يفتتح صانع الأفلام إيفان غراي ديفيس فيلمه الوثائقي “إنها فتاة: الكلمات الثلاث الأكثر دموية في العالم“، بمشهدٍ لامرأةٍ هندية تقف وسط حقلٍ أخضر وتخبر بوجهٍ مبتسمٍ أنّها قتلت 8 من مواليدها عن طريق الخنق، لا شيءٍ سوى لأنّهم كانوا فتيات. فيما تُكمل بملامحها المبتسمة ذاتها متساءلةً: “لماذا نُبقي الفتيات على قيد الحياة إذا كانت تربيتهنّ ستجلب الصعاب؟”.
وبوجهٍ باردٍ تقرّ تلك المرأة أنّ النساء هنّ من يجلبن الحياة لأطفالهنّ ولهنّ الحقّ بأخذها إنْ أردنَ ذلك. فهي لا ترى خطئًا في تصرّفها الذي أفضى إلى قتل 8 فتياتٍ بريئات في محاولاتها للحصول على طفلٍ ذكرٍ واحد تمنحه الحقّ الكامل في الحياة دونًا عن أخواته جميعهنّ.
الفيلم الوثائقي “إنها فتاة” يتّبع ممارسات وأد وإجهاض الفتيات في كلٍّ من الهند والصين
لا تُعتبر تلك المرأة فريدةً أو غريبة. فثمّة أعدادٌ هائلة من النساء اللواتي يقتلنَ أطفالهنّ أو يجهضنَ أجنتهنّ تبعًا لجنسهم الأنثوي فقط. ولو كنتَ تعتقد أنّ وأد البنات قد اختفى وعفا عليه الزمن فمن الواضح أنّ عليك أنْ تُعيد النظر في اعتقادك ورأيك مجدّدًا.
قتلٌ قائمٌ على أساس الجنس
في الحقيقة، يُشير واحدٌ من أحدث التقارير الإحصائية في العالم إلى أنّ ثمّة أكثر من 23 مليون فتاة تمّ قتلهنّ منذ سبعينيات القرن الماضي نتيجة الإجهاض أو القتل الانتقائي بسبب الجنس. وبكلّ تأكيد فالفتيات هنّ الضحايا دومًا، سواء لأسباب اجتماعية أو دينية أو سياسية أو غيرها.
وقد كشفت الدراسة العالمية التي نُشرت قبل أيّام في مجلة وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة الأمريكية (PNAS) واستمرّ العمل عليها لمدة 5 سنوات أنّ عمليات الإجهاض بناءً على معايير الجنس أدت إلى تباينٍ كبيرٍ في نسب الفروقات بين الجنسين في 12 دولة من دول العالم، أوّلها الهند والصين، وتليها عددٌ من دول أوروبا والقوقاز مثل أرمينيا وألبانيا وأذربيجان وكوسوفو ومقدونيا وغيرها.
ثمّة أكثر من 23 مليون فتاة تمّ قتلهنّ منذ سبعينيات القرن الماضي نتيجة الإجهاض أو القتل الانتقائي بسبب الجنس
قانونيًا، يمكن استخدام مصطلح القتل المنظّم (Gendercide) لهذه الممارسات. لكنْ يرى البعض أنّه مصطلح محايد جنسيًا نظرًا لأنّه يشير إلى أنّ الضحايا قد يكونون ذكورًا أو إناثًا. وبالتالي، ظهرت في الأعوام الأخيرة مصطلحات أكثر تخصّصًا مثل قتل الأطفال أو الإجهاض الانتقائي بسبب الجنس أو قتل البنات وغيرها الكثير.
وفيما يُعتقد من وجهة نظر أنثروبولوجية أنّ قتل الأطفال كان معروفًا على مرّ التاريخ في مختلف المجتمعات والقارّات، على اختلاف تعقيداتها الثقافية أو تقدّمها الحضاري. إلّا أنّنا اليوم أمام أرقام مخيفة قد تنمّ عن الكثير من المشكلات المجتمعية والسياسية وتحمل معها عددًا كبيرًا من المخاطر والتعقيدات، سواء على مستوى المجتمعات الصغيرة أو العالم ككلّ.
أمّا عن الأسباب فقد اتّخذت على مرّ العصور أشكالًا مختلفة، منها التضحية بالطفل للآلهة أو قوى الطبيعة أو بسبب العوامل الاجتماعية كالفقر والمجاعات وغيرها من الظروف الصعبة. ومن جهةٍ أخرى، تُشير كتب التاريخ إلى أنّ قتل الأطفال كان يأتي كشكلٍ من أشكال “تحديد النسل بعد الولادة”. في بعض الجماعات يمكن أنْ يكون الفقر المدقع هو السبب وبالتالي يُقتل الذكور والإناث على حد سواء، أو قد يكون الدافع وراء ذلك خيبة الأمل والخوف من العار الاجتماعي الذي يشعر به الأب عند ولادة فتاةٍ له كما كان معروفًا عند العرب قبل الإسلام.
تُقتل الفتيات غالبًا إمّا لأسباب الفقر أو لأسباب الاكتظاظ السكّاني وسياسة الطفل الواحد
اليوم، بالرغم من أنّ قتل الأطفال والفتيات يكاد يختفي في العالم الغربي والدول المسلمة، إلّا أنّ الأرقام التي ذكرناها سابقًا تُخبرنا أنّ ثمّة أماكن أخرى في العالم لا تزال ترى في هذه الممارسة أمرًا عاديًا ورائجًا لا ضيرَ فيه. قد تكون أكثر الأسباب أساسيةً في ذلك هي الفقر والاكتظاظ السكّاني وسياسة الطفل الواحد، لا سيّما في الهند والصين.
وفي المجتمعات الأبوية، يُصبح من الطبيعي السماح للأبناء الذكور بالعيش دونًا عن البنات طالما كانت فكرة أنّ الذكر هو من سيحمل اسم أسرته ويدعمها اقتصاديًا حتى مماته فيما ستترك البنت عائلتها في عوزٍ تامّ خاصةً في ظلّ العادات والتقاليد التي تكلّف عوائل الفتيات مهورًا باهظةً جدًا حين إرسالهنّ لبيوت أزواجهنّ.
كثيرٌ من الرجال قليلٌ من النساء
بشكلٍ عام، يُتوقّع عادةً أنّ يكون لكلّ دولة نسبًا شبه متساوية بين كلٍّ من الجنسين؛ بحيث تصل النسبة إلى حوالي 105-108 مولود ذكر لكلّ 100 مولود أنثى. أمّا ما تخبرنا به الدراسة فيُشير فعليًا إلى وجود حالة من الفوضى العارمة في تركيبة المجتمعات في تلك الدول. اليوم، هناك تشوّه في النسبة الصحّية، وفي الصين والهند وحدهما يفوق عدد الرجال عددَ النساء بمقدار 70 مليون أو أكثر.
وبعيدًا عن لغة الأرقام، يؤدّي ذلك التفاوت إلى عددٍ من المشكلات الإنسانية والمجتمعية بكلّ تأكيد، مثل انتشار الشعور بالوحدة وتناقص أعداد النساء وتراجع معدّلات الخصوبة وخلل في أسواق العمل وزيادة في الاتّجار بالنساء والدعارة وجرائم العنف. عوضًا عن ذلك، يؤدي هذا التفاوت إلى ترسيخ القيم الأبوية التي تسيطر على تلك المجتمعات أكثر وأكثر، لا سيّما وأنها ستصبح مع الوقت مجتمعاتٍ من العازبين تعاني من أزمة حقيقية في الذكورة والرجولة.
يؤدّي التفاوت في أعداد الرجال والنساء إلى انتشار الشعور بالوحدة وتناقص أعداد النساء وتراجع معدّلات الخصوبة وخلل في أسواق العمل وزيادة في الاتّجار بالنساء والدعارة
فعلى سبيل المثال، تواجه أرمينيا ميلًا شائعًا ومنتشرًا لعمليّات الإجهاض الانتقائي بسبب الجنس بدءًا من الطفل الثاني، خاصة إنْ كان الطفل الأول بنتًا أيضًا. وتشير الأرقام إلى أكثر من 1400 عملية إجهاض من هذا النوع سنويًا. ووفقًا لممثل أرمينيا في صندوق الأمم المتحدة للسكان غاريك هايربيتيان فإنّ هذا الرقم يُشير إلى أنّ الدولة ستواجه خلال العقدين القادمين نقصًا حادًا في أعداد النساء ما يمكن أنْ يؤدّي إلى تراجع معدّلات الخصوبة.
وبحلول عام 2020 يمكن أن يكون هناك أكثر من 35 مليون شاب “فائض ذكور” في الصين و37 مليون شاب في الهند. وبحسب لي شوتشو، أستاذ الديمغرافيا في جامعة شيان جياوتونغ، فسيكون هناك الملايين من الرجال الذين لا يستطيعون الزواج، وهذا يمكن أن يشكل خطرًا كبيرًا على المجتمع قد يستغرق عقودًا طويلة حتى يستطيع التخلّص من تداعيات هذا التفاوت.
عوضًا عن ذلك، يُشير كتاب “كثيرٌ من الرجال، قليلٌ من النساء” إلى أنّ تداعيات التفاوت لن تبقى على المستوى الإقليمي وحسب، بل يمكن أنْ يكون لها آثارًا أمنية عالمية بحجة أن “المجتمعات ذات نسبة عالية من الذكور لديها ببساطة حسابات أمان مختلفة”، مستندًا على الروايات التاريخية حول فائض الذكور في المجتمعات من جهة والتمردات وارتفاع معدلات الجريمة والاتّجار بالنساء والاضطرابات الاجتماعية العامة من جهةٍ ثانية.
وعلى أنّ الكتاب يؤكّد في الوقت نفسه على أنّ تنبؤاته قد لا تكون دقيقة تمامًا، إلا أنه يرى أنّ أعدادًا كبيرة من الرجال غير المتزوجين يمكن أن يكون لهم “تأثير مشدد ومضخم لا لبس فيه” على القانون والنظام العام، وسيزيد من معدلات العنف المنزلي والسيطرة على النساء. ما يعني أنّ الأنثى في تلك المناطق ستبقى مستضعفة منذ لحظة تكوّنها في رحم أمّها وحتى لحظات موتها. وهو ما يستدعينا بالتساؤل في النهاية عن دور الحكومات في التحرّك ضدّ هذه الممارسات التي استمرّت لقرونٍ طويلة دون أنْ يمنعها أحد.