قبل أكثر من 7 سنوات، وبجرّة قلم من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، نُقلت تبعية جزيرتَي تيران وصنافير من غرب البحر الأحمر إلى شرقه، بعد موافقة الحكومة والبرلمان في مشهد مثير للجدل، وزادت مساحة المملكة بجهد مصري خالص بنحو 80 كيلومترًا بعد أيام فقط من تولي الأمير محمد بن سلمان ولاية العهد.
ومع ذلك، لم يطوَ الملف حتى اليوم على ما يبدو، فالسعودية -ومن خلفها “إسرائيل”- ترفض الوجود المصري على الجزيرتَين، ولم تخفِ غضبها واعتراضها على الصيغة المصرية لخطاب التسليم النهائي للجزيرتَين، ليعود إلى المشهد المصري الكثير من النكاية والتحسر عن نتاج اتفاقية دخلت حيز التنفيذ، وانطوت على خطوات تمهيدية لتطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب، ويضع السيسي وحكومته في مأزق توتر العلاقات مع الرياض، وهي العلاقات التي لا تنقصها عوامل التوتر في الكواليس على الأقل.
خلاف حول السيادة على الجزيرتَين
خلال زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى القاهرة في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أطلَّ شبح جزيرتَي تيران وصنافير برأسه، حيث جرى التوافق على تسريع مصر خطواتها النهائية لتسليم الجزيرتين رسميًا إلى المملكة، وشروعها في إعداد خطاب تسليم الجزيرتين وإرساله إلى الأطراف ذات الصلة في معاهدة السلام الموقعة بين مصر و”إسرائيل” عام 1979، برعاية أمريكية.
وفي وقت لم يتم فيه حسم الترتيبات الأمنية الملحقة في ظل الوضع الجديد للجزيرتين، أرسلت مصر قبل أيام نسخة أولية من خطاب التسليم النهائي للجزيرتين إلى السعودية، وهي خطوة يُفترض أنها روتينية تقضي بإرسال خطاب رسمي مصري إلى الأطراف ذات الصلة، قبل إيداع مصر خطاب نقل تبعية الجزيرتين في الأمم المتحدة، وهي الخطوة التي تأخرت فيها الإدارة المصرية منذ نحو عامين، في حين أودعت السعودية اتفاقية تعيين الحدود البحرية مع مصر لدى الأمم المتحدة في عام 2017.
كان من المفترض أن يعقب هذه الخطوة بحث الإجراءات المتعلقة بوضع قوات متعددة الجنسيات، لكن يبدو أن الصياغة المصرية الواردة في الخطاب قوبلت باعتراضات من جانب السعودية بسبب بعض المصطلحات المستخدمة في الخطاب، وتتعلق بالوضع الجديد للجزيرتين بعد انتقال السيادة السعودية عليهما بشكل كامل ورسمي.
وتدور الاعتراضات السعودية حول عبارتين متعلقتين بالترتيبات الأمنية والصلاحيات المصرية بشأن مضيق تيران والمنطقة المطلة عليه من الجانب المصري، وهي المنطقة التي أكدت القاهرة على استمرار تواجدها العسكري فيها لدواعي الأمن القومي، بناءً على تفاهمات توصلت إليها مصر مع الرياض مسبقًا.
ونصّت الرسالة التي وجّهتها مصر إلى السعودية على أن التفاهمات الملحقة بالاتفاق الموقع بين الرياض والقاهرة في عام 2016، نصّت على أن دخول الاتفاقية حيز التنفيذ لا ينهي مبررات حماية مصر لتلك المنطقة في إطار دواعي الأمن القومي ضمن مسؤولية مصر.
ولم تحظَ الصياغة المصرية للخطاب بقبول من الجانب السعودي الذي طلب إجراء تعديلات أكثر وضوحًا وتفصيلًا، تحدد أطر وحدود المسؤولية المصرية بعد فرض السعودية سيادتها على الجزيرتين في الذكرى الخمسين لحرب 6 أكتوبر، ونشر خريطة رسمية جديدة للمملكة تضمّ الجزيرتين ضمن حدودها البحرية، مع تغيير اسم “صنافير” إلى “صنافر”.
وجاء تسليم الجزيرتين للسعودية وموافقة البرلمان المصري على اتفاقية إعادة ترسيم الحدود، رغم صدور حكم نهائي من المحكمة الإدارية العليا المصرية في يناير/ كانون الثاني 2017 ببطلان توقيع الاتفاقية، وتسبّبت الاتفاقية التي وقعها البَلدان في أبريل/ نيسان 2016 بعد 11 جولة تفاوضية في احتجاجات وغضب شعبي بالشارع المصري، وأثارت اتهامات بتنازل حكومة السيسي عن الجزيرتين مقابل استمرار تدفق الأموال السعودية لمصر.
ومنذ عام 1950، كانت الجزيرتان تخضعان للحماية المصرية فقط بناء على طلب من الملك عبد العزيز آل سعود، وهذا ما تتفق عليه الحكومتان السعودية والمصرية، لكنّ معارضي الاتفاقية قالوا إن سيادة مصر على الجزيرتين تعود إلى اتفاقية موقعة عام 1906، أي قبل تأسيس السعودية بربع قرن تقريبًا.
وأيًّا يكن ما تثبته الوثائق من مصرية الجزيرتين بالدم والتاريخ والجغرافيا وحتى بالقانون، تبدو الرياض متمسكة بإتمام كافة الخطوات من الجانب المصري، وكذلك تبدو فكرة السيطرة على الجزر ذات الموقع الاستراتيجي جذابة للسعوديين، فالسيطرة على مدخل خليج العقبة تعني أن الرياض سوف تتمتع بالسيطرة الكاملة تقريبًا على البحر الأحمر، من مضيق باب المندب إلى قناة السويس.
وبإمكان الدولة التي تسيطر على الجزيرتين إغلاق حركة الملاحة باتجاه الخليج في حالات الحرب، وهو الأمر الذي تفتقده مصر بعد تسليم السيادة عليهما للسعودية، ويمكن أن يضعف موقفها العسكري في حال اندلاع أي صراع عسكري قادم مع “إسرائيل”.
اعتراض إسرائيلي.. لماذا؟
لم تكن السعودية الدولة الوحيدة المعترضة على هذا الخطاب، بل “إسرائيل” التي لم تثر أي اعتراض على نقل تبعية الجزيرتين من مصر إلى السعودية، ترفض هي الأخرى أي تواجد عسكري مصري بمضيق تيران والمنطقة المطلة عليه من الجانب المصري، وجاء اعتراضها مرتبطًا بعدم حسم الترتيبات الأمنية التي يفترض أن تحل محل الترتيبات التي تضمنتها اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية.
وتطلب “إسرائيل” اتفاقًا واضحًا مع مصر والسعودية برعاية أمريكية بشأن ترتيبات الأمن في تلك المنطقة بما لا يعرّض مصالحها للخطر، وهو الأمر الذي كان بالفعل محل نقاش موسع بين رئيس جهاز المخابرات العامة المصري عباس كامل ورئيس جهاز الشاباك الإسرائيلي رونين بار، خلال زيارة سرّية قام بها الأخير إلى القاهرة في 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2024.
ويرفض الاحتلال الإسرائيلي الوجود المصري في الجزيرتين، بداعي أنهما تخضعان لترتيبات متفق عليها ضمن المنطقة “ج” التي تضم الجزيرتين، والمحددة في الملحق الأمني لمعاهدة كامب ديفيد، والتي تنص على أن هذه المنطقة يحظر الوجود العسكري المصري فيها، وتتم مراقبتها عبر قوات حفظ السلام متعددة الجنسيات.
المثير للجدل أن الاتفاقية نفسها انتهكتها حكومة الاحتلال بعد احتلال محور فيلادلفيا أو ما يُعرف بمحور صلاح الدين، وهو شريط حدودي ضيّق يمتد بطول 14 كيلومترًا، ولا يتجاوز عرضه بضع مئات من الأمتار، لكن دون أي تحرك مصري لإجبار الاحتلال على الانسحاب من الممر بداعي أنه لا يمثل تهديدًا على مصر، رغم وقوعه ضمن منطقة عازلة ومنزوعة السلاح على الحدود بين قطاع غزة ومصر بموجب الاتفاقية وملحقاتها في اتفاقية المعابر التي أُبرمت مع انسحاب “إسرائيل” من قطاع غزة عام 2005، وتشترط أن يكون أي نشر للقوات أو التسليح بموافقة مسبقة من مصر.
وفي ظل توتر في العلاقات بين القاهرة وتل أبيب بعد فترة وُصفت بـ”الذهبية” في تاريخ العلاقات بينهما، حيث شهدت في عهد السيسي تنسيقًا أمنيًا غير مسبوق مع الاحتلال، بداية من هدم الأنفاق وحتى تهجير أهالي رفح المصرية، يأتي الاعتراض الإسرائيلي ليصبَّ الزيت على النار، وسط ترقب مصري لشروع الاحتلال مؤخرًا في إنشاء مواقع عسكرية على طول الخط الحدودي مع مصر، وتعبيد طريق محور فيلادلفيا وإنشاء طبقة إسمنتية عليه، فضلًا عن إنشاء محور موازٍ له يُطلق عليه اسم “ديفيد”، وهي خطوات اعتبرها مراقبون دليلًا على عدم نية الاحتلال الانسحاب قريبًا من المحور.
تاريخيًا، يكمن وجه اعتراض “إسرائيل” على الخطاب المصري في كون جزيرتا تيران وصنافير جزءًا من أي صراع معها، فقد ظلتا تحت الإدارة المصرية منذ عام 1950 بناء على طلب من السعودية لحمايتهما من تهديدات “إسرائيل”، لكن في عام 1967 أدّى التحرك المصري بإغلاق مضيق تيران ومنع “إسرائيل” من استخدامه كممرّ ملاحي إلى ميناء إيلات، إلى خنقها وعرقلة مرور بضائعها عبره، ما دفعها إلى شنّ الحرب في 5 يونيو/ حزيران في ذلك العام، والاستيلاء على الجزيرتين وسيناء.
- سفينة إسرائيلية تمرّ بمضيق تيران في يونيو/ حزيران 1967.
عززت سيطرة “إسرائيل” على الجزيرتين بعد الحرب من وزنها الاستراتيجي، وأكسبتها قدرات عسكرية عالية نتيجة السيطرة على هذا الممر الملاحي الأهم لخليج العقبة، ومنحتها أهمية استراتيجية في حرب السادس من أكتوبر 1973، وهو ما انعكس في إصرارها على تقليل الوجود العسكري المصري في الجزيرتين، والتمسك بأن تكونا منزوعتي السلاح تضم مراقبين دوليين بقيادة أمريكا، عقب إعادتهما إلى مصر بموجب اتفاقية كامب ديفيد.
وتتجسد القضية الحيوية الأخرى بالنسبة إلى “إسرائيل” في حساسية الجزيرتين، اللتين تقعان في منتصف الممر البحري المباشر الوحيد من “إسرائيل” إلى البحر الأحمر والأسواق في آسيا، ولهذا السبب حرمت اتفاقية كامب ديفيد مصر من الحق في وجود عسكري على الجزيرتين، والالتزام بضمان احترام مبدأ الملاحة دون عوائق في العقبة وإيلات، ومن الطبيعي أن ينطبق الحظر نفسه على السعودية التي ستتحمل مسؤولية الالتزام ببنود المعاهدة فيما يتعلق بالشحن الإسرائيلي عبر مضيق تيران، بعد استحواذها على الجزيرتين.
الجزيرتان الخاليتان من السكان باستثناء وجود قوات تابعة للجيش المصري، وقوات حفظ السلام متعددة الجنسيات منذ عام 1982 عندما انسحبت “إسرائيل” بموجب معاهدة السلام مع مصر، تتمتعان بموقع جغرافي استراتيجي، حيث تقعان عند مدخل مضيق تيران، الممر البحري الاستراتيجي الذي يربط خليج العقبة بالبحر الأحمر، والذي تستخدمه السفن الإسرائيلية للوصول إلى البحار المفتوحة، تمثلان منفذ “إسرائيل” الوحيد على البحر الأحمر، وبالتالي تتحكمان في حركة الملاحة الدولية فيه.
وتمثل طبيعة الدولة المسيطرة على الجزيرتين أهمية استراتيجية لـ”إسرائيل” على وجه الخصوص، إذ إن مضيق تيران يُعتبر الممر الملاحي الوحيد من ميناء إيلات إلى البحر الأحمر، ما يسمح بشحن البضائع من وإلى إفريقيا وآسيا دون الحاجة إلى المرور عبر قناة السويس المصرية، وقد يسمح لها بالتفكير بجدّية في حفر قناة بن غوريون، ونقل البضائع منها إلى ميناء حيفا، ونقلها بعد ذلك بالقطار كمسار بديل لقناة السويس.
ونظرًا إلى أهمية المضيق، فإن الشاغل الرئيسي لـ”إسرائيل” بشأن نقل السيادة هو ضمان حرية التنقل بالمضائق، واستمرار حرية الملاحة عبر البحر الأحمر إلى إيلات، ومن الناحية الفنية يضمن هذا الحق اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، ومع ذلك ونظرًا إلى الخبرة السابقة، فقد سعت “إسرائيل” إلى الحصول على تأكيدات مكتوبة من السعودية بأنها ستستمر في احترام هذا الحق.
كما طالبت “إسرائيل” بالتنسيق على المستويين الأمني والعسكري مع الرياض، كونها آلت إليها تبعية الجزيرتين، وهي الترتيبات التي تتطلب جلوس الرياض وتل أبيب على طاولة واحدة، ما اعتبره البعض مدخلًا للتطبيع الرسمي للعلاقات بين السعودية و”إسرائيل”، وهو التطور الذي من شأنه أن يخلف آثارًا استراتيجية كبيرة على البلدَين ومنطقة الشرق الأوسط بأكملها.
ومن الجدير بالذكر أنه على عكس مصر، ليس لدى الرياض اتفاقيات سلام أو معاهدات رسمية مع “إسرائيل”، وتفتقر، ظاهريًا على الأقل، إلى العلاقات الدبلوماسية معها، لكن مع اقتراب إنهاء ملف التطبيع بين الدولتين، لن يتوانى الاحتلال عن الشروع في تنفيذ قناة بن غوريون، الممر الاقتصادي الممتد من الهند حتى أوروبا مرورًا بشبه الجزيرة العربية و”إسرائيل”، خاصة مع تغير الواقع في غزة كثيرًا.
فمقاتلات دبابات الاحتلال لا تتوقف عن قتل وتهجير أهالي غزة، ولا تخفي “إسرائيل” نيتها إقامة منطقة عازلة في غزة وضمّ أراضٍ فلسطينية جديدة للاحتلال، ما يجعل تغيير مسار القناة أمرًا واردًا لتخفيض نفقات إنشائها وتقصير مدة العبور خلالها.
كذلك تفاوض “إسرائيل” لدفع ملفات أخرى مثل السماح لشركات الطيران الإسرائيلية لعبور المزيد من الأجواء السعودية لاختصار زمن الرحلات إلى الهند وتايلاند، كما تريد من السعودية السماح بتشغيل رحلات جوية مباشرة لنقل الحجاج المسلمين الإسرائيليين، وتأمل في أن يشمل النقل خطوات سعودية باتجاه تطبيع العلاقات.
ما وراء التردد المصري؟
في يونيو/ حزيران 2017، نشر مجلس الوزراء المصري تقريرًا حول اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية، وجاء فيه أن “الاتفاقية تنهي فقط الجزء الخاص بالسيادة، لكنها لا تنهي مبررات الحماية المصرية لهذه المنطقة لدواعي الأمن القومي المصري والسعودي في الوقت ذاته”.
ويشير تقرير مجلس الوزراء المصري إلى أن السعودية ترى ضرورة في بقاء الإدارة المصرية لحماية جزيرتي تيران وصنافير وحماية مدخل الخليج، حيث أقرت اتفاقية إعادة ترسيم الحدود بين البلدين ببقاء الدور المصري، إيمانًا بالدور الحيوي لمصر في تأمين الملاحة في خليج العقبة، وإن هذه الأسباب كانت ولا تزال وستستمر في المستقبل.
وذكر التقرير أن هناك فارقًا بين الملكية والسيادة، مشيرًا إلى أن ما تقوم به مصر لا يتعدى أعمال الإدارة بهدف تنظيم وحماية الجزيرتين وتيسير أمورهما، خصوصًا من النواحي الأمنية، دون وجود أي نية لفرض السيادة عليهما أو اعتبارهما جزءًا من أراضيها.
ووفقًا للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فإن التقارير الأخيرة تشير إلى أن مصر أوقفت تنفيذ اتفاق نقل السيادة على الجزيرتين الاستراتيجيتين في البحر الأحمر، في خطوة بدت مثيرة للجدل، مستشهدًا باختلافات فنية تتعلق بتركيب كاميرات مراقبة لتحلَّ محل القوات متعددة الجنسيات المتمركزة عليهما، من أجل الحفاظ على نزع السلاح ومراقبة النشاط التجاري والجاري في الجزيرتين، وكذلك في مضيق تيران، بعد مغادرة الجزيرتين.
الأمر نفسه نقله موقع “أكسيوس” الأمريكي عن 4 مسؤولين إسرائيليين ومصدر أمريكي في نهاية عام 2022، وذلك في تقرير أفاد بأن مصر بدأت تتقدم بتحفظات على بنود في الاتفاق معظمها فنية، وأنها تعطّل الصفقة بسبب قضايا ثنائية مع الولايات المتحدة بما في ذلك المساعدة العسكرية الأمريكية، مشيرًا إلى أن مستشار الأمن القومي الأمريكي جيكس سوليفان أكد خلال لقائه بالرئيس المصري في البيت الأبيض عام 2022 أن إدارة بايدن تريد تنفيذ الاتفاق.
طالبتها بالعودة لشرم الشيخ..
قوات حرس الحدود #السعودية تقوم بطرد 3 سفن سياحية مصرية من محيط جزيرتي تيران وصنافير، في ظل غياب تام لقوات حرس الحدود المصرية بالمنطقة، وفق صحيفة الأخبار اللبنانية pic.twitter.com/nwoXQvgeS2
— شبكة رصد (@RassdNewsN) July 14, 2021
ووفقًا لحقوقيين، لا يصحّ بعد تسليم الأرض لدولة أخرى، والاعتراف بأحقيتها في ملكيتها، التراجع عن ذلك بدعوى الاحتفاظ بها أمنيًا، فهذا الكلام كان يصحّ في البداية قبل توقيع اتفاقية ترسيم الحدود لكن هذا لم يحدث، ما لا يسمح للجانب المصري بالتواجد الأمني، ويُرجع البعض السبب في تسليم الجزر وهذا الوضع السيّئ للموقف المصري الآن، إلى التنازل عن هذه الجزر لصالح السعودية عن طريق ترسيم الحدود وقرار البرلمان.
وفي حال التراجع المصري عن الاتفاقية، والاعتراض على سيادة السعودية على الجزيرتين، ستكون الأخيرة في أي موقف أفضل قضائيًا، ويعني هذا محاولة لمنح السعودية مساحة لتقديم شكوى عن طريق الآليات الدولية سواء للأمم المتحدة أو محكمة العدل، والفوز بهذه الشكوى ليأتي تسليم هذه الجزر بحكم محكمة، وربما يكون هذا سيناريو متفق عليه ما بين النظام المصري والسعودي.
ثمن تيران وصنافير الخفي
في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ظهرت خريطة مصرية في خلفية لقاء جمع بين الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، جزيرتا تيران وصنافير ضمن حدود مصر، ومع ذلك تمتد الأسباب الكامنة وراء تردد السيسي إلى ما هو أبعد من هذه القضايا الفنية والشكلية، وفي جوهرها يكمن نزاع بين مصر والسعودية حول حزمة الدعم المالي والاقتصادي بمليارات الدولارات، كانت تتوقعها مصر من السعودية في شكل قروض واستثمارات لمساعدتها في التعامل مع الأزمة الاقتصادية الشديدة التي تواجهها حاليًا، مع مستويات غير مسبوقة من التضخم والديون الخارجية والفقر.
دي الصورة كامله وفيها خريطة القطر المصري وإللي بترجع لعصر الخديوي إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي باشا..
الخديوي عمل السجادة بمناسبة افتتاح قناة السويس ليأكد على حدود مصر واستقلالها عن العثمانين..
السجادة عمرها فوق الـ150 سنه pic.twitter.com/wWEV2KHIgF
— ғᴀʀʜᴀᴛᴏᴠ(𓋹) (@MamoodFarhat) October 16, 2024
وأبرز العديد من كبار المسؤولين السعوديين أن مثل هذه المساعدات لن تُقدَّم دون شروط، فعلى سبيل المثال تمّ تفسير تصريحات وزير المالية السعودي محمد الجدعان في منتدى دافوس في يناير/ كانون الثاني 2023، حيث أشار إلى أن السعودية تغير سياساتها المالية والاقتصادية تجاه حلفائها على نطاق واسع على أنها تلميح إلى مصر، التي تعتمد بشكل كبير على المساعدات السعودية منذ الانقلاب العسكري عام 2013 الذي أطاح بأول رئيس منتخب ديمقراطيًا محمد مرسي.
وليس سرًّا أن الرياض ضخّت على مدار العقد الماضي مليارات الدولارات في مصر لأسباب سياسية واستراتيجية واقتصادية، وهي خطوة لا يمكن فهمها إلا باعتبارها دعمًا للاستبداد والدكتاتورية في العالم العربي، بغض النظر عن الذرائع والمبررات.
ولا يبدو أن الرياض تقف مكتوفة الأيدي أمام توسع الإمارات المتزايد في مصر، وحتى لا تتفوق عليها نظيرتها الخليجية، وصل الاستثمار السعودي في مصر مؤخرًا إلى مستوى تاريخي بلغ 32 مليار دولار، ومنذ عام 2022 يستثمر صندوق الثروة السيادية السعودي، من خلال الشركة السعودية المصرية للاستثمار (SEIC)، مليارات الدولارات في شركات محلية في قطاعات الخدمات اللوجستية والكيميائية والمالية، بالإضافة إلى مليارات الدولارات في حزم المساعدات بهدف تعزيز الاقتصاد المصري.
#مصر أعلى الدول تلقيًا للمساعدات #السعودية حيث بلغت 32,488,683,703 دولار أمريكي.
(مركز الملك سلمان للإغاثة)
— أخبار السعودية (@SaudiNews50) July 13, 2024
في الواقع، عندما أعلن السيسي عن نقل الجزيرتين إلى السعودية في عام 2016، كان ذلك مصحوبًا باتفاقيات مالية واقتصادية ضخمة تمّ توقيعها بين البلدين، خلال زيارة رسمية استمرت 5 أيام للملك السعودي سلمان بن عبد العزيز إلى القاهرة في أبريل/ نيسان 2016، وتضمنت ما يقرب من 22 مليار دولار من المساعدات الاقتصادية والمالية والنفطية، ما دفع إلى التكهن بأن نقل الجزيرتين كان أحد مكونات حزمة الأموال السعودية.
ووفقًا للتفاهمات المصرية السعودية الجديدة، فإنه من المقرر أن توقع اتفاقيات خاصة بالاستثمار السعودي في منطقة رأس بناس، وهي شبه جزيرة كبيرة تتمتع بأهمية استراتيجية كبرى، وتمتد على شكل لسان بطول 50 كيلومترًا داخل البحر الأحمر، وتتبع لمحافظة البحر الأحمر المصرية، وتقع بين قناة السويس شمالًا ومضيق باب المندب جنوبًا ومضيق هرمز شرقًا، وتحتضن ميناء برنيس القديم بالإضافة إلى قاعدة عسكرية حديثة.
بموجب الاتفاقية، ستضخّ السعودية نحو 15 مليار دولار في الخزينة المصرية دفعة واحدة، لكن الخلاف الأخير بشأن تيران وصنافير قد يعرقل هذه الاتفاقية التي يحتاج إليها الاقتصاد المصري بشدة كجزء من جهودها لسدّ الفجوة المالية المتزايدة، ومواجهة أزمة ديون خارجية تجاوزت 160 مليار دولار.
ومع ذلك، لا تزال اتفاقية التنازل عن الجزيرتين تثير إشكاليات بين الرياض والقاهرة، ولا يرجع الجمود في المقام الأول إلى الانتقادات العامة الواسعة النطاق والرفض بين المصريين للتنازل عن الجزيرتين للسعودية، حيث يعتبرونهما جزءًا من أراضي مصر، بل إن المأزق هو نتيجة للخلافات السياسية والاقتصادية والمالية بين الرياض والقاهرة، والتي كانت تغلي على مدى الأشهر القليلة الماضية، فقد بدأت الحكومة السعودية في إعادة تقييم مساعداتها المالية لمصر، مع خطط لتحويل التركيز من المنح والودائع إلى الاستثمارات في الشركات والمؤسسات الحكومية.
وأدّى هذا التحول في السياسة إلى توترات بين البلدين في الأشهر الأخيرة، كما يتضح من الخلاف الإعلامي الذي شمل شخصيات بارزة من كلا الجانبين، لكن التوترات هدأت في ضوء التصريحات الأخيرة لمسؤولين من كلا البلدين، ومع ذلك يُعتقد أن السيسي يعيق نقل السيادة على الجزيرتين لممارسة الضغط على السعودية، وتحقيق فوائد اقتصادية ومالية يمكن أن تخفّف من الأزمة الاقتصادية الشديدة في مصر.
وفي سيناريو آخر يختلف عن احتمالية التراجع المصري عن الاتفاقية، لا يُستبعد أن تكون مصر في النهاية ملزمة بتعديل خطابها الموجّه إلى الرياض وتل أبيب بشأن التفريط الكلّي بالجزيرتين، وفي هذه الحالة ستواصل الحكومة قبض الثمن الظاهر للجزيرتين من خلال بيع الأصول العامة لجهات خليجية فاعلة دون أن تحيي أموالها الاقتصاد في الأمد البعيد، لتتبع بذلك رأس بناس خطوات منطقة رأس جميلة ورأس الحكمة، التي استحوذت عليها الإمارات مقابل 35 مليار دولار.
والواقع أن هذه الاستثمارات التي تقوم على المقايضة الإجبارية ليست الحل السحري لمشاكل الاقتصاد المصري، ويثير اعتماد السيسي الكبير على الديون الخارجية والمساعدات المالية والاقتصادية مخاوف بين المسؤولين السعوديين بشأن جدوى الاقتصاد المصري الذي يعاني من مشاكل هيكلية كبيرة، لا سيما في ظل المستوى غير المسبوق للدين الخارجي، فضلًا عن نقص الاستثمارات الأجنبية.
ويدرك المصريون أن ضخّ مليارات الدولارات في نظام فاشل تمامًا يديره الجيش، لن يؤدي إلا إلى زيادة ثراء الجنرالات ودفع البلاد إلى حافة الإفلاس، وأن هذه المكاسب المالية لن تجلب التغييرات البنيوية اللازمة لاقتصاد مصر لإنشاء مسار إيجابي مستقر أو تطوير مصدر مستدام للعملة الأجنبية التي تشتد الحاجة إليها، ويبقى أن نرى ما إذا كانت هذه الاستراتيجية ستنجح في تأمين الفوائد التي يريدها السيسي من السعودية.