لم تبدأ العمليات الجراحية التي نعرفها اليوم حقًا إلا في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات الذي يليه، ومنذ ذلك الحين لا زالت في طور التقدم. قبل ذلك، لم تكن العمليات الجراحية بالسهولة التي هي عليها اليوم، فغالبًا ما كانت النتائج سيئة وإمكانية حدوث المضاعفات والوفاة على أثرها أكثر من التعافي والنجاة. في الواقع، كانت جراحات بسيطة، مثل جراحة الزائدة الدودية، تحمل معها خطر الموت من العدوى والالتهابات التابعة للعملية أكثر من إمكانية شفائها للمريض.
المؤكد اليوم هو أنّ العمليات الجراحية لم تعد الإجراء الأكثر رعبًا في الطب، بعد أنْ كانت كذلك على مدى آلافٍ من السنين. وربّما لم يعد أحدٌ اليوم إلّا وقد خضع لأداةٍ من أدوات الجراحة في مرحلةٍ ما من حياته بشكلٍ آمنٍ وموثوق تمامًا. فبعد أنْ كانت الملاذ الأخير لوقتٍ طويل، أضحت اليوم الحلّ الأسهل والأمثل لكثيرٍ من الحالات المرَضية. لكنْ هل سألتَ نفسك يومًا عن التاريخ الطويل للجراحة الطبية؟
بدءًا من العصور الحجرية
أقدم أشكال الجراحة التي عرفها البشر كانت الحفر أو النقب في عظام جمجمة المريض بأداةٍ حادّة. وقد عثر العلماء على آلافٍ من الجماجم التي تحمل علامات النقب في جميع أنحاء العالم يرجع عمر أقدمها إلى حوالي 10 آلاف عام قبل الميلاد في شمال إفريقيا.
وعلى افتراض أنّ للإنسان رغبةً غريزية بضرب رأسه بعنف في حالات الصرع والصداع النصفي على أمل تخفيف آلامه التي لا تُطاق، يعتقد العلماء أنّ تلك الثقوب والحفر كانت لمثل تلك الحالات، إضافةً لعلاج الاضطرابات النفسية. ومع ذلك، لاقت نظرية الطبيب الأمريكي ويليام أوسلر قبولًا أوسع في عام 1931 بافتراضه أنّ تلك العمليات كانت بالفعل لعلاج الصرع والتشنجات الطفولية والصداع النصفي والعديد من الأمراض الدماغية التي يُعتقد أنها كانت ناجمة عن شياطين وأرواح محبوسة داخل الدماغ.
ثقب الجمجمة هو أقدم أشكال الجراحات التي عرفها الإنسان لعلاج الصرع والصداع النصفي
وأيًّا ما كان الهدف من تلك الثقوب، فما يُثير الدهشة أكثر أنّ عددًا كبيرًا من الأشخاص لم تمنعه الإجراءات الوحشية التي أُجريت عليه من البقاء على قيد الحياة لسنوات عديدة. كما كشفت بعض الجماجم القديمة أدلّة على شفائها وقدرةً عالية على التئام ثقوبها وجروحها مع الوقت.
أمّا الممارسة الجراحية الأكثر شيوعًا في العصور القديمة فيُعتقد أنها كانت إراقة دماء المريض (Bloodletting) استنادًا للاعتقاد الذي كان سائدًا بأنّ التوازن في الدم والسوائل الجسدية الثلاثة الأخرى، البلغم والمادّتين الصفراء والسوداء، هو المسؤول عن صحّة الجسم، وأيّة أمراض أو اضطرابات فهي ناتجة بالأساس عن حدوث اختلال في ذلك التوازن سواء لوجود فائضٍ أو نقصٍ في واحدٍ أو أكثر منها.
استخدم القدماء الأدوات الحادة لفتح أو خدش الأوردة السطحية، وفي بعض الحالات الشرايين، لإراقة دماء المريض على مدار عدة أيام في محاولةٍ لاستعادة التوازن في تلك السوائل الحيوية. ويُقال أنّ المصريين القدماء كانوا أوّل من استخدم هذه الآلية ثمّ تبعهم اليونانيون والإغريقيّون. فيما استمرّت الفكرة القائلة بأنّ خروج الدم من الجسم يساعد في الشفاء حتى القرن التاسع عشر. وقد عرفتها وصدّقت بها الكثير من الحضارات بما في ذلك المسلمي، إذ ذكرها ابن سينا في كتاباته على سبيل المثال.
كان شائعًا لدى القدماء إراقة دماء المريض على مدار عدة أيام في محاولةٍ لاستعادة صحّة الجسم
ومع الزمن، تطوّرت العمليات الجراحية حتّى أصبح البشر قادرين على جبر كسور عظامهم وبتر أطرافهم وهو ما استدعى فعله تماشيًا مع الحروب الكثيرة التي عرفتها الإمبراطورية اليونانية واستدعت الحاجة لتطوير أساليب الجراحة والعلاج، فيما ساعدتهم قدرتهم على تطويع الأدوات الحديدية في صناعة أدوات جراحية عديدة، لكن بالتأكيد لطالما كان خطر الوفاة أو الإصابة بالمضاعفات مرتفعًا ومتوقّعًا.
لعلّ كتابات أبقراط كانت الأشهر في الجراحة والطب عند اليونانيين. لكنّ تاريخ الجراحة سيبقى دومًا مدينًا لعددٍ من علماء المسلمين الأكثر شهرةً مثل ابن سينا والرازي والزهراوي،وكتاباتهم التي تناولوا فيها بالتفصيل عددًا كبيرًا من مواضيع الطب والجراحة مثل جراحة العظام والأذن والأنف والحنجرة وتشريح الجسم وغيرها ممّا بقيَ مراجعَ أساسية للعديد من علماء الطب والجراحة المسلمين والغربيّين على نطاق واسع لقرون عديدة.
وصف ابن سينا التخدير عن طريق الاستنشاق في كتابه قانون الطب متحدّثًا عن الإسفنج المخصّب، وهو إسفنجة مشرّبة بالعطريات والمخدّرات والكحوليات توضع تحت أنف المريض ليستنشقها بقوّة أثناء العملية الجراحية
أمّا أساليب التخدير فكانت بسيطةً للغاية تعتمد أساسًا على الأعشاب والكحول، إذ عُرف عن بلاد ما بين النهرين استخدامه منذ آلاف السنين. فيما يرجع الفضل الأكبر لتطوير آلات التخدير، لا سيّما التخدير العام، لعلماء المسلمين. فالزهراوي، المعروف بأبي الجراحة، كتب عن التخدير العام في مجلّداته الثلاثين التي تُعتبر العمل المصوّر الأول في تاريخ الجراحة جميعه. أمّا ابن سينا فقد وصف التخدير عن طريق الاستنشاق في كتابه قانون الطب متحدّثًا عن الإسفنج المخصّب، وهو إسفنجة مشرّبة بالعطريات والمخدّرات والكحوليات توضع تحت أنف المريض ليستنشقها بقوّة أثناء العملية الجراحية.
حتى العصور الوسطى، كان معظم الجرّاحين هم من الحلّاقين والمطهّرين الذين عرفوا عن تشريح الجسم وجمعوا بين العمليات الجراحية الصغيرة وإراقة الدماء وقلع الأسنان دون أيّة دراسة متخصّصة حتى أخذ المجال بالتطوّر وصار على شكله الحالي الذي نعرفه جميعًا.
شهدت الجراحة تطوّرًا ملحوظًا مع بدايات القرن التاسع عشر، حيث أصبح الجرّاحون أكثر دقّة وسرعةً في إجراء العمليات الجراحية لا سيّما البتر. وقد غيّر البدء في استخدام غازات التخدير لأول مرة في عام 1846 من المشهد كثيرًا، فبعد أنْ أصبح المريض قادرًا على فقدان الوعي أثناء الجراحة، استطاع الجرّاح إيجاد فرصةٍ أكبر ليكون أبطأ وأكثر دقةً ومنهجية في العملية.
زمن الذكاء الاصطناعي
مما لا شكّ فيه أنّ المشهد تغيّر كثيرًا في السنوات الأخيرة. فلم يعد الحديث يدور حول المشرط والسكّين وأدوات التخدير والآلات التكنولوجية وحسب، بل بتنا نناقش كيف يمكن للذكاء الاصطناعي تغيير قطاعات حياتنا جميعها بما فيها الطبّ والجراحة. وليس غريبًا إنْ قلنا أنّ الجراحة الروبوتية هو أحد المواضيع المطروحة بقوّة في السنوات الأخيرة.
الكثير من العمليات الجراحية تُجرى اليوم عن طريق الاستعانة بالروبوتات المختصّة
وتقوم فكرتها أساسًا على القيام بالعمليات الجراحية بمساعدة تطبيق يتحكم بأذرع روبوتية ترتبط بكاميرا متخصصة، الأمر الذي يمنح الجرّاح أيدٍ إضافية للقيام بالعملية وحركةً أفضل وأكثر دقّة مقارنةً بالعمليات العادية، كما تتيح له إمكانية الوصول إلى مناطق في الجسم لا يستطيع الوصول إليها في الوضع العادي.
من جهةٍ أخرى، استطاع العلماء أيضًا تطوير تقنيّات الواقع الافتراضي (VR) للعمليات الجراحية وتسمح لطلّاب الطب بالتدريب على العمليات الجراحية دون الحاجة لوجود مريضٍ حقيقيّ. فمن خلال ارتداء نظّارات الواقع الافتراضي، يظهر للطبيب مجسّم يشبه جسد المريض بلحمه وعظامه. وفي الوقت نفسه يمكنه متابعة العمليات الحيوية للجسد الافتراضي من خلال لوحةٍ إلكترونية متصلة بالجسد.
استخدام تقنيات الواقع الافتراضي في العمليات الجراحية
وعلى الرغم من أنّ استخدام الذكاء الاصطناعي في مجالات الطبّ والجراحة لا يزال ناشئًا ومتواضعًا، إلّا أنّ ثمّة تركيز كبير عليها من قبل شركات الرعاية والصناعات الطبية. وعلى ما يبدو لنا فلا شكّ أنّ المستقبل يحمل لنا مزيدًا من الأفكار والاختراعات والتقنيات التي تأخذ بيد الجراحات الطبّية إلى مستوياتٍ أعلى لم يتخيّلها الإنسان أبدًا.