لطالما اعتبرت العصور الوسطى فترةً زمنيةً مهمة في تاريخ أوروبا، فقد مرّت بتغيرات كثيرة أثرّت في الحقل العلمي والهندسي والفلسفي لأوروبا واللغة اللاتينية ككل. فبسبب الحروب التي هيأت فرصاً كثيرة، وبفضل المبعوثين الاستشراقيين الأوروبيين، استفاد العلماء الإيطاليين من الاكتشافات والإنجازات التي وصلت إليها الممالك الإسلامية في الطب والرياضيات والفلسفة والهندسة بشكل واسع، حتى أصبح تأثير الحضارة الإسلامية في النهضة الإيطالية أكبر وأوضح في التاريخ العالمي.
جزيرة صقلية مهد البداية
سعى المسلمون خلال حملات التوسع التي شنّوها تجاه أوروبا وإيطاليا على وجه الخصوص إلى الحصول على حكم جزيرة صقلية الواقعة جنوب إيطاليا، حتى نجحوا بالسيطرة عليها عام 965م بعد محاولات استمرت طويلاً. وظل الحكم الإسلامي فيها لتسقط بعدها ضمن مخطط التوسع النورماني المسيحي عام 1072إذ لعبت الجزيرة دوراً كبيراً في تناقل العلوم بين أوروبا وممالك إسلامية عديدة طوال هذه المدة.
كانت الجزيرة دولةً بحد ذاتها في مرحلةً ما، ويعود ذلك إلى أهمية طرقها التجارية المتوسطية. وكان ذلك حين استولى عليها المسلمون محضرين معهم علومهم وإنجازاتهم، كما ساهموا في تطوير عدة جوانب أبرزها قطاعيّ الزراعة والتجارة التي اعتمدت عليها الجزيرة لاحقاً كمصدر رئيسي للدخل. زار الجزيرة العديد من الفلاسفة والمدونين والعلماء الأوروبيين ضمن بعثات الاستشراق، رغبةً في نقل العلوم والهندسات، وأخذوا الكثير عن علم الفلك من مدارس المسلمين، كما ترجموا الكتب العربية إلى اللاتينية.
من بين أبرز العلماء الذين ساعدت الجزيرة في نشأتهم وترعرعهم في بيئة بحث وتطوير هو الباحث والدبلوماسي المحارب فريدريك الثاني الذي كان مدفوعاً بفضوله الفكري الهائل لاستكشاف الثقافة العربية. فقد صب كل اهتمامه على قراءة العلوم والطب والفلسفة باللغة العربية حتى أصبح له فريق من الباحثين والمستشرقين الأوروبيين في العاصمة باليرمو، وكان من ضمن الفريق عالم الرياضيات ليوناردو فيبوناتشي، الذي اخترع السلسلة الحسابية التي تحمل اسمه، والذي نال تعليمه تحت أيدي علماء الرياضيات العرب، فقد قدّم الأرقام العربية التي كان العرب قد التقطوها خلال تجولهم في الهند إلى أوروبا، كما ترجم الأعمال الأصلية للفلكي المسلم، الفرغاني إلى اللغة اللاتينية، لتضاف لاحقاً إلى خزينة المكتبات الإيطالية.
فريدريك الثاني
تميّز فريق فريدريك البحثي بضمّه عددًا وافرًا من العلماء الذين صبوا جلّ اهتمامهم على العلوم العربية والعلماء العرب، مثل الاسكتلندي مايكل سكوت، والذي ربما كان من أرقى العقول في بلاط فريدريك. فقد عمل في مركز الترجمة العربي الكبير في توليدو، وشغل منصب المستشار العلمي والمنجم وكان مسؤولاً عن عملية النسخ والترجمة لأعمال ابن رشد وتعليقاته على أعمال أرسطو فقد أتقن العربية واللاتينية والعبرية على حد سواء.
المستشار والمنجم مايكل سكوت
الفلسفة العربية بين أيادٍ أوروبية
كان للفلسفة الإسلامية أهمية خاصة عند علماء العالم أجمع بسبب رؤيتها المتجهة نحو الدين، ومناقشتها أمور الشريعة الإسلامية، إضافةً إلى الفلسفات الأخرى، إذ كان يعقوب الكندي أوّل فيلسوف عربي مسلم اهتم به الأيطاليون وتناقلوا كتبه بين بعضهم البعض. ومن بين ما أثار فضولهم فيه هو تبنيه لفكرة ترابط الإيمان والفكر في فلسفته، قائلاً إن الإيمان والفكر ليسوا في صراع فلسفي بل يكملون بعضهم. ثم يليه العالم ابن سينا الذي عُرف عندهم باسم لاتيني “أفيسينا”، وقد أعجبوا بفلسفة “الفكر البديهي في جمع الحقائق والاستنباط” والتي كانت فلسفةً جديدةً كلياً على أوروبا. وأيضاً بسبب اتساع معرفته في الطب والفلسفة والرياضيات وعلم الفلك، بالإضافة إلى كتابه “القانون في الطب”. حتى اطلقوا عليه اسمه “ليوناردو العربي” على الرغم من أنه كان فارسياً.
تأثر العلماء الإيطاليين أيضاً بكتابات العالم ابن خلدون في علم الاجتماع وسعوا إلى الحصول على كتابه الشهير “المقدمة” الذي يشار إليه في كثير من الأحيان باسم “التاريخ العالمي”، حتى قال عنه المؤرخ أرنولد توينبي أنه “بلا شك أعظم عمل تم إنشاؤه من قبل أيّ عالم في أي وقت أو مكان.” لكن على عكس أعمال المفكرين العرب الآخرين، لا يبدو أن المقدمة وصلت سريعاً إلى أوروبا فلم تتوفر ترجمتها حتى أوائل القرن التاسع عشر عندما ظهر بعضها في الترجمة الفرنسية. وكانت هناك بعض الترجمات إلى التركية من قبل علماء عثمانيون في القرن السادس عشر والسابع عشر، ولكن لم تترجم إلى اللاتينية أبداً.
العمارة العربية الإسلامية في أوروبا
نظرًا لأن الإسلام يحظر تصوير الله في رسومات الزينة و لا يشجع على رسم أيّ حياة بشرية أو حيوانية على الإطلاق، فقد نما اهتمام كبير في التصميم الهندسي في الفن والعمارة العربية. وأعجب الأوروبيون بهذا النمط الجديد من النقوش الملونة البعيدة عن الرسم، وقد نالت النقوش العربية الموجودة في القصور والبيوت والطرقات اهتمام المهندسين الأوروبيين أمثال النحات النمساوي فون إيرلخ الذي عمل على كتاب نشر عام 1721 يضم أهم المنجزات الهندسية في العالم الأوروبي وضمّنه بأمثلة عن العمارة الإسلامية مصحوبة بنصوص مفصلة جداً. من بين المباني المشمولة هناك القصر في برسيبوليس، ومنتدى تراجان في روما، ومعبد البورسلين في نانجينغ، ومعبد سليمان وجسر لافيردي في أصفهان.
وحتى مع احتلال جزيرة صقلية وإعادة المسيحية تدريجياً للسكان، بقيت الأشكال الهندسية المزخرفة للمسلمين موجودة في جزيرة صقلية حتى الآن، مثل حيّ (ال-كاسر) “القصر” وهو ما زال مركز المدينة حتى الآن مع مسجد الجمعة الكبير في موقع الكاتدرائية الرومانية اللاحقة. أما حي (كالسا) “الخالصة” فضم قصر السلطان والحمامات ومسجداً ومكاتب الحكومة والسجن الخاص بالقصر.
غياب الأدب العربي
عندما نقرأ عن التأثير العربي في الفكر الأوروبي نكاد لا نلحظ وجوداً للأدب العربي من بين اهتمامات الأوروبيين، وربما يعود هذا إلى الانشغال بالطب والقانون كونَ اكتسابها كان الأهم حينها، أو لأن الشعر العربي وقتها كان يكتب باللغة العامية مما زاد من صعوبة ترجمته. بينما سلّط أحمد عزيز في كتابه “تاريخ صقلية الإسلامية” الضوء على العلاقة المثيرة للجدل بين الكوميديا الإلهية لدانتي والأعمال الإسلامية السابقة لها من حيث تشابه المحتوى وطبيعتها، ولكن لا يوجد استنتاج حقيقي يمكن استخلاصه، باستثناء إمكانية أن يكون المنشئ العظيم لأدب الرومانسية غير اللاتيني قد حصل على بعض الإلهام من مكان ما. وقد عرف دانتي بالتأكيد ابن سينا من خلال الترجمة اللاتينية؛ مما يضع كلاهما موضع شكّ أمام علماء اليونان القديم.
في الوقت الذي كانت أوروبا تصارع لحماية أراضيها من التوسع الإسلامي وتجاهد للرفع من همة جيوشها كانت مدن الممالك العربية مركزاً للحضارة والنشاط الفكري، فقد وصلت المدارس ومجالس العلم وحركات الترجمة إلى أوج نشاطها ذلك الوقت ولكن الدائرة تعود بالالتفاف حول نفسها معليةً من أمم ومنزلةً من أخرى وربما حان الوقت أن ننظر إلى الثقافة والعلوم الإنسانية على أنها شبكة واسعة؛ قد تنبثق في أماكن مختلفة من العالم في أوقات مختلفة، أو العديد منها في نفس الوقت، دون أن يلاحظها أحد في مكان آخر. وأن نركز على أهمية مشاركة العالم كله والاستفادة منها لهدف يصب في مصلحة الجنس البشري أجمع.