لوعة مشتاق وفقد حبيب، عنوان فرعي لمأساة تخط قصتها وراء الشمس، تحيكها آلام المعتقل ومعاناته مع استهلال شهر رمضان المبارك تحت أقبية السجون ووراء قضبان حديدية، بين يدي شيطان بشري يتفنن بأبشع أنواع التعذيب النفسي والجسدي، بعيدًا عن كل تلك الأجواء الرمضانية الساحرة التي تبث الطمأنينة في النفوس، تحت رحمة الغياب ودناءة السَجان، فالشهر الكريم الذي يعرفه الإنسان قبل معتقله ليس هو نفسه ما يراه ويعايشه في المنفردات.
لم يكن رمضان تلك المناسبة الوحيدة التي يشعر بها المعتقل بالبُعد عن أهله وذويه، فيُحرم من أعياده مع أحبابه ومناسباته الشخصية، إلا أن البعد في الشهر الكريم يكون أكبر لطول مدته، وخاصية روحانيته وأهمية المشاركة والمجتمع والأسرة فيه، ومع الأسف لا يكاد يخلو بلدٌ عربي من سجن يضم آلاف المعتقلين دون محاكمة أو تهمة واضحة كما في سوريا، البلد الذي يعيش في أوكارٍ من السجون، وكيان الاحتلال الإسرائيلي حيث يزج بالشخص في الغياهب، فيعيش رمضانه وأيامه ويعد ساعاته بعيدًا عن كل ما يعيشه الإنسان الطبيعي مع محيطه.
المعتقلات السورية وسباق في العذاب!
ليس غريبًا على نظام سيء السمعة كالنظام السوري ما يمارسه من أبشع أنواع القهر على أكثر من 200 ألف معتقل أكثرهم من الشبان، إذ إن شهر رمضان بالنسبة إليه شهر بطش مزدوج وذلٍ محتوم حسب ما أفاد المعتقل السابق في سجن صيدنايا محمد أبو محمود، لـ”نون بوست” ويذكر محمد الذي أفرج عنه العام الماضي بعد 7 سنوات اعتقال: “أما بالنسبة لموعد الشهر الفضيل فغالبًا كنا نتكهن وقته ونخطئ في ذلك، إذ كنا مغيبين كليًا ولا يوجد في السجن أي تقويم أو خبر عن قدومه”.
من الواضح للمراقب أن ما يمارسه النظام ليس عن عبثية وجهل، بل خطة نفسية ممنهجة وضعها مختصون للقضاء على ما تبقى من حياة في المعتقل تكثف في رمضان بشكل خاص
وفي عُرف النظام السوري فإن الصيام أو ممارسة أي طقوس دينية جريمة نكراء قد يعاقب عليها المعتقل بالتصفية والإعدام خاصة في سجن صيدنايا العسكري، بحسب ما قاله “أبو محمود”، فأجواء السجن كان يسودها الترقب والسكون، فعقوبة الصائم لا تقتصر عليه وحده بل تتعداه إلى شاويش السجن ومن معه من السجناء.
إذًا ولأن قوات الأسد تعتبر الصيام جريمة، فإن مواعيد الطعام – الذي لا يُشبع قطة بالأساس – في رمضان تبقى كما هي دون مراعاة لوقت الإفطار أو السحور، لكن على الرغم من ذلك نسبة المفطرين في هذا الشهر تكاد تكون منعدمة إلا لظروف قسرية بسبب إجبار السجانين وترهيبهم بحسب ما يروي أبو محمود.
إرهاب ممنهج
هذا ولا بد من الإتيان على أساليب الترهيب النفسية والجسدية التي يتبعها النظام على معتقليه الصائمين حتى يضيق الخناق عليهم ويمعن في إذلالهم، فكانت تكثف جلسات التحقيق لأكثر من مرة باليوم وهذا بحد ذاته رعب واقع عليهم، إذ كانت تتعالى أصوات الصراخ والأنين لتزلزل أركان المعتقل مما يسبب حالة أشبه بالهلع والانهيار للسجناء، كما أنه يُكثر من التفتيش المباغت للمهاجع بحثًا عن الطعام المخبئ، وهنا أكمل أبو محمود: “والكارثة إذا وجدوا شيئًا من طعامهم الذي لا يغني من جوع، عدا عن الشبح والتعذيب، كانوا يتعمدون رميه باقي الأيام في الحمامات حتى نجمعه ونأكله”.
ومن الواضح للمراقب أن ما يمارسه النظام ليس عن عبثية وجهل، بل خطة نفسية ممنهجة وضعها مختصون للقضاء على ما تبقى من حياة في المعتقل تكثَف في رمضان بشكل خاص، فقد كان ذكيًا جدًا ومبتدعًا في كشف الصائمين حتى يجعلهم عبرة لمن اعتبر كما صرح شاهِدنا: “وأكثر ما واجهناه هو السجان ذو الوجهين الذي يطلق لك العنان بكلامه المعسول وتعاطفه معك حتى يجرك ويكشفك، ثم يحكم الخناق عليك ويريك أيامًا أسود من الليل، هذا ما عدا استفزازنا المستمر بشعائرنا وشتم الذات الإلهية متعمدًا حتى يثير حفيظتنا ساكتين خانعين لا حول لنا ولا قوة”.
يختم أبو محمود قوله إن رمضان بالنسبة للمعتقل هو شهر الأحلام، إذ إن نهايته تعني إشاعة لصدور عفو عام أو تسوية أو أي شيء من هذا القبيل، وهذا الموضوع بالطبع يبقى مسبحة المساجين حتى تنقضي هذه الغمامة الكاذبة وتعود الأيام كسابقاتها لا عفو ولا هم يحزنون.
نافذة أخرى على عالم موازٍ
رمضان والحياة بشكل عام في السجون المدنية في سوريا مختلفة تمامًا عنها في الأفرع الأمنية، حيث إنها أسهل نسبيًا وأخف وطأة بالنسبة لممارسة الشعائر الدينية أو أنواع الطعام ومواعيده، فمن المتاح شراء بعض الوجبات بضعف ثمنها من كانتين السجن طبعًا وفق أصناف تحددها إدارته، كما يروي المعتقل السابق شادي أبو حسان في سجن عدرا المركزي بريف دمشق لـ”نون بوست”، وأضاف أبو حسان الذي دامت فترة اعتقاله لمدة تزيد على 6 سنوات “كان بإمكاننا الاجتماع معًا على وجبة الإفطار”، وأكمل بأنه لا يمكن لرمضان هناك أن يخلو من غصة وحسرة، بُعدنا عن أحبتنا بحد ذاته محرقة مجحفة لقلوبنا”.
ما بين ظلم القريب وبطش الغريب ملايين من الأسئلة العالقة تنتظر جوابًا لها ليتصدر السؤال سماء المعتقل: “إلى متى هذا الحال؟”
5700 أسير فلسطيني في السجون الإسرائيلية
ليس بعيدًا عن سجون الأنظمة العربية، أفاد تقرير هيئة شؤون الأسرى والمحررين عن وجود 5700 أسير في السجون الإسرائيلية بينهم 42 أسيرة و32 طفلاً يقضون الشهر الفضيل هذا العام وراء القضبان، إلا أن الأمر سيان لدى جميع المعتقلين وإن اختلفت الظروف فإن الحالة النفسية مشتركة كما وصف الأسير الفلسطيني المحرر في صفقة “جلعاد شاليط” تيسير سليمان لـ”نون بوست” قائلًا: “رمضان داخل السجن معاناة أكثر منه عبادة، لا ينفكُ أحدنا عن التفكير بأهله وأحبته وأجواء الشهر خارج خرسانة السجن، خاصة لشخص لم ير أهله مدة عشرين أو ثلاثين عامًا، فأنا بالذات صليت صلاة التروايح 5 سنوات في المنفردة وحدي”.
وأتم “كنا نعلم بقدوم الشهر عن طريق الراديو المحلي، فإذا أقبل أحكمت إدارة السجن التضييق علينا في القوانين، وأبدعت في استفزازنا، فكان يقدم لنا الطعام في موعده دون مراعاة لوقت الصيام، ومن المعروف أن طعام مصلحة السجون الإسرائيلية سيء جدًا إلا أن إضرابات 1992و1995 و2000 آتت أُكلها، فسمح الاحتلال بإدخال بعض المواد إلى السجن من مالنا الخاص فكنا نشتري بعض التمور والعصائر التي تباع بأسعار مضاعفة في الكانتين”.
وأما عن زيارات الأسير فغالبًا كانت ممنوعة وبالذات في رمضان خاصة لمن كان في قطاع غزة أو الضفة الغربية أو المعاقب من أهل القدس، ويروي سليمان أن معظم المعتقلين شبان ما بين العشرين والثلاثين من العمر فكانت تنشط روحهم في العبادة واستغلال الشهر بالطاعة والذكر، يقول سليمان: “هناك كنا نقضي الليل بطوله ما بين قيام وصلاة، نَدَر من تجده منا نائمًا أوغافلًا، إضافة إلى نشاط اللجان وتكثيفهم لدروس الدين والفقه وحلقات القرآن”.
من جهته يقول الأسير المحرر عماد الدين الصفطاوي لـ”نون بوست”: “أكثر ما يشتاق له المعتقل الفلسطيني في سجون الاحتلال هو أجواء التعبد في المساجد بين أهله وذويه”، فقد قضى الصفطاوي 18 رمضانًا في سجون الاحتلال قبل أن يفرج عنه عام 2018، ويقول إنه رغم الترابط بين الأسرى الفلسطينين فإن الاحتلال حاول جاهدًا كسر عزيمة المعتقلين، لكنه فشل في حالات كثيرة.
حضور كألف غياب!
بين حضور رمضان وغياب الأحبة أشواط من الألم لا يمكن أن تختصرها العبرات، ليبقى المعتقلون بين مطرقة الحنين وسندان السجان، بحثًا عن أمل غافٍ بين دعوات هذا الشهر الفضيل في ظل ظروف لا آدمية لا يمكن لبشر تحملها، إذلال وإرهاب وحرمان وخذلان.
وما بين ظلم القريب وبطش الغريب ملايين الأسئلة العالقة التي تنتظر جوابًا لها ليتصدر السؤال سماء المعتقل: “إلى متى هذا الحال؟”.