ترجمة وتحرير: نون بوست
في شهر نيسان/ أبريل، سلّطت حوادث طرقات قاتلة الضوء على مصير العاملات الزراعيات في تونس. وتنتظر هؤلاء النساء، اللائي يمثلن يدًا عاملة منخفضة التكلفة ومستغلّة وغير مستقرة، تغيير ظروف معيشتهن وعملهن.
القيروان (تونس): “جاءت قناة تليفزيونية لزيارتي منذ سنتين، وأطلعت الصحفيين على المكان الذي أعيش فيه كما أفعل ذلك الآن … لكن لم تتغير أمور كثيرة”. لا تعرف منى عمري كم تبلغ من العمر، وكل ما تعلمه هو أنها بدأت العمل لمساعدة والديها في سن المراهقة، ولم تلتحق بالمدرسة. بظهر منحنٍ، تزرع منى شتلة من الفلفل في حقل بالقرب من قريتها “أولاد حمد”، التي لا تبعد كثيرًا عن مدينة القيروان، والتي تبعد 150 كيلومترًا عن العاصمة. وهذا اليوم الأول لاستئنافها العمل.
أرتنا منى معصمها الذي تغطيه الضمادات والبقع الزرقاء التي تكسوا ذراعها. يوم 26 نيسان/ أبريل، أصيبت برفقة تسع نساء عاملات في حادث سيارة أثناء تنقلهن إلى نابل، التي تبعد عن القيروان مسافة ساعتين، لقطف البرتقال. بعد بضعة أيام، تسبب حادث قاتل في سيدي بوزيد، في وسط البلاد، في مقتل 12 عاملة زراعية.
غالبًا ما تُقل “شاحنات الموت”، كما يطلق عليها الآن، حوالي 20 امرأة وأحيانًا 30، اللاتي يبقين واقفات دون أي تدابير لضمان سلامتهن
كشفت الضجة الشعبية والتغطية الإعلامية التي تلت هذه الحوادث ظروف العمل غير المستقرة لهؤلاء النساء، اللائي يمثلن حوالي 58 بالمائة من اليد العاملة الزراعية في البلاد. وقد صرحت منى: “كان السائق يقود بسرعة كبيرة، لا أريد أن أستقل شاحنته بعد الآن … حين يأتي المزارع لاصطحابنا، سيكون ذلك أفضل”.
غالبًا ما تُقل “شاحنات الموت”، كما يطلق عليها الآن، حوالي 20 امرأة وأحيانًا 30، اللاتي يبقين واقفات دون أي تدابير لضمان سلامتهن. وسواء كن يتبعن الزارعة المتحركة أو الموسمية، لا تمتلك العاملات أي طريقة أخرى للتنقل. وغالبًا ما يكون السائق من الأشخاص الذين يعرفهم أهل القرية وتثق به هؤلاء النساء أو وسيطًا يعثر لهن على عمل. وهنّ يدفعن له ما بين دينارين (0.60 سنتا) وأربعة دنانير (1.10 يورو) لكل رحلة، ويتم اقتطاع هذا المبلغ من أجرهن اليومي الذي لا يتجاوز 15 دينارًا (4.5 يورو).
حيال هذا الشأن، أوردت منى: “يكسب الرجال 25 دينارًا في اليوم، بينما نكسب نحن 12 دينارًا … لهذا السبب يوظف المزارعون المزيد من النساء. لقد جربت كل المهن الممكنة إلى حد الآن، على غرار منظفة في حمام، وحارسة، حتى أنني قمت بتجميع روث البقر في مزرعة، ليس لدي أي خيار إذا كنت أرغب في الاستمرار في البقاء على قيد الحياة”. في الاستوديو الذي تعيش فيه، يوجد مطبخ صغير وسرير وثلاجة. وذكرت منى بفخر: “هذه الليلة، سأعد الكسكسي للإفطار”. خلال شهر رمضان، تعمل النساء من الساعة الرابعة أو الخامسة صباحًا إلى الحادية عشر، كحد أقصى لتجنب الحرارة التي تنضاف إلى العمل الشاق.
ظروف حياة غير مستقرة
لم تتزوج ربح الماجري، البالغة من العمر 43 سنة. وها هي ترتدي قبعة مصنوعة من القش فوق وشاحها لحماية نفسها من الشمس. وعلى الرغم من أنها ترتدي قفازات للعمل، إلا أن يديها موحلة ومتورمة، ووجهها مسمرّ. تعتني هذه المرأة بأختها الكبرى المريضة وأمها الطاعنة في السن والضريرة. وداخل المنزل، توجد غرفة شبيهة بتلك التي تخص زميلتها في العمل منى. وتزين صورتان تعود إلى والديها الجدران الخالية من أي جمالية.
تعيش أختها في غرفة أخرى مع زوجها وابنتها، ويتمثل عملها في مساعدة طبيب في المستشفى بصفتها منظفة، وهي تكسب من هذا العمل 200 دينار شهريًا (ما يعادل 60 يورو)، أي أقل مما تكسبه ربح يوميًا. عند مدخل المنزل، قامت أختها بتركيب مرآة وأحضرت مجفف شعر وإكسسوارات للشعر. وتقول ربح: “إنها تحاول أن تكون مصففة شعر لزيادة الدخل”.
ربح أمام صالون حلاقة أختها المتواضع
انقطعت ربح عن الدراسة في المدرسة الإعدادية لمساعدة أسرتها، لكنها تعرف حقوقها جيدًا. وأوردت ربح: “يجب أن يتم ضمان الأمن والتغطية الاجتماعية لنا، لا يمكننا الاستمرار هكذا”. كل يوم يمر يكون مصدر قلق جديد، حيث ينبغي عليها العثور على الأدوية لشقيقتها الكبرى، ودفع حساب بائع الخضروات، والتمكن من دفع الفواتير، ما يعني أن كل مليم يتم كسبه ضروري لإدارة شؤون المنزل.
تعرف إسلام، البالغة من العمر 15 سنة، ذلك جيدًا. لقد كانت أصغر المصابين في حادثة القيروان، التي سببت لها كسرًا في الترقوة. وتقول إسلام بينما تخفض بصرها حين تشرح سبب وجودها في شاحنة في طريقها للعمل بدلاً من الذهاب إلى المدرسة الثانوية: “لدي خمسة إخوة وأخوات وأبي سائق أجرة جماعية، لقد أردت المساهمة”. انقطعت مؤخرًا عن الدراسة، وقد كان حلمها أن تصبح طبيبة.
مشاكل نقل واستغلال سبق وأن نُدد بها
منذ سنوات، تندد الجمعيات التي تدافع عن حقوق المرأة بظروف العمل واستغلال العاملات الزراعيات. وفي تحقيق أجرته الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات في سنة 2013، أبلغ المؤلفون عن حالة تبعث على القلق من عدم الاستقرار على مستوى ظروفهن، إذ “تؤكد شهادات النساء في هذا التحقيق الأطروحات التي لطالما أيدناها منذ فترة طويلة فيما يتعلق “بتأنيث الفقر” (أي أنه يتعلق بالنساء)، وعدم الاستقرار، والهشاشة التي تتخذ أشكالاً مختلفة، ولا سيما الحصول على مسكن لائق وحيازة ملكيته”.
منذ حوادث شهر نيسان/ أبريل، أصرت الحكومة على التدابير التي اتخذتها في إطار استراتيجية تستمر على مدة ثلاث سنوات، انطلاقا من 2017 ووصولا إلى 2020، بما في ذلك توفير الضمان الاجتماعي بواسطة تطبيق الهاتف المحمول “احميني”، الذي صممه شاب تونسي
في هذه الدراسة، لا يتجاوز المستوى الدراسي لما يقرب من 80 بالمئة من النساء اللائي تمت محاورتهن والبالغ عددهن 200 امرأة المدرسة الابتدائية، وتعمل 61 بالمئة منهن بصفة مؤقتة بينما 28 بالمئة فقط منهن يعملن بصفة دائمة. وتتمثل المهام الرئيسية للنساء في الحصاد واقتلاع الأعشاب الضارة وزراعة النباتات. لكن، تقوم الكثير منهن أيضًا بالمهام الموكلة عادة إلى الرجال، مثل حرث الأرض ونقل المنتجات.
تقول بختة القاضي جمور، التي شاركت في العمل الميداني، إنه “منذ هذه الدراسة، لم يتغير شيء يذكر وأخشى أن يستمر ذلك، لأننا أرسلنا العديد من الرسائل المفتوحة إلى الحكومة حول هذا الموضوع، دون الحصول على رد. ويتعلق الأمر بنظام كامل يقوم على الاستغلال والتمييز ويتواصل في عالم النشاط الزراعي منذ فترة طويلة”. وقد اهتم التقرير أيضًا بمهنة “الناقل” الجديدة التي تعتمد عليها هؤلاء النساء، واستشهد بالعديد من الحوادث المتعلقة بهذا النوع من النقل.
حسب هذا التقرير “تكشف نتائج التحقيق المتعلقة بوسائل النقل إلى مكان العمل عن حقيقة مريرة حول الظروف التي تمر بها النساء على امتداد المسافات المقطوعة، فقد صرحت 55 بالمئة من النساء بأنهن يُنقلن في شاحنات صغيرة (من نوع إيسوزو، 404 باشي وما إلى ذلك) أو في جرارات تجر عربات أو شاحنات صغيرة أو في حاويات شاحنات كبيرة. ويعكس هذا الرقم أهمية مراقبة تنظيمية أفضل لظروف العمل في المناطق الريفية. وترى نساء كثيرات من اللاتي تمت محاورتهن أنهن يُنقلهن “مثل الماشية””. لمدة أربع سنوات، سجلت منظمة المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية غير الحكومية سقوط حوالي 40 ضحية نتيجة هذه الحوادث وجرح 496 آخرين.
استراتيجية حكومية يعترض عليها المجتمع المدني
منذ حوادث شهر نيسان/ أبريل، أصرت الحكومة على التدابير التي اتخذتها في إطار استراتيجية تستمر على مدة ثلاث سنوات، انطلاقًا من 2017 ووصولًا إلى 2020، بما في ذلك توفير الضمان الاجتماعي بواسطة تطبيق الهاتف المحمول “احميني”، الذي صممه شاب تونسي. ويسمح هذا التطبيق باستخلاص اشتراكات الضمان الاجتماعي بالطريقة نفسها التي تعتمدها هؤلاء النساء لإضافة الرصيد إلى هواتفهن أو شحنها.
تسعى الحكومة إلى فرض المزيد من الرقابة على وسائل النقل المستخدمة، وفقا لما أثبتته عمليات ضبط الشاحنات في بعض الولايات بعد وقوع الحوادث
تشير مستشارة الحكومة هاجر صحراوي إلى أن “قيمة الاستخلاص تبلغ 17 دينارًا (أي ما يعادل خمسة يوروهات) ويمكن توزيعها على مدار شهر كامل … ولا يتعين على النساء تسديد كل المبلغ دفعة واحدة”. ويعتبر برنامج “احميني” موضوع حملة توعية واسعة النطاق انطلقت في بداية شهر رمضان. ووفقًا لوزارة الشؤون الاجتماعية، تم تسجيل 1836 عاملة زراعة وتهدف الحكومة إلى بلوغ 170 ألف امرأة بحلول شهر تموز/ يوليو 2019.
كما تسعى الحكومة إلى فرض المزيد من الرقابة على وسائل النقل المستخدمة، وفقا لما أثبتته عمليات ضبط الشاحنات في بعض الولايات بعد وقوع الحوادث. لكن ما زال المجتمع المدني متشككًا. وبينت بختة القاضي جمور أن “هذه الإجراءات ليست سوى مجرد ضمادات لإخفاء الجروح، في المقابل يجب معالجة المشاكل العميقة، ووضع تدابير خاصة بهؤلاء النساء في الميزانيات السنوية”.
تكاد مشكلة النقل أن تكون صعبة المعالجة. ففي يوم وصولنا إلى القيروان، جد حادث طريق جديد شمل عاملات زراعيات في السبيخة هذه المرة، التي لا تبعد كثيرًا عن “أولاد حمد”. فمن الإفراط في السرعة إلى الحمولة الزائدة فضلًا عن غياب رقابة السلطات، يُخالف الناقلون القواعد بصفة منتظمة. وأضافت منى: “عندما نستقل الشاحنات، تكون لدينا بطانية. وحين نمر بالقرب من الحرس الوطني، فإن السائق يطلب منا أن ننحني ونختبئ”.
فيما يتعلق بسيدي بوزيد، تبدو المشكلة أكثر تعقيدًا، حيث تعتمد النساء على سائقهن لاصطحابهن خارج مسارات القرى الجبلية التي يعيشون فيها. ليس لديهن أي حل آخر، ويستخدم الأطفال وسيلة النقل هذه للذهاب إلى المدرسة أيضًا. “الكثير منهن لا يرغبن في استعمال وسيلة نقل شخص لا يعرفنه. وبما أنهن يغادرن في الثالثة صباحًا، فإن مشكلة النقل ليست أمنية فحسب، بل هي أيضًا اجتماعية وثقافية”، وذلك وفقًا لتعليق هاجر صحراوي.
المصدر: ميديابار