مرة أخرى، تفتح تونس أحد جراح ماضيها الذي لم يندمل بعد، جرح يرغب العديد من التونسيين معرفة أطواره والأسباب التي أدت إليه، خاصة أن المتهم الأبرز هو رئيس الدولة الأسبق الحبيب بورقيبة والضحية هو أهم معارضيه إبان استقلال البلاد من المستعمر الفرنسي وهو الزعيم السياسي صالح بن يوسف.
القضية أمام المحكمة لأول مرة
بعد قرابة الـ60 عامًا على اغتياله في مدينة فرانكفورت الألمانية، تبدأ الدائرة الجنائية المتخصصة في العدالة الانتقالية بالمحكمة الابتدائية بتونس، اليوم، في محاكمة قتلة صالح بن يوسف الذي يعد أحد أبرز زعماء الحركة الوطنية في البلاد، فهي قضية دولة لا تسقط بالتقادم.
وتأتي هذه المحاكمة، بعد مسار من البحث والتحرّي وجمع الشهادات وإحالة إلى القضاء من هيئة الحقيقة والكرامة الموكل إليها ملف العدالة الانتقالية في تونس، حسب ما أعلن محامي الدفاع عفيف بن يوسف، في ندوة صحفية أمس الأربعاء.
تصف هيئة الحقيقة والكرامة، عملية اغتيال صالح بن يوسف بـ”جريمة دولة واضحة المعالم”
قبل ثلاث سنوات تقدم النائب بالبرلمان التونسي عن حزب حراك الإرادة (يقوده الرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي)، عماد الدايمي، إلى هيئة الحقيقة والكرامة بملف عن جريمة اغتيال الزعيم صالح بن يوسف الذي يعد أحد أبرز قيادات الحركة الوطنية التي قاومت المستعمر وقادت الجهود الوطنية نحو التحرر والاستقلال الكامل.
وأوضح الدايمي أن الملف الذي قدمه، حينها، لا يتوقف عند الجريمة في حد ذاتها بل يتعداها ليركز على العقوبة الجماعية التي تعرض لها أهالي منطقة ميدون خاصة وجزيرة جربة في الجنوب التونسي بصفة عامة بسبب انتماء بن يوسف إليها وتعاطف الغالبية معه وولائهم له.
بورقيبة وآخرون
وجهت التهمة لستة أشخاص وهم: الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة، وعدد من المقربين منه، وهم: حسن بن عبد العزيز الورداني (أبرز المجاهدين ضد الاستعمار المقريبن لبورقيبة)، والبشير زرق العيون (ابن خالة بن يوسف، وكان يشغل حينها رئيس ديوان رئيس الجمهورية وقائد الحرس الرئاسي)، وعبد الله بن مبروك الورداني، ومحمد بن خليفة محرز، وحميدة بنتربوت (ابن أخت زرق العيون)”.
وتم حفظ التهم في حق الحبيب بورقيبة وحسن بن عبد العزيز الورداني والبشير زرق العيون بحكم الوفاة بينما لا يزال مقر كل من عبد الله بن مبروك الورداني ومحمد بن خليفة محرز مجهولاً.
يُتهم بورقيبة بتصفية خصومه السياسيين
وجهت دائرة الاتهام بالمحكمة تهمة القتل العمد مع سابقية الإضمار والترصد إلى عبد الله بن مبروك الورداني ومحمد بن خليفة محرز، في حين وجهت تهمة المشاركة في القتل العمد إلى حميدة بنتربوت.
وبيّن محامي عائلة يوسف بن صالح، عفيف بن صالح، أن “البحث الأمني أثبت مشاركة الدولة التونسية ورئاسة البلاد وقتها والحرس الرئاسي ووزارة الداخلية ووزارة الشؤون الخارجية وسفارة تونس بألمانيا، في عملية الاغتيال”، وأكد أن ألمانيا “مشاركة في الجريمة، بسبب صمتها عنها وعدم تتبع المتهمين ومحاكمتهم رغم التعرف عليهم، ورغم وقوع الجريمة على أراضيها”.
جريمة دولة
تصف هيئة الحقيقة والكرامة، عملية اغتيال صالح بن يوسف بـ”جريمة دولة” واضحة المعالم، إذ استهدفت خصمًا سياسيًا معارضًا يئس بورقيبة من إقناعه بوجهة نظره، وأضحى يشكل عائقًا أمامه نحو ممارسته للسلطة المطلقة وانفراده بالزعامة.
تعود أطوار القضية إلى يوم 12 من أغسطس/آب 1961، حيث أرسل بورقيبة فريقًا تمكّن من استدراج صالح بن يوسف إلى نزل رويال الكائن وسط مدينة فرنكفورت بألمانيا.
قام فريق الاغتيال في إطار التحضير للتصفية بالتنقل عدة مرات عام 1961 بين سويسرا وألمانيا لرصد ومتابعة تحركات بن يوسف الذي كانت تصفه الصحف الوطنية زمن الاستعمار بـ”الزعيم الأكبر”.
وكان قد كلف زرق العيون في فترة سابقة ضابطين مزعومين للاتصال بالضحية وإيهامه بأنهما في صفه ويرغبان في تصفية بورقيبة، فقبل بن يوسف التعامل معهما لتنجح عملية الاختراق.
في الصباح الباكر من يوم 12 من أغسطس/آب 1961، غادر حميدة بنتربوت فندق “فالدورف” مع المنفذين الإثنين، عبد الله بن مبروك ومحمد بن خليفة محرز، واقتنوا تذاكر ذهابًا وإيابًا من مطار زيورخ إلى فرانكفورت فيما ظلّ زرق العيون في المدينة السويسرية.
في فرانكفورت، حجز بنتربوت غرفة في فندق “رويال” الواقع قبالة محطة قطارات المدينة، باسم المنفذين الإثنين، وعلى الساعة الرابعة بعد الزوال من نفس اليوم، هاتف بنتربوت بن يوسف وطلب منه القدوم من مدينة “فيزبادن” أين يقيم إلى فرانكفورت وذلك لمقابلة الضابطين المزعومين في النزل.
امتنع بن يوسف في البداية لأنه كان يستعد مساء ذلك اليوم للسفر إلى غينيا بدعوة من رئيسها سيكو توري لحضور قمة دول عدم الانحياز، ولكنه استجاب بالنهاية على اعتبار ثقته في بنتربوت وحكم القرابة العائلية.
مساء ذلك اليوم، وصل بن يوسف للنزل مع زوجته صوفية واستقبله كل من مبروك ومحرز وطلبا منه الصعود إلى غرفة بالطابق العلوي وهو ما استجاب إليه بن يوسف الذي طلب من زوجته انتظاره في مقهى النزل.
ما بين الساعة الرابعة ونصف والخامسة تحديدًا، وبينما كان بن يوسف جالسًا على أريكة الغرفة، أطلق المنفذان النار من مسافة قصيرة باستعمال مسدس من عيار 7.65 ملم على مستوى جمجمة بن يوسف ومن الخلف أيضًا ليُردى قتيلًا.
غادر المنفذان الغرفة تاركين مفتاحها بالباب من الخارج وأعلما عون الاستقبال أنهما سيعودان بعد وقت قريب لأنهما ينتظران مكالمة هاتفية، ولكنهما لم يعودا.
خلال الساعتين اللاحقتين لمغادرة منفذي الاغتيال، تلقى موظف الاستقبال بالنزل 3 مكالمات هاتفية لم يحوّلها للغرفة مشيرًا على المخاطب بأن نزلاء الغرفة لم يعودوا بعد، وطلب المخاطب في المكالمة الأخيرة إعلامهما عند حضورهما بضرورة التحول إلى مكان حدده لعون الاستقبال.
في الأثناء ومع الساعة السابعة إلا ربع، استرابت صوفية بن صالح من عدم رجوع زوجها خاصة مع اقتراب موعد سفرهما إلى غينيا، فصعدت للغرفة لتجد زوجها ملقى على الأريكة وهو يلهث وتصدر منه حشرجة والدماء تنزف من مؤخرة رأسه ويداه مفتوحتان ومفكرته ممزقة وملقاة على الأرض مع القلم، فصاحت بأعلى صوت طالبة النجدة.
نقلت سيارة إسعاف بن يوسف مضجرًا بالدماء إلى مستشفى فرانكفورت أين جرت محاولة إنقاذه وأجريت له عملية جراحية لكنه توفي تحديدًا على الساعة الحادية عشر إلا ربع من ذلك اليوم.
في تلك الليلة الفاصلة عن يوم الأحد، شوهد فريق الاغتيال بزعامة زرق العيون في فندق “روايال” في زيورخ السويسرية ليغادروا جميعًا صبيحة اليوم الموالي إلى تونس.
حيثيات العملية
أشارت هيئة الحقيقة والكرامة في تقريرها الختامي الصادر مؤخرًا، إلى أن بورقيبة اتخذ قرار تصفية رفيق دربه السابق وخصمه اللاحق صالح بن يوسف، على إثر لقاء عاصف جمع بينهما بمدينة زيوريخ السويسرية يوم 2 من مارس/آذار 1961.
انتظم هذا اللقاء بقاعة النزل الذي يقيم فيه بورقيبة وذلك بسعي منه وبتنسيق مع مدير ديوانه البشير زرق العيون، وانتهى اللقاء بعد تشنج بمغادرة بن يوسف بطلب من بورقيبة الذي اتهمه بمحاولة اغتياله بواسطة مسدس كاتم للصوت أو بالسم.
إثر ذلك، كوّن بورقيبة وبإيعاز من وزير الداخلية وقتها الطيب المهيري فريق الاغتيال مكلفًا مدير ديوانه ورئيس حرسه البشير زرق العيون، ابن خالة بن يوسف، بالإشراف على المهمة.
وقد قام بورقيبة بتوسيم القاتلين وهما عبد الله بن مبروك ومحمد بن خليفة محرز بوسام الاستقلال عام 1974 بمناسبة الذكرى الأربعين لانبعاث الحزب الدستوري الحر (الحزب الحاكم) كما كافأ المشرف الميداني زرق العيون بالصنف الأكبر من وسام الجمهورية.
تسعى عائلة صالح بن يوسف وأنصاره الذين يعدون بالآلاف في تونس إلى اعتراف الدولة التونسية بالجريمة
ثبت، وفق هيئة الحقيقة، أن السلطات الألمانية انتهت بختم الأبحاث اللازمة في واقعة الاغتيال بتوصية من سفارة ألمانيا بتونس التي أكدت دور البشير زرق العيون في المحيط الضيق لبورقيبة وعليه من غير الموصى به إصدار بطاقة إيقاف بحقه ذلك أن تتبعه من شأنه توريط رئيس البلاد نفسه وهو ما يعني إفساد العلاقات التونسية الألمانية.
ولم يقم بورقيبة، في الأثناء، بالمطالبة بجلب جثة بن يوسف أو بفتح تحقيق قضائي عن واقعة اغتياله وهو ما يمثل دليلًا آخر على تورط الدولة في عملية التصفية، وفق الهيئة.
وتعتبر معارضة بن يوسف لاتفاقية الاستقلال الداخلي بين تونس وفرنسا التي وقعها الحبيب بورقيبة سنة 1955، القطرة التي أفاضت الكأس في علاقته مع بورقيبة، فبعد أن كان من رفاق بورقيبة في الحزب الحر الدستوري الجديد، أصبح ألد أعدائه، فقد كان بن صالح يعتبر الاستقلال الداخلي منقوصًا وخيانة، وشدد على ضرورة مواصلة الكفاح المسلح للحصول على الاستقلال التام لبلدان المغرب العربي كلها وليس تونس فقط، بينما كان الحبيب بورقيبة يطالب المقاومين بالنزول من الجبال وتسليم أسلحتهم.
اتسعت شقة الخلاف بين الرجلين، فاتهم بن يوسف بورقيبة بأنه “عميل للغرب وعدو للعروبة والإسلام”، وفشلت كل محاولات الصلح بينهما، وفي مؤتمر الحزب الحر الدستوري الجديد – في 15 من نوفمبر/تشرين الثاني 1955 – غلبت كفة بورقيبة بدعم من قيادة اتحاد النقابات، فاتخذ الحزب قرارًا بطرد صالح بن يوسف من هياكله، وبدأت مضايقات وملاحقات أتباعه.
اعتذار الدولة
تسعى عائلة صالح بن يوسف وأنصاره الذين يعدون بالآلاف في تونس إلى اعتراف الدولة التونسية بالجريمة التي أشرف عليها رئيس سابق لها، ومن ثم اعتذارها لأهل الضحية.
وأوضح نجل صالح بن يوسف لطفي بن يوسف الذي قدم من الولايات المتحدة الأمريكية إلى تونس لمتابعة المحاكمة أن مطلب العائلة هو اعتراف الدولة التونسية بأنها ارتكبت جريمة دولة وتقديم اعتذارها لعائلة الضحية.
أكد بن يوسف الابن، أن مطلبهم يتمثل في رد الاعتبار لصالح بن يوسف ودوره في تاريخ الحركة الوطنية التونسية من خلال إعادة كتابة التاريخ، إضافة إلى إلغاء الأحكام المجحفة الصادرة بالإعدام بحقه سنتي 1957 و1958.
تطالب عائلة بن يوسف باعتذار الدولة
وتابع بن يوسف: “ما نريده في المستقبل أن لا تكون الاغتيالات السياسية طريقة لحل الخلافات السياسية، حيث إن الآراء لا تلغى بمقتل شخص مثل صالح بن يوسف الذي كان يحمل لواءً ثوريًا وهذا اللواء لم يختف بمقتله”، وفق تعبيره.
يأمل العديد من التونسيين، بفتح هذه القضية، أن تتصالح الدولة مع ماضيها وتعتذر لضحاياها الذين يعدون بالآلاف في زمني حكم بورقيبة وبن علي، وأن تبدأ البلاد صفحة جديدة لا حقد فيها.