كثير من أبناء القاهرة الذين لا يعرفون شيئًا عن طبيعة الحياة في الريف المصري، وقد كوّنوا رؤيتهم وتصورهم عن تفاصيل تلك الحياة من خلال المتحف الزراعي الذي يقع في منطقة الدقي بمحافظة الجيزة، إذ ظل عبر أجيال متوارثة توثيقًا لذاكرة مصر الزراعية والنافذة الأبرز التي تطل منها المراحل العمرية المختلفة على حضارة بلادها.
المتحف الذي أنشئ بقرار من مجلس الوزراء المصري عام 1929 وتم افتتاحه في يناير 1938 في عهد الملك فاروق ظل في مخيلة الأطفال والشباب النموذج الأكثر محاكاة لواقع النسبة العظمى من المصريين ممن يعيشون في الأقاليم والمناطق النائية، فلم يترك شاردة ولا واردة إلا ودونها عبر أشكال مجسمة، كانت كفيلة بأن تحفر في أذهان النشئ تاريخ بلدهم الزراعي.
وبعد ما يزيد على 80 عامًا على إنشاء المتحف الذي يعدّ الأول من نوعه في العالم ها هو شبح الإهمال والتشويه يداعب جدرانه المرصعة بلآلئ التاريخ وسط مخاوف من اللحاق بركب غيره من المعالم التراثية المشوّهة التي تطوي معها صفحات بيضاء بزعم التطوير والعصرنة.. فهل يلقى قلعة مصر الزراعية الأولى نفس المصير؟
توثيق الذاكرة المصرية
حين أنشئ هذا المتحف بسراي الأميرة فاطمة إسماعيل التي وهبتها للجامعة المصرية كان ينظر إليه حينها على أنه عمل وطني يوثق واحدة من الأعمدة التي قامت عليها الحضارة المصرية القديمة وهي الزراعة. ومن ثم لم يبخل عليه الملك فاروق، إذ خصص له مساحة تجاوزت الـ30 فدانًا أي ما يعادل 175 ألف متر مربع.
المكانة التاريخية للمتحف جاءت كونه أول متحف زراعي في العالم كله، إذ لم يسبق مصر رغم تعدد الحضارات وقتها أي دولة أخرى حتى تلك التي قامت في الأساس على الزراعة، كما يعدّ ثاني أهم مكان متخصص في توثيق الحضارة الزراعية على مستوى العالم بعد المتحف الزراعي الموجود في العاصمة المجرية بودابست.
حمل المتحف بداية الأمر اسم “متحف فؤاد الأول الزراعي” إلا أن اسمه تغير بعد ذلك ليصبح “المتحف الزراعي المصري” ويضم بين جنباته أكثر من متحف وليس واحدًا كما يعتقد البعض، فهناك متحف المجموعات العلمية ومتحف البهو العربي السوري ومتحف الصداقة المصرية الصينية ومتاحف أخرى متخصصة، ومن ثم استحق مكانته العالمية عن جدارة.
يتضمن المتحف معرضًا فنيًا رائعًا من الصور الفوتوغرافية والزيتية التي تجسد حياة الفلاح المصري وأساليب الزراعة التي استخدمها منذ قديم الأزل
جولة سريعة داخل المتحف كفيلة أن تقدم لك شرحًا كافيًا عن تاريخ الزراعة في مصر وتطورها بدءًا من عصر الفراعنة وحتى العصر الحديث، كما يعد قبلة للباحثين والعلماء والأكاديميين المتخصصين في مجال الدراسات الزراعية والبيطرية التاريخية، كونه ساحة كبيرة للبحث العلمي في هذه الأفرع.
تضم قلعة مصر الزراعية العديد من المقتنيات والتحف النادرة، هذا بخلاف النباتات التي انقرض بعضها، مثل نبات (البرساء) المقدس عند الفراعنة، هذا بخلاف العديد من النماذج المختلفة للآلات الزراعية القديمة مثل “المجرش” أو “آلة طحن الحبوب” التي يعود تاريخها إلى 15 ألف سنة.
كما يتضمن معرضًا فنيًا رائعًا من الصور الفوتوغرافية والزيتية التي تجسد حياة الفلاح المصري وأساليب الزراعة التي استخدمها منذ قديم الأزل، هذا بجانب التجسيد الحي لكيفية تطور خريطة مصر الزراعية وأبرز المحاصيل التي زرعها المصريون ودورهم في إثراء المجال الزراعي على مستوى العالم.
تجسيم لصناعة السلال في محافظة الفيوم
عقود من الإهمال
وقع المتحف الزراعي أسير فخاخ الإهمال والتجاهل من الدولة مثله مثل قطاع الزراعة بوجه عام، فبعد عقود طويلة من الريادة كانت مصر فيها مخزن العالم الأكبر، إذ بالحال بها ينتهي إلى واقع مزرٍ، فقد فيها المصريون ريادتهم وتقدمهم لحساب قوى أخرى لا يساوي عمر نشأتها في حساب الزمن لحظات.
تزامن هذا الإهمال مع توجه عام نحو الرهان على الرأسمالية والخصخصة والاتجاه إلى الكسب السريع، الأمر الذي دفع الملايين من أبناء الأقاليم إلى العزوف عن زراعة أراضيهم والتوجه إلى المدن الصناعية الجديدة أو السفر للخارج في محاولة للحاق بركب التقدم والتطور لا سيما في ظل ثورة الاتصالات الأخيرة التي أعادت تشكيل العقلية المجتمعية المصرية.
خلال السنوات الأخيرة تراجعت مكانة المتحف لدى شريحة كبيرة من المصريين، وصلت إلى جهل الكثير بمكانه الجغرافي بعدما كان قبلة لهم، وهو مؤشر فسره البعض بأنه محاولة متعمدة لتشويه هذا المعلم لصالح أجندات رأسمالية أخرى تستهدف استغلال هذا المكان في استثمارات جديدة.
الهدف الرئيسي من وراء خطة التطوير التي تبنتها الحكومة يتمثل في “الطمع في استغلال الحديقة التراثية وتحويلها لجراح خاص بغض النظر عما سيحدثه هذا الجراج من مخاطر علي البيئة المتحفية ومخاطر سيكون المتحف في غني عنها
حتى المهتمين بالشأن الإعلامي طرحوا العديد من علامات الاستفهام عن تجاهل الإعلام الرسمي وغير الرسمي لإمكانات المتحف والكف عن الترويج له مقارنة بغيره من المعالم الأثرية التراثية الأخرى، وصلت إلى حد عقد أحدهم مقارنة بالاهتمام المبذول تجاه المتحف الزراعي قياسًا بنظيره تجاه المعبد اليهودي وسط القاهرة.
وأمام ضغوط الشارع وبعض أعضاء البرلمان اضطرت الحكومة لإعادة النظر في إستراتيجية التعامل مع المتحف، واضعة خطة لتطويره بقيمة 22 مليون جنيه، ورغم وضاعة الرقم مقارنة بالمأمول العمل عليه في هذه المساحة الشاسعة، فإن تطورات الأحداث اللاحقة كشفت مؤامرة حقيقية تستهدف المتحف وتسعى إلى تقويضه وتشويه معالمه.
بعض الآلات الزراعية
تطوير يزيده قبحًا
أمين المتحف القومي للحضارة المصرية عبد الرحمن عثمان، في مقال له بصحيفة “المصريون” تحت عنوان “كفاكم هدمًا للتراث: مسلسل تدمير المتحف الزراعي” وصف خطة التطوير المزعومة بأنها “حق أريد به باطل” أو كما يقال في الأمثال الشعبية “كالذي وضع السم بالعسل”.
عثمان في مقاله أشار إلى أن “التطوير خطوة جيدة تلجأ إليها المتاحف لتطوير مجموعاتها المتحفية أو لزيادة مواردها من خلال استقطاب أعداد كبيرة من زوارها أو لتطبيق أنظمة حديثة في العرض المتحفي، ونحن نثمن ذلك إذا ما كانت الخطط المطروحة تستهدف ذلك بالفعل”.
وأضاف أنه إذا ما تم التدقيق سنجد أن المتحف خاويًا من أي تطوير، وتابع: “تابعت وبشدة رد اللجنة الوطنية المصرية للمجلس الدولي للمتاحف (أيكوم مصر) وهي اللجنة المتخصصة التي تمثل المجلس الدولي للمتاحف في مصر استنكارها لتوجهات التطوير غير الواضح للمتحف الزراعي وأن هذا التطوير سيهدر تراث المتحف ويدمره، بل ونادت الرأي العام للتصدي لمحاولات وزارة الزراعة لتدمير الحديقة التراثية وتحويلها لجراج سيارات ومرافق تخدم الزوار”.
تجسيم لهيكل أحد الحيوانات
أمين المتحف القومي كشف أن الهدف الرئيسي من وراء خطة التطوير التي تبنتها الحكومة يتمثل في “الطمع في استغلال الحديقة التراثية وتحويلها لجراح خاص بغض النظر عما سيحدثه هذا الجراج من مخاطر على البيئة المتحفية ومخاطر سيكون المتحف في غني عنها باعتبار أن الحديقة التراثية جزء من بيئة العرض المتحفي للمتحف وأن الملك فؤاد الأول قد ألحق بها مجموعة نادرة من النباتات والأشجار التي قتل كثير منها الإهمال وسيقتل ما تبقى إذا ما تم تدمير تلك الحديقة بغية التطوير”.
وفي المجمل.. رغم الأهمية التاريخية والمكانة الدولية للمتحف الزراعي المصري كونه التوثيق الأكثر تجسيدًا لحضارة مصر الزراعية، فإن الإهمال المتعمد والمؤامرات التي تحاك من بعض المنتفعين ربما تسدل الستار على واحد من أبرز معالم الدولة المصرية، وإن لم يتم تدارك الأمر عبر الضغوط الشعبية والمنظمات الزراعية والتراثية الدولية فربما يصبح هذا الكيان ليس إلا كلمات تدون على جدران التاريخ فحسب.