ترجمة وتحرير: نون بوست
توافد الناس بالآلاف في اليوم التالي لوصول الثوار إلى دمشق، وتسابقوا على امتداد الطريق الذي كان مقفرًا ذات يوم، وصعدوا ممرًا متعرجًا محفورًا في سفح التلال الكلسية وعبر البوابات المعدنية الشاهقة للسجن الأكثر شهرة في سوريا، وغمروا القاعات المصطفة بالزنزانات بحثاً عن أحبائهم الذين اختفوا في ثقب سجون التعذيب الأسود في ظل حكومة بشار الأسد.
فتش البعض في مكاتب سجن صيدنايا بحثًا عن خرائط المبنى وسجلات السجناء، دفعت إحدى النساء صورة لابنها المفقود نحو الآخرين المارين في المكان، على أمل أن يكون أحدهم قد عثر عليه، وتوسلت قائلة: “هل تعرفونه عليه؟ من فضلكم، من فضلكم، هل رأيتموه؟”.
في قاعة تؤدي إلى أحد الأقسام؛ كان هناك عشرات الرجال يحملون مطارق ثقيلة ومعاول يخرقون الأرضية، مقتنعين بوجود زنزانات سرية بها المزيد من السجناء في أعماق الأرض، وتكاثرت الحشود من حولهم بينما كان الناس يتدافعون لرؤية ما وجدوه، ولم يتوقفوا إلا عندما سقطة الغارة الجوية الإسرائيلية على مقربة كافية لتهز جدران السجن.
صرخ أحد الرجال، أحمد حجاني، 23 عامًا، قائلًا: “تراجعوا، تراجعوا! دعوهم يعملوا!”.
منذ أن أطاح ائتلاف الثوار بحكومة الأسد الأسبوع الماضي، وفكّ القيود عن بلد حكمته القبضة الحديدية لعائلة الأسد لأكثر من 60 عامًا، خرج آلاف السوريين في العاصمة دمشق إلى الشوارع للاحتفال بالحرية الجديدة التي اكتسبتها المدينة.
غير أنه في خضم الاحتفالات، وجدت البلاد نفسها أيضاً في الفصل الافتتاحي لتصفية الحسابات بشأن الفظائع التي عانى منها السوريون في جميع أنحاء البلاد في ظل حكومة الأسد؛ حيث وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه مع شبكة السجون ومراكز الشرطة وغرف التعذيب التي كانت مركز الحكم الوحشي لعائلته.
في تلك الفترة، ابتلعت أجهزة الأسد الأمنية الضخمة مئات الآلاف من السوريين، وعلى مدى السنوات الثلاث عشر الماضية، بعد فشل انتفاضة الثوار والحرب الأهلية التي أعقبتها، استخدم الأسد أذرع هذا النظام الطويلة كما لم يحدث من قبل للقضاء على كل ذرة من المعارضة.
وقام النظام باختطاف المتظاهرين والنشطاء والصحفيين والأطباء وعمال الإغاثة والطلاب من محلاتهم التجارية وقاعات الدراسة في الجامعات ومن سياراتهم عند نقاط التفتيش من قبل الشرطة السرية، ولم يسمع عنهم أحد بعد ذلك.
وانتهى المطاف بالعديد منهم في صيدنايا، السجن سيء السمعة في ضواحي دمشق والذي كان في كثير من الأحيان آخر مكان يُلقى فيه المعتقلون بعد أشهر من الاستجواب في مراكز الاعتقال الأخرى، وأصبح السجن المترامي الأطراف ذو الأجنحة الثلاثة رمزًا مؤلمًا لقسوة الأسد ومركزًا لبعض أسوأ الفظائع التي ارتكبت خلال فترة حكمه.
وقد تم حشر عشرات الآلاف من الأشخاص في الزنازين المكتظة، وتعرضوا للتعذيب والضرب والحرمان من الطعام والماء، وقُتل أكثر من 30,000 معتقل، وأعدم العديد منهم في عمليات شنق جماعية، وفقاً لجماعات حقوق الإنسان، ووصفت منظمة العفو الدولية صيدنايا بـ”المسلخ البشري“.
وعاش أقاربهم في حالة من التيه المؤلم لسنوات، غير متأكدين مما إذا كان أحباؤهم على قيد الحياة، كانوا يذهبون إلى المسؤولين الأمنيين المحليين كل بضعة أشهر ليتوسلوا للحصول على معلومات ويدفعون آلاف الدولارات كرشاوى للمسؤولين الحكوميين لتعقب مكان وجود أقاربهم، وإذا أخبرهم ضباط الأمن أن أقاربهم المختفين قد ماتوا، كان الكثيرون يرفضون تصديقهم.
وقالت إحدى السيدات، واسمها عزيزة محمد ديك، عن المسؤولين في حكومة الأسد: “كانوا كاذبين، كانوا جميعاً كاذبين”.
أما بالنسبة للأقارب الذين لم يحصلوا على أي دليل على مقتل أبنائهم أو أشقائهم أو أزواجهم، فقد تشبثوا بالأمل في أن يكونوا قد نجوا بطريقة ما من الموت، وهكذا، بعد أن اجتاح الثوار دمشق الأسبوع الماضي، وهرعت حشود من الناس إلى السجون ومراكز الاحتجاز في جميع أنحاء البلاد.
وقد حظي عدد قليل منهم بلم الشمل المليء بالدموع الذي طالما حلموا به، ولا يزال كثيرون آخرون يبحثون، ويمشون على الأرضيات الملطخة بالبراز في زنازين السجون، حيث يقول المعتقلون المفرج عنهم حديثاً إنهم كانوا يتوسلون الموت.
ومع مرور الأسبوع، أُجبر الآلاف على مواجهة احتمال لطالما استبعدوه من أذهانهم: قد لا يعود أحباؤهم إلى ديارهم، على الأقل ليس على قيد الحياة.
وقال بسام بيطاف، 38 عامًا، وهو يقف خارج صيدنايا: “لقد فقدت 40 شخصًا من عائلتي، يجب أن أعرف أين هم، أين اختفوا؟ ماذا حدث لهم؟ لماذا لا نستطيع العثور عليهم؟”.
السجن
كان سجن صيدنايا أكثر سجون التعذيب رعبًا في عهد نظام الأسد، كانت التقارير التي تتحدث عن تعرض المعتقلين للضرب والتجويع والدماء وتكسير العظام مرعبة لدرجة أن قلة في دمشق تجرأت على النطق باسمه خلال حكم الأسد.
يقع المبنى نفسه على قمة تلة في ضواحي المدينة، محاطًا بصفوف فوق صفوف من الأسوار الحديدية والجدران الخرسانية المغطاة بالأسلاك الشائكة، وفي صباح يوم الإثنين، كانت الأحراش خارج السجن مشتعلة؛ حيث أضرم المتمردون النار في الحقول قبل يوم واحد، على أمل أن تؤدي الحرارة إلى تفجير الألغام الأرضية المنتشرة على سفح التل.
ولكن في وقت لاحق من عصر ذلك اليوم، جذب صوت انفجار لغم أرضي صاخب حشدًا من الناس إلى أعلى الجرف بحثًا عما حدث، وبعد ساعات، هرعت الحشود إلى الجرف مرة أخرى لإلقاء نظرة على سحب الدخان الناجمة عن الغارات الجوية الإسرائيلية التي دكت قمة تل من بعيد، والتي تقول إسرائيل إنها جزء من جهودها لتدمير الأسلحة والمنشآت العسكرية لإبقائها بعيدة عن أيدي المتطرفين الإسلاميين.
وقد تم إطلاق سراح معظم السجناء في صيدنايا في وقت مبكر من يوم الأحد الماضي مع اجتياح المتمردين للعاصمة وفرار الضباط في السجن، لكن الشائعات استمرت عن وجود قسم سري تحت الأرض، يُعرف باسم “الجناح الأحمر”؛ حيث قد يكون هناك المزيد من السجناء الذين ما زالوا على قيد الحياة.
وقال غسان الدبس، 63 عامًا، وهو يسير إلى جانب الحشود: “يقولون إنه يتكون من ثلاثة طوابق تحت الأرض. ماذا لو نفد منهم الهواء؟ كيف سينجون؟”.
كانت هذه زيارته الثانية للسجن في غضون يومين بحثًا عن ابنه ماهر الدبس الذي اعتُقل في سن السادسة عشرة في عام 2014 أثناء زيارته لعمه في بلدة صحنايا الواقعة على الطرف الجنوبي لدمشق.
وقال والده إن الشرطة أوقفت ماهر عند نقطة تفتيش أثناء عودته إلى المدينة واتهمته بزيارة قوات المعارضة في أقصى الجنوب في درعا، وهي بلدة قريبة من الحدود السورية الأردنية، ثم اتصل ضابط شرطة بوالده وطلب مبلغ 1000 دولار أمريكي مقابل إطلاق سراح ابنه، ولم يكن لدى الدبس المال، ولم يسمع عن ابنه منذ ذلك الحين.
وأوضح قائلاً: “لم أفقد الأمل أبدًا”، وتوقف لفترة وجيزة لالتقاط أنفاسه واتكأ بيده على سيارة متوقفة ليثبت نفسه، وتابع: “لطالما كان لدي أمل، لأن ابني بريء والتهم الموجهة إليه ليست حقيقية”.
مثل الآلاف من حوله، ترك الدبس سيارته على بعد ميلين من مدخل السجن ووصل سيرًا على الأقدام، التف حول السيارات العالقة في زحمة السيارات، ومرّ برجل يصلي في الجزء الخلفي من شاحنته الصغيرة، وكان الطريق مزدحماً جدًا لدرجة أنه لم يستطع أن يضع سجادة الصلاة، كما مر بمجموعة من النساء يبكين رافعات أكفهن ويصرخن مناجيات الله.
كان المتمردون الذين يرتدون زيًا عسكريًا غير متطابق منتشرين في جميع أنحاء الحشد، كان بعضهم يحاول توجيه حركة المرور، وكان آخرون يشقون طريقهم إلى السجن أيضًا بحثًا عن أحبائهم المفقودين.
في السجن، كان الناس يتجولون في متاهة الممرات ويطرقون الأرض بشكل عشوائي على أمل سماع صدى صوت قد يشير إلى غرفة مخفية.
صرخت إحدى السيدات، وتدعى ليال ريس، وهي تشير إلى حائط خرساني تبين فيما بعد أنه غرفة كهرباء: “يوجد أشخاص هنا، أستطيع سماعهم”.
كان ابنها قد اختطف من حافلة في دمشق قبل 13 عامًا، عندما كان عمره 18 عامًا، وبعد شهر، علمت من أحد ضباط المخابرات أنه كان يُستجوب في أحد مراكز الاحتجاز في المدينة، لم تسمع أي أخبار أخرى عنه.
وقالت وهي تمسح الدموع من على خدها براحة يدها: “لقد وعدوا بإطلاق سراحه”. بدأ رجل يحمل مجرفة يدق بمجرفته في الحائط، مما أدى إلى تطاير أجزاء من الخرسانة في الهواء.
طمأنت ليال نفسها بالأمل الوحيد المتبقي لديها، وقالت إنها تأمل أن تجد ابنها في الجناح الأحمر.
بعد بضع دقائق، توقف الرجل عن الحفر وهز رأسه، لم يكن هناك شيء.
المشرحة
بحلول صباح الثلاثاء، كان المتمردون قد اكتشفوا 38 جثة في صيدنايا، ربما تكون هذه أول جثث لسجناء تخرج من السجن، وتعتقد الجماعات الحقوقية أن الآلاف الآخرين الذين لقوا حتفهم هناك دفنوا في مقابر جماعية أو تم التخلص منهم في محرقة الجثث التي بنيت في المجمع، فيما وصفه مسؤولون أمريكيون بأنه محاولة للتغطية على فظائع النظام.
نقل الثوار الجثث إلى مشرحة مستشفى المجتهد في وسط المدينة، وظهرت على الجثث علامات الجوع أو التشوه إلى درجة يصعب التعرف عليها، مع عيون مفقودة وخدود غائرة، وقال الأطباء الشرعيون إن بعض الجثث كانت تحمل ندوبًا حمراء سميكة حول أعناقها بدت وكأنها حروق ناتجة عن الحبال، وكان البعض الآخر مغطى بندوب مستديرة ومثقوبة، على الأرجح من مكواة الساخنة.
كانت إحدى الجثث بدون وجه يمكن التعرف عليه، ولم يتبق منها سوى جمجمة سوداء.
داخل غرفة الفحص في المشرحة، قام الأطباء بفحص الجثث بحثًا عن أي علامات مميزة – وشم أو أسنان معوجة – والتقطوا صورًا لوجوههم من عدة زوايا، بدا أن بعض السجناء المفترضين قد ماتوا قبل أيام فقط، بينما ظهر أن آخرين قد ماتوا منذ أسابيع، وقد تحول لون بشرتهم إلى اللون الأخضر، وكانت الجثث تملأ الغرفة برائحة اللحم المتحلل، ومع انتشار أخبار الجثث، هرع المئات من الناس الذين اجتاحوا صيدنايا في اليوم السابق إلى المشرحة.
صرخت مجموعة من النساء وهن يحاولن اقتحام غرفة الفحص: “دعونا نلقي نظرة”.
ووجّه الدكتور ياسر القاسم النساء إلى قناة على تطبيق تيليغرام كان المستشفى ينشر عليه صور الجثث.
صرخ قبل أن يغلق الباب بقوة: “الصور، من فضلكم انظروا إلى الصور”، وأطلق تنهيدة ثقيلة، ثم قال: “هناك الكثير من الناس”.
وبينما كان بعض أقارب المفقودين يتصفحون هواتفهم وهم ينظرون إلى الصور، كانت رقية النيشي، 65 عامًا، تتساءل عما إذا كانت ستنضم إلى الحشد الذي يشق طريقه إلى المشرحة، لم تتعرف على ابنها عبد السلام في أي من الصور، لكنها لم تكن مقتنعة تمامًا بأنه ليس من بينهم.
كانت المرة الأخيرة التي رأت فيها رقية ابنها في عام 2019، أي بعد عام من اعتقاله من مسكنه في جامعة حمص وهو في العشرين من عمره، كانت قد تعقّبته في صيدنايا ودفعت لضابط السجن رشوة قدرها 9,000 دولار أمريكي لزيارته، وعندما جرّ الحراس شابًا نحوها، وقدماه مكبلتان ويداه مقيدتان وجلده ملتصق بعظامه، أجهشت بالبكاء.
قالت: “قلت لهم: “هذا ليس ابني” لكنه قال لي: “أنا ابنك يا أمي، إنه أنا”.
بعد شهر، أخبرها الضابط نفسه أن عبد السلام قد مات، لكنها رفضت تصديقه، تذكرت ووجنتاها مبللتان بالدموع: “قلت لهم: لقد رأيته بعيني، كيف تخبرونني أنه ليس على قيد الحياة الآن؟”.
وبينما كانت تنظر إلى ما يجري، كانت الحشود خارج المشرحة يضايقون موظفي المستشفى الذين يحرسون باب غرفة التبريد، صرخ أحد الأطباء: “تفضلوا، من يريد الدخول والاطمئنان فليتفضل” احتشد طوفان من الناس داخل الغرفة، وقذفوا بأكياس الجثث المفتوحة وانتزعوا أبواب ثلاجة المشرحة، خرج بعضهم مذهولًا، بينما انتحب آخرون.
صاحت إحدى النساء: “يا إلهي، يا إلهي!”.
تصفية الحساب
في نهاية الأسبوع الأول من تحرر سوريا من حكومة الأسد، تبدد البحث المحموم عن زنازين سجن صيدنايا المخفية، وبدلاً من ذلك، كان الناس يتنقلون بين سجلات السجن المبعثرة في الطابق السفلي من السجن، ويبحثون في الصفحات الصفراء عن أسماء أحبائهم.
كان بعضهم لا يزال يأمل أن يجد دليلًا يقوده إلى أقاربه المفقودين أحياء، وقال جميل علي الأباء وهو يقلب في الصفحات الصفراء مساء الخميس: “ربما أخذوا السجناء إلى إيران لاستخدامهم كورقة مساومة مع المتمردين”.
واقترح أحمد العبود، الذي كان يقف على مقربة منه: “أو إلى القواعد العسكرية الروسية”.
لكن معظمهم وجدوا أنفسهم في مواجهة حقيقة لم يرغبوا في تخيلها: لقد رحل الأحباء الذين فُقدوا في ظل حكم الأسد إلى الأبد، والأسئلة التي طاردتهم لعقود قد لا يجدون لها إجابة أبدًا.
قالت علياء سلوم، 50 عامًا، التي اختفى ابنها منذ 11 عامًا: “كل ما أردناه هو أطفالنا، أحياء أو أموات”، وأضافت وهي تمسح الدموع من عينيها: “لم يعد لدي أي أمل، لقد ذهب كل شيء، ذهب كل شيء”.
المصدر: نيويورك تايمز