لا تزال منطقة دير الزور شرقي سوريا تعيش على صفيح ساخن، بعد إعلان إدارة العمليات العسكرية في المعارضة السورية سيطرتها الكاملة على المدينة ومطارها العسكري وريفها بشقيه الشرقي والغربي.
وأكدت إدارة العمليات أن دير الزور ومطارها أصبحا محرَّرَين بالكامل عقب انسحاب قوات “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) إلى مناطق شرقي نهر الفرات، وهروب قوات النظام والميليشيات الإيرانية من محيط المدينة وريفها.
سيطرة دون قتال
بعد سيطرة العمليات العسكرية على حلب وتقدمها تجاه حماة وحمص، تسلّمت “قسد” المنطقة ضمن اتفاق مع نظام الأسد المخلوع لعرقلة تقدم فصائل المعارضة، وباتت المنشآت الحكومية والمربع الأمني ومطار دير الزور العسكري ومستودعات عياش ثاني أكبر مستودعات أسلحة في سوريا، تحت سيطرة قواتها.
لكن سيطرة “قسد” على هذه المناطق لم تدم طويلًا مع توجيه العمليات العسكرية بوصلتها نحو المنطقة، ما دفع بـ”قسد” بالانسحاب والعودة إلى مواقعها القديمة نحو القرى السبعة المحيطة بالمدينة دير الزور دون أي معركة أو اشتباكات.
وبالتزامن مع تقدم إدارة العمليات العسكرية من محورَي حي البغيلية ودوار الدلة بناء على اتفاق، كانت دير الزور تشهد مظاهرات شعبية عارمة تطالب بخروج قوات “قسد”، رغم فرض الأخيرة حظر تجوال وتكثيف الدوريات، وهو ما أدّى إلى مقتل 10 أشخاص وإصابة نحو 20 آخرين.
ومنذ دخول “قسد” دير الزور أشاعت حالة الفوضى الأمنية، إذ نهبت مؤسسات الدولة والمخازن الموجودة في مطار دير الزور العسكري ومستودعات عياش، ونقلتها إلى مناطق سيطرتها شرق الفرات، كما تغاضت عن العصابات التي عاثت فسادًا في المدينة، ومارست عمليات السرقة والسطو على المؤسسات الحكومية والمنازل.
في مقابل ذلك، كان مجلس “هجين” العسكري التابع لمجلس دير الزور، إحدى الأذرع العسكرية لـ”قسد”، قد أعلن انشقاقه ودعمه لقوات المعارضة السورية، وهو مجلس يضمّ مقاتلين من عشيرة الشعيطات، ويسيطر على عدة مناطق من بلدة أبو حردوب وصولًا إلى الباغوز في ريف دير الزور الشرقي.
يشير الصحفي المتحدر من دير الزور إبراهيم الحسين، إلى أن انسحاب “قسد” تم بتنسيق سياسي وبرعاية أمريكية، فبعد انهيار دفاعات النظام في المحافظات السورية، خشيت الولايات المتحدة من أن تنهار قوات النظام في دير الزور، وبالتالي تظهر خلايا “داعش” في المنطقة وتمكن ميليشيات إيران نفسها أكثر في منطقة المعبر، فضلًا عن رغبة الولايات المتحدة في منع وصول الأسلحة والذخائر للمعارضة السورية.
مضيفًا لـ”نون بوست” أن نهر الفرات الذي يرسم حدود سيطرة “قسد” وسيطرة إدارة العمليات المعارضة، هو بحدّ ذاته غير مطمئن إن لم تتحرر المحافظة بكاملها شرقي الفرات وغربها، لا سيما في ظل توقف العمليات العسكرية للمعارضة عند النهر، فتحرير دير الزور يكسر ظهر المشروع الانفصالي التقسيمي الذي تقوده “قسد”، لأن دير الزور أكبر مدينة في المنطقة الشرقية السورية.
ومنعًا لعبور قوات المعارضة، دمّرت “قسد” جسرًا ترابيًا على نهر الفرات، يربط بين مدينة دير الزور المحررة حديثًا والقرى السبعة التي تسيطر عليها “قسد” بريف دير الزور الشمالي الشرقي، ويعدّ هذا الجسر آخر جسر يربط بين الضفة اليمنى والضفة اليسرى لنهر الفرات من الحدود العراقية حتى مدينة الرقة.
يعتبر الصحفي الحسين أن تفجير الجسر هدفه بالمرتبة الأولى ترسيخ الواقع الانفصالي لـ”قسد”، فهي تريد منطقة الجزيرة لها، وتريد استغلال خيرات المحافظة التي تقع على بحر من النفط والموارد المائية والزراعية، إضافة إلى قطع الطريق على قوات المعارضة التي باتت أمام خطوات من حقل العمر النفطي الذي تتمركز فيه قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن.
أهمية دير الزور
من المعلوم أن نهر الفرات يقسم المحافظة إلى منطقتين، منطقة شرق الفرات المعروفة بالشامية، والتي باتت تخضع لقوات إدارة العلميات العسكرية المعارضة، ومنطقة غرب الفرات المعروفة بالجزيرة، وهي تخضع لسيطرة “قسد” باستثناء جيوب صغيرة في غرب النهر، أبرزها القرى السبعة ممتدة بين الحسينية غربًا وخشام شرقًا.
ما يعني أن “قسد” اليوم باتت تسيطر على نحو نصف محافظة دير الزور، ضمن ما يعرف بخط الجزيرة السورية، حيث تضم أهم موارد النفط والغاز في سوريا، كما أن سيطرة “قسد” تمتدّ حتى كامل محافظة الحسكة والجزء الأكبر من محافظة الرقة وأجزاء من ريف حلب الشرقي.
تُعرف محافظة دير الزور بغناها بالموارد الطبيعية، مثل النفط والغاز، ما يجعلها العمود الفقري لاستقرار “قسد” المالي، والذي يعزز موطئ قدمها في المنطقة على المدى الطويل، فيما تضم حقولًا كثيرة، أضخمها على مستوى البلاد حقل العمر الخاضع للسيطرة الأمريكية والحليف الكردي، والذي ينتج يوميًا 80 ألف برميل، إضافة إلى حقول أخرى مثل حقل التنك (40 ألف برميل يوميًا) وحقل كونيكو (10 ملايين متر مكعب من الغاز الطبيعي)، وحقول أخرى مثل الورد والتيم اللذين كانت تديرهما روسيا، والحمار والحسيان اللذين كانت تديرهما إيران.
إضافة إلى ما سبق، فإن موقع محافظة دير الزور الاستراتيجي جعلها أبرز المناطق المحورية للقوى المتصارعة منذ اندلاع الثورة السورية، فهي بوابة العراق إلى سوريا، ومنطقة عبور حيوية للتجارة والنقل بين الشرق الأوسط وأوروبا، فيما تمتاز بتركيبتها العشائرية التي تلعب دورًا كبيرًا في التوازنات المحلية، والتحالفات القادرة على التحكم باستقرار المحافظة ككل.
في حديثه لـ”نون بوست”، يشير الباحث العسكري العقيد مالك الكردي، إلى أن السيطرة على دير الزور تعني استكمال حلم المعارضة بتوحيد الأراضي السورية، وهو هدف مهم للثورة السورية والعودة للوضع الجغرافي الطبيعي للدولة الأمّ، إضافة إلى أن امتياز المحافظة بالثروات الباطنية والسلال الغذائية والزراعية من القمح والقطن، والتي تعدّ اليوم الدولة الجديدة بأمسّ الحاجة إليها في ظل الانهيار الاقتصادي الذي تعانيه البلاد بعد سقوط النظام.
ويضيف الكردي أن بقاء المحافظة في حالة انقسام يرسّخ مشروع “قسد” في التقسيم والانفصال، مع الاستحواذ على الثروات التي تمكّن من استمرار هذا المشروع ولو على حساب أهل المنطقة الأصليين، وما انسحابها إلى حدود نهر الفرات غربًا وتدميرها الجسر الوحيد إلا لرغبة منها في رسم حدود دولتها المزعومة ونفوذها، بمساعدة كوادر قنديل الذين لا يشبهون المجتمع السوري إطلاقًا.
ما المستقبل؟
يبدو أن مستقبل دير الزور مرهون بالتفاهم التركي الأمريكي، إلا أن سيطرة المعارضة على كل المناطق غرب الفرات كمنبج وتل رفعت ودير الزور مع انحسار “قسد” في الجزء الشرقي، يعطي إشارات استفهام كبيرة حول السيناريو الذي يمكن أن يُبنى خلال الأيام القادمة.
في موازاة ذلك، فإن غياب أوراق الضغط لدى الحكومة السورية الجديدة لمطالبة الولايات المتحدة برفع يدها عن “قسد”، والدخول في مواجهة مباشرة معها لاستعادة الجزيرة السورية، لا تزال غائبة، مع الإشارة إلى استفادة الطرفين، “قسد” وحليفها الأمريكي”، من الثروات النفطية السورية، وما يمكن أن يتبع ذلك من مطالبات باستعادة هذه الموارد لصالح السوريين.
حسب تقرير لمركز الحوار السوري، فإن تحقيق التحرير الشامل في سوريا لا يمكن أن ينجح دون استعادة الموارد الوطنية التي تشكّل العمود الفقري لاقتصاد الدولة السورية المستقبلية، فحقول النفط والغاز في شرق الفرات تمثّل شريان حياة أساسيًا لسوريا كي تنهض اقتصاديًا بعد سنوات من الحرب، واستمرار هذه الموارد تحت سيطرة “قسد” والتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، يهدّد بتحويل سوريا إلى دولة فقيرة تعتمد على المساعدات الدولية بدلًا من إدارة مواردها بشكل مستقل.
يشير العقيد الكردي إلى أنه لا بدَّ من التأكيد على استعادة وحدة التراب السوري، لا لاعتبارات جغرافية، بل لأن القضية ترتبط بمستقبل سوريا الاقتصادي والاجتماعي، كما أن التحرير لا يمكن أن يقتصر على إسقاط النظام المخلوع، بل يجب أن يشمل التحرر من جميع المشاريع التي تهدد البلاد، وعلى رأسها مشروع “قسد”.
ختامًا، رغم موقف “قسد” المحرج اليوم في ظل محاصرتها من قوات المعارضة جنوبًا وغربًا، وتركيا شمالًا وإقليم كردستان حليف تركيا شرقًا، إلا أنها تصرّ على استفزاز السوريين ومنعهم من استكمال حلمهم في تحرير أرضهم والاستفادة من خيرات بلادهم التي تستفرد بها مستقوية بموقف حليفها الأمريكي، ما يعني أن مشهد الجزيرة السورية سيبقى معقدًا وضبابيًا وسط تجاهل المطالبات الشعبية بإخراج هذا الكيان المرتبط بحزب العمال الكردستاني، وقانونية إجراءات الدولة السورية الجديدة بتوحيد البلاد وتنظيفها من أي تنظيمات إرهابية.