يحتفل العالم سنويًا باليوم العالمي للمتاحف الموافق 18 مايو، منذ عام 1977، وتبدو هذه المناسبة كفرصة لتجديد اهتمام المجتمعات بتاريخها الثقافي وتذكيرهم بأهمية دورها في توثيق تاريخ الحضارات القديمة والأحداث التاريخية وما نتج عنها من إنجازات مثيرة للإعجاب والفخر.
وفي السياق العربي، نرى أن المتاحف فقدت مكانتها لسنواتٍ طويلة بسبب النزاعات والفساد والإهمال الذي شهدته عواصم ثقافية ازدهرت في القرن العشرين مثل دمشق والقاهرة، لكن في الأونة الأخيرة يبدو أن بعض دول الخليج تتهافت على بنائها وإعادة إحياء وظائفها الأساسية، وهو ما يثير التساؤلات حول الدافع والسياق.
إذا نظرنا بدقة إلى الدوافع والتكاليف التي تنطوي على هذه المشاريع التي قادتها السعودية والإمارات في السنوات الأخيرة، فسنجد أن مبادراتهم خضعت للانتقادات والاتهامات لأسباب عديدة سنتناولها في هذا المقال.
ثورة ثقافية وفنية بمئات الملايين في السعودية والإمارات
كما ذكرنا سابقًا، فأن منطقة الشرق الأوسط لم تكن مركزًا لانطلاق وانتعاش الفنون والثقافة، ولكن خلال العقدين الماضيين، استثمر عدد لا بأس به من الدول العربية في هذا القطاع مثل الأردن وقطر والسعودية والإمارات، ولا سيما الأخيرة. إذ أفادت بعض التقارير بأن الإمارات ساهمت في إثراء المشهد الفني والثقافي في المنطقة منذ الثمانينيات، إذ كان لديها جناح دائم في المعرض الدولي للفنون “La Biennale di Venezia” في البندقية، وكانت دومًا سباقة في احتضان مبادرات التسامح والمعارض الموسمية المؤقتة التي تستعرض ملامح من الثقافة والتاريخ العربي.
محمد بن راشد ومحمد بن زايد يزوران متحف اللوفر أبوظبي
استمر الدعم الحكومي بشكل متقطع للفنون والثقافة إلى حد 2007، حين أعلنت القيادة الإماراتية عن بناء 3 متاحف رئيسية في جزيرة السعديات بالتعاون مع المتحف البريطاني، وهم: متحف اللوفر والشيخ زايد الوطني وجوجنهايم، وهي مشاريع تبلغ قيمتها 27 مليار دولار. وكان من المفترض أن يفتتح المتحف الأول (اللوفر) في 2012، لكن الأمور لم تجري كما خُطط لها بسبب تراجع أسعار النفط وتأثير الأزمة المالية العالمية التي ضربت الموازنات الاقتصادية في العام 2008. وقد فتحت الإمارات أبواب اللوفر لأول مرة قبل عامين فقط تقريبًا.
ومع ذلك، نجحت في إبهار العالم بهندسته المعمارية العظيمة وزخارفه الإسلامية المتقنة، فلقد أشاد به رؤساء العالم مثل الرئيس الفرنسي ماكرون ووصفته المنابر الإعلامية الغربية مثل واشنطن بوست بكونه أكثر المؤسسات الفنية تقديرًا في أوروبا، فهو يحتوي على نحو 600 عمل فني، بالإضافة إلى 300 عمل آخر تم استعارتهم من فرنسا مؤقتًا، كما يضم 55 غرفة و23 صالة عرض دائمة.
خلال زيارة الرئيس الفرنسي إيمانيول ماكرون وزوجته لمتحف اللوفر أبو ظبي
تجاوزت التكلفة النهائية للمشروع أكثر من مليار دولار أمريكي، إلى جانب مئات الملايين الأخرى التي تدفعها الإمارات لفرنسا مقابل استخدام اسم المتحف واستعارة بعض القطع الفنية الأصلية، وبالرغم من تعرض السلطات إلى الانتقادات بسبب المبالغة في التكاليف، إلا أن العائلة الحاكمة لا تزال تنفق الملايين لتعزيز تطلعاتها في تحويل بلادها إلى “منارة ثقافية” لكي تصبح مركز الثقافة والفن المعاصر في الشرق الأوسط.
بدأت السعودية منذ عام 2010 ببناء 5 متاحف جديدة وتجديد 6 آخرين بميزانية بلغت أكثر من 38 مليون دولار أمريكي
أما فيما يخص السعودية، فقد أعلنت المملكة سابقًا أن رؤيتها الاقتصادية لعام 2030 تتضمن زيادة عدد المتاحف من 155 إلى 241، ولذلك توصلت مع فرنسا إلى اتفاق مدته 10 سنوات من أجل الاستثمار في مشاريع سياحية وثقافية، من أهمها وأكثرها طموحًا هو بناء متحف عالمي يفوق “اللوفر أبو ظبي” حجمًا بـ3 أضعاف، وبميزانية قد تبلغ نحو 100 مليون دولار سنويًا.
ويذكر أن السعودية بدأت منذ عام 2010 ببناء 5 متاحف جديدة إضافة لتجديد 6 آخرين بميزانية بلغت أكثر من 38 مليون دولار أمريكي. وكانت قد أبرمت اتفاقًا مع مجموعة من الخبراء الأمريكيين في المملكة لمعاينة مركز الملك عبد العزيز للثقافة وتحويله إلى متحف عملاق بالدعم من شركة أرامكو للنفط، بمبلغ وصل إلى 400 مليون دولار، الأمر الذي دفع مجلة تايم الأمريكية لتسميته بواحد من “أعظم الأماكن في العالم لعام 2018”. بالنهاية، تدفعنا هذه الأرقام الهائلة والصفقات المختلفة إلى طرح سؤال آخر وهو: ما سر هذه الاهتمام؟
حقيقة الاستثمارات الإماراتية والسعودية الثقافية
يعزو الكثيرون نمو الاستثمارات الثقافية والفنية في الخليج لمجرد الازدهار وتحويل نظامه الاقتصادي، الذي يعتمد بشكل شبه كامل على عائدات النفط، إلى قطاع السياحة وبالتالي جذب المزيد من السياح والزوار الأجانب إلى بلدانها. ولكن إذا نظرنا إلى التحديات الأخيرة التي واجهتها المنطقة خلال العقدين الماضيين، نستنتج أن هذا الاهتمام يتجاوز المخاوف الاقتصادية ولا سيما عقب أحداث 11 سبتمبر.
إذ وضعت الحرب العالمية على الإرهاب الإمارات والسعودية في خانة الاتهام بعد انتشار العديد من التقارير والتحقيقات التي اتهمتهما بشكل مباشر ومتكرر بتنسيق وتمويل هذه الهجمات الإرهابية، ما أدى إلى تشويه صورتهما على المسرح العالمي وفقدان الثقة تمامًا بسياساتهما. وذلك بالإضافة إلى تدهور الوضع الحقوقي في كلتا الدولتين وتصاعد المطالب الدولية بتسليط الضوء على الانتهاكات التي تمارسانها على المعارضين السياسيين. إلى جانب دعمهما للجماعات المسلحة المتطرفة في العراق وسوريا، وشنها الحرب على اليمن وتسببها بأزمة إنسانية هناك.
الأمير السعودي، محمد بن سلمان، مع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في متحف اللوفر بباريس
وبالتالي، يصبح نمو المشهد الفني الحديث والمعاصر أكثر ارتباطًا بالأحداث التي تزعزع استقرار الدولتين أكثر من ارتباطه بالرؤى الاقتصادية والتطويرية، فهي تسعى جاهدةً لتحدي ودحض الروايات العالمية التي تسيء إلى سمعتها ومكانتها بين دول العالم، وليس هناك طريقة أفضل من المؤسسات الفنية والثقافية لإثارة إعجاب العالم وتعظيم صورة السلطات الحاكمة على اعتبار أنها واحدة من أكثر الدول في العالم انفتاحًا وتحضرًا.
قطعت العديد من الفعاليات الفنية والمتاحف علاقتها مع السعودية التي كانت ترعاها وتمولها المملكة بحجة تعزيز الحوار بين الثقافات، وأبرزها متحف متروبوليتان للفن ومعاهد أخرى في مانهاتن، بالإضافة إلى أحد المعارض في متحف بروكلين
يؤكد ذلك، ما نشرته إحدى التقارير حول الاتفاق الفرنسي السعودي بشأن بناء مراكز ثقافية وفنية في أنحاء المملكة، والذي قال: “لا تمنح هذه الاتفاقية الحياة للمشروعات الثقافية فقط، وإنما تمنح المصداقية لصورة المملكة السعودية الجديدة”، لكن بالرغم من هذه المحاولات، اقترفت السعودية خطأ لم يغُفر لها عندما اغتالت الصحفي السعودي، جمال خاشقجي.
على إثر هذه الجريمة، قطعت العديد من الفعاليات الفنية والمتاحف علاقتها مع السعودية التي كانت ترعاها وتمولها المملكة بحجة تعزيز الحوار بين الثقافات، وأبرزها متحف متروبوليتان للفن ومعاهد أخرى في مانهاتن، بالإضافة إلى أحد المعارض في متحف بروكلين الذي كان يحمل عنوان “سوريا: الماضي والحاضر.. قصص لاجئين على مدى قرن”، ورفض التمويل السعودي بعدما أدرك العاملون على المشروع بأن إنفاق المملكة على المشاريع الفنية والدبلوماسية الثقافية الدولية يهدف إلى التغطية على سقطات وانتهاكات العائلة الحاكمة. في المقابل، لم تتخذ المؤسسات الثقافية الفرنسية الإجراءات ذاتها واحتفظت بموقفها المؤيد للمملكة.
وربما يفسر جزئيًا هذا التسلسل الكثيف للأحداث سبب ركض كل من الإمارات والسعودية خلف المزادات الفنية والمعارض والفعاليات الثقافية التي ترفع مكانتها عاليًا في عالم الثقافة، كمحاولة لتلميع وجوههم الثقافية والفكرية وسط انتهاكات عديدة في مجال حقوق الإنسان وحرية التعبير والممارسات الفكرية.