفضة.
كان محمد أبو البهاء، 40 سنة، وهو مدرس من القطيفة، يؤدي خدمته العسكرية في البلدة خلال تلك السنوات. ويتذكر عندما شاهد الجنود وهم يحفرون خنادق بطول 50 مترًا، مشيرًا إلى أن المدنيين كانوا يُمنعون من الاقتراب منها.
وبعد عدة أسابيع؛ كان بهاء في موقعه بالقرب من القاعدة عندما واجه “أسوأ رائحة يمكن أن تشمها على الإطلاق”، وبعد أن سأل الجنود الذين كانوا في الحراسة، أخبروه بأنها “من الجثث”.
خلال الأشهر التالية؛ شهد بهاء جنودًا وهم يحملون الجثث إلى الخنادق في عدة مناسبات. وقال: “كنت أمر بهذه المقبرة في طريقي إلى العمل على دراجتي، وأرى شاحنات مبردة مليئة بالجثث.”
وقال إن معظم الجثث كانت في أكياس بلاستيكية كبيرة، في حين كانت بعضها مكشوفة. وتم تفريغها من شاحنات كانت تُستخدم لنقل الفواكه والخضروات وتكديسها في الخنادق “واحدة فوق الأخرى”، وقدّر أن “عدد الجثث المدفونة هناك لا يقل عن 2,000 جثة”.
وقال بهاء إنه كان يخشى الانتقام لدرجة أنه لم يتحدث أبدًا عما رآه هناك، حتى مع عائلته، مضيفًا: “لن نغفر للنظام الإجرامي لأولئك الذين قُتلوا تحت التعذيب. ولا تعرف عائلاتهم حتى أين دُفنوا.”
وقال محمد أبو عبد الله، رئيس البلدة، إن المقبرة تم إنشاؤها بعد معارضة السكان المحليين لوضع جثث السجناء في الحفر غير المعلومة في مقبرة المدينة بوسط البلدة.
وقال: “في ذلك الوقت، كان الدم رخيصًا جدًا. كان بإمكان أي شخص أن يُقتل لأبسط سبب أو أي اتهام. وهناك العديد من الشباب الذين اختفوا، سواء بتهم أو بدونها. وبمجرد أن تم اقتيادهم إلى فرع الأمن الإقليمي، كانوا إما يتم إعدامهم أو يموتون من الجوع أو المرض أو القذارة أو التعذيب”.
وتتفق صور الأقمار الصناعية لقطيفة مع شهادة بهاء.
وقال دياب سرية، الذي يعمل في جمعية المعتقلين والمفقودين في سجن صيدنايا، وهي مجموعة كانت قد حددت الموقع سابقًا: “هذا هو المكان الذي كانوا يرسلون إليه الأشخاص الذين تم قتلهم في مراكز الاعتقال وعلى نقاط التفتيش.”
وزارت صحيفة “التايمز” ثلاثة مواقع حول العاصمة يُعتقد أنها مقابر جماعية. ومن غير المعروف متى سيتم التنقيب عنها، وربما لمنح آلاف الأشخاص الذين احتشدوا أمام السجون طوال الأسبوع شعور الارتياح، كما تقدم قصص أولئك الذين نجوا مزيدًا من الأدلة على النطاق الصناعي للقتل.
وكان عماد الجامع، 40 سنة، قد أمضى ثلاث سنوات وثمانية أشهر من مدة عقوبته البالغ 20 سنة في سجن صيدنايا عندما تم إطلاق سراحه يوم الأحد. وهو يتلقى العلاج من كسر في ظهره، تعرض له عندما اعتدى عليه أحد الحراس. وقال إن مثل هذه الاعتداءات كانت أمرًا شائعًا، وأنه لم يكن ليصمد يومًا آخر داخل السجن.
وقال: “في السجن، كل شيء محظور. ولا يمكنك التحدث، ولا يمكنك التحرك، وإلا سيقومون بضربك”.
وكان قد تم اعتقاله في ضاحية الغوطة بدمشق، وهي معقل المعارضة للأسد التي دمرتها قوات النظام خلال الحرب الأهلية. ولا تزال آثار الدمار واضحة للعيان حتى اليوم. ولم يكن الجامع يعرف سبب اعتقاله سوى أنه كان يعيش في تلك المنطقة.
وكما جرت العادة، قال الجامع إنه أمضى الأسبوع الأول من اعتقاله في الحبس الانفرادي في قبو السجن. وعاش في إحدى الزنازين الضيقة والرطبة ولا تحتوي على ضوء طبيعي أو تدفئة. وقضى بقية فترة احتجازه في الطابقين الأول والثاني، مشيرًأ إلى أن الحديث عن الطابق السفلي جاء لبث الرعب بين السجناء.
خلال فترة احتجازه، شهد مجموعات من 50 إلى 400 سجين يتم نقلهم إلى القبو وشنقهم.
وقال: “كنت أسمعهم يصرخون وهم يقاومون”، مضيفًا أنه قبل سنة 2022 كانت تحدث هذه الإعدامات الميدانية كل شهر أو شهرين، لكنها أصبحت نادرة، وبحلول الوقت الذي أُفرج عنه، “لم يكن هناك أي شخص في السجن تم اعتقاله قبل سنة 2017”.
وعلى الرغم من تدفق الأمل في استعادة العديد من المعتقلين، إلا أن فاضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، قال إنه يعتقد أن معظم المختفين قد ماتوا، مضيفًا: “قد نعثر على واحد أو اثنين في مكان ما في الشارع، ولكننا نعتقد أن معظمهم للأسف لن يعودوا”.
في الأيام التي أعقبت سقوط النظام، شقت آلاف العائلات طريقها من دمشق إلى صيدنايا بحثًا عن أحبائهم المفقودين.
وعلى مدى أيام بعد فتح السجن، استمرت الحشود في التوافد بحثًا عن “السجن السري” المفقود تحت المجمع الرئيسي. ولا تزال شائعة وجود سجن ثانٍ مبني في أعماق الأرض منتشرة، على الرغم من عمليات البحث الشاملة التي قامت بها فرق الدفاع المدني وآخرون الذين قاموا بخلع الأرضيات الخرسانية وحاولوا تحطيم الجدران.
قال عبد الغني: “أريد أن أكون واضحًا جدًا في هذا الموضوع. لا يوجد سجن تحت سجن صيدنايا. إن العائلات تستحق السلام.” ومع ذلك، لا يزال البعض يتمسك بالأمل.
وقال عبد الكريم، 42 سنة: “أنا أبحث عن جثة، عن أي معلومات”. كان قد سافر مسافة تقارب 400 ميل من الحسكة بحثًا عن شقيقيه الأصغر، اللذين اختفيا في سنة 2014.
عبثًا، يقلب عبد الكريم في الوثائق المرمية التي عثر عليها على الأرض بحثًا عن أدلة على مكان وجودهما. ثم، لملم الأوراق بين يديه وبدأ في البكاء منهارًا، وقال: “أريد أن يرى العالم كله ما فعله الأسد هنا”.
سوريون يكتشفون بقايا جثث على طريق المطار في دمشق.
المصدر: ذا تايمز