بعد أكثر من 54 عامًا من الحكم السلطوي الاستبدادي ذي البُعد الطائفي العلوي سقط نظام الأسد في سوريا، بعد حوالي 14 عامًا من انطلاق شرارة الثورة السورية عام 2011.
سقط النظام بعد وصول عدد المختفين قسريًا في عهده إلى ما يقرب 200 ألف إنسان وآلاف الشهداء والمعتقلين، وعشرات المجازر الطائفية، وبعد تدمير اقتصاد البلاد والبنية التحتية لعشرات المدن، وتحويل مئات البلدات والقرى والأحياء إلى ركام شاهدة على البراميل المتفجرة، وتهجير الملايين من السكان داخليًا وخارجيًا.
اعتمد النظام في حكمه وسيطرته على المجتمع السوري من خلال استغلال التنوع العرقي والطائفي في البلاد، واستثمر هشاشة الطائفة العلوية بالترهيب والترغيب في قمع الشعب والتحكم بموارد الدولة، وعمل على تثبيت حكمه السلطوي بتصدير نفسه “الضامن” الوحيد للأمن والاستقرار في ظل التنوع الديني، وذلك في رسائله للداخل والخارج على حد سواء.
وتميزت الفترة الأخيرة والقصيرة للغاية في تاريخ الثورة السورية قبيل سقوط النظام، بخطاب وطني جامع ركّز على البناء واستعادة الهوية الجامعة للسوريين، وابتعد عن خطاب الثأر والانتقام، خاصة في المناطق المتنوعة طائفيًا، وكان هذا أحد العوامل التي سرّعت في انهيار النظام المتهالك.
لكن بعد أيام قليلة من سقوط النظام وهروب الأسد، انتشرت إشاعات بشكل مكثف بشأن طيّ صفحة الماضي والعفو عن رجال النظام السابق الذين ارتكبوا جرائم بحق السوريين، ما فتح الباب للمناقشات ولمخاوف الضحايا من ضياع حقوقهم، وعودة مجرمي الحرب السابقين إلى السلطة تحت غطاء جديد.
هذه الإشاعات تزامنت مع بعض الدعوات التي شبهت فتح الشام بفتح مكة، مستحضرة قول النبي الكريم لمشركي مكة: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
وتعقيبا على هذه الدعوات، قالت الدكتورة هبة رؤوف عزت أستاذة علم الاجتماع عبر حسابها في “فيس بوك“، إن “مشهد فتح مكة يختلف عن مطالب العدل في مجتمعات حديثة في مراحل انتقالية، اُرتكبت فيها جرائم يكاد العقل البشري لا يستوعب وحشيتها، لذلك كُتبت مجلدات ووضعت نظريات وسُجّلت تجارب في العدالة الانتقالية.. وبعد الإقرار بالجرائم وطلب العفو من المجتمع -قبل القضاء- يمكن إعادة بناء التوافق، ومثال واضح هو نهاية نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ومسيرة العدالة الانتقالية والمصارحات والمصالحات التي كانت طويلة ومرهقة.. وفعّالة”.
وفي الوقت الذي يبدو فيه الموقف واضحًا من مرتكبي الجرائم والانتهاكات والقصف على منازل المدنيين، هناك بعض الضبابية في التعامل مع موظفي النظام السابق من شخصيات مدنية مؤيدة حرضت على عمليات القتل والقصف والاعتقال أبرزهم الإعلاميين المدنيين.
ونحاول في السطور التالي تعريف العدالة الانتقالية، ونماذج تطبيقها، وأثرها على المصالحة الوطنية.
العدالة الانتقالية والتصالحية
العدالة الانتقالية هي نهج شامل تتبعه المجتمعات لمعالجة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بهدف تحقيق المصالحة وبناء مستقبل أكثر عدلًا وسلامًا، وتقوم أساسًا على الاعتراف بجرائم الماضي والعمل على معالجتها، مع ضمان عدم تكرارها في المستقبل.
وتركز العدالة الانتقالية على الضحايا باعتبارهم محور عملية المصالحة، وتسعى إلى تعزيز حقوقهم وكرامتهم من خلال الكشف عن الحقيقة ومحاسبة الجناة وتعويض الضحايا، كما تهدف في الجانب الآخر إلى إصلاح الأنظمة والمؤسسات لضمان شمولية العدالة للجميع، ما يمهّد الطريق لبناء عقد اجتماعي جديد يحمي حقوق الإنسان، أي أنها ليست مجرد معالجة للماضي، بل استثمار في مستقبل تسوده العدالة والمساواة.
وعند الحديث عن العدالة الانتقالية، لا بدَّ من الإشارة إلى العدالة التصالحية، والتي تركز على إصلاح الضرر الناتج عن الجريمة من خلال إشراك الضحايا والجناة والمجتمع في حوار يهدف إلى تحقيق المصالحة؛ بينما تهدف العدالة الانتقالية إلى معالجة انتهاكات حقوق الإنسان في المجتمعات، التي تمرّ بمرحلة انتقالية من النزاع أو الحكم الاستبدادي إلى السلام أو الديمقراطية.
وفي كتابه “تحقيق العدالة بذكاء في المجتمع المدني”، يرى الباحث في علم الإجرام جون بريثويت “أن العدالة التصالحية تدور حول قلب الدوائر المفرغة من الأذى الذي يولّد الأذى، إلى دوائر فاضلة من الشفاء الذي يولّد الشفاء”.
ويذكر هوارد زير أن العدالة التصالحية لا تنظر إلى الجريمة باعتبارها انتهاكًا للقانون، حيث تكون الدولة هي الضحية، بل تراها على أنها “انتهاك للناس والعلاقات”، وتهدف العدالة التصالحية إلى أكثر من مجرد إثبات الذنب ومعاقبة مرتكبي الجرائم، فهي تسعى إلى “تحديد الالتزامات” وتلبية احتياجات جميع الأطراف المعنية، مع التركيز على تعزيز الشفاء وإصلاح الضرر.
سلام أم موت بطيء في البوسنة والهرسك
إن كل من سيزور العاصمة سراييفو اليوم، سيجد الزمن فيها متوقف من عشرات السنوات، ورغم جمال طبيعتها الآسر فإنها خاملة ذابلة، ووجوه ساكنيها تحكي قصة جراحًا غائرة. لم تتحقق العدالة الانتقالية على نحو جيد في البوسنة والهرسك، وبدا أن “سلام” اليوم يقتات على آلام الضحايا.
وباسم السلام أيضًا أصبح من شبه الممنوع أيضًا الحديث في مآسي الماضي، كما قال راوي الفيلم الذي أنتجته الجزيرة قبل 15 عامًا بعنوان “منسيات البوسنة”، وفي الفيلم ذاته صُوّرت ضحايا الاغتصاب الجحيم اليومي الذي يعانين منه، إذ يرين مرتكبي الجرائم ومغتصبيهنّ يعيشون بينهنّ وفي جوارهنّ بلا محاكمة أو قصاص، وشبح الماضي لا يفارقهن.
ومن الجدير بالذكر أنه منذ انتهاء الحرب في البوسنة والهرسك، تمّ اكتشاف أكثر من 550 مقبرة جماعية، كان آخرها عام 2019 حسب التقارير، وإلى اليوم لا يزال الآلاف في عداد المفقودين، وكل عام تدفن عشرات العائلات أبناءها بعد تعرُّفهم من خلال التحاليل الجينية.
وتعود الأسباب الرئيسية وراء غياب العدالة الانتقالية الشاملة، هو تركيز المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة على محاكمة كبار المسؤولين عن الجرائم الكبرى، إضافة إلى محدودية موارد المحاكم الوطنية والمحلية، ومع عدد هائل من المتورطين في الجرائم، خاصة مع تعقيد جمع الأدلة.
كما أثّرت الانقسامات السياسية والعرقية سلبًا، حيث ركزت اتفاقية دايتون، التي أنهت الحرب، على إعادة بناء نظام سياسي يضمن التوازن العرقي، لكنها عززت في الوقت نفسه الانقسامات بين البوشناق والصرب والكروات، وسمح هذا الهيكل السياسي لبعض المجتمعات بحماية الجناة المنتمين إليها.
وجاءت أولوية تحقيق السلام والاستقرار السياسي على حساب العدالة، كما أن السياسة الدولية لعبت دورًا في إعاقة العدالة، إذ انصبَّ اهتمام المجتمع الدولي على إنهاء النزاع وضمان الاستقرار الإقليمي، ما أدّى إلى إغفال بعض القضايا التي تتعلق بالجرائم الأقل تأثيرًا على المستوى السياسي.
إن حقيقة بقاء العدالة الانتقالية في البوسنة ناقصة، أعاق المصالحة الوطنية وأدّى إلى استمرار الانقسامات الاجتماعية والسياسية، وأضعف ثقة الضحايا بالنظام القضائي، وترك جروحًا عميقة في النسيج الاجتماعي، وهذا ما يجعل من التجربة البوسنية درسًا مهمًّا حول التحديات التي تواجه تحقيق العدالة الانتقالية في مجتمعات ما بعد النزاع، وبالطبع في سوريا.
المصالحة الوطنية في جنوب أفريقيا
تكمن أحد الفوارق الرئيسية في المرحلة الانتقالية بين البوسنة والهرسك وبين جنوب أفريقيا في غياب لجان للحقيقة والمصالحة في البوسنة والهرسك، والذي شكّل نقطة ضعف أساسية، إذ لم يتمكن المجتمع من مواجهة الماضي بشكل شامل وشفاف. وربما تكون لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا واحدة من أشهر المؤسسات المكلفة بمهمة التعامل مع الماضي، وضمان انتقال عادل وسلمي إلى مجتمع مستقر.
تأسّست لجنة الحقيقة والمصالحة بهدف مدّ جسور بين الماضي والمستقبل، من خلال كشف الحقيقة عن انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي لمنع تكرارها في المستقبل، وتعزيز مفهوم “الإنسانية” لتحقيق الوحدة الوطنية والمصالحة.
كما أوكلت إليها مهمة التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت بين عامي 1960 و1994، وتقديم صورة شاملة قدر الإمكان عن طبيعة تلك الانتهاكات وأسبابها ومدى انتشارها، حيث تضمنت مهام اللجنة منح العفو لمن اعترفوا بشكل كامل بمسؤوليتهم عن الانتهاكات المحددة، وإتاحة الفرصة للضحايا لرواية تجاربهم المؤلمة.
إضافة إلى ذلك، كانت مسؤولة عن اتخاذ خطوات لتعويض الضحايا واستعادة كرامتهم، فضلًا عن إعداد تقرير شامل يوثّق الانتهاكات وأثرها، وتقديم توصيات لمنع وقوعها مجددًا.
ورغم أن العدالة الانتقالية في جنوب أفريقيا لم تقدّم تعويضات كافية للضحايا، وكان هناك ضعف في محاسبة بعض كبار المسؤولين، وشعرت بعض المجتمعات أن التركيز على المصالحة جاء على حساب العدالة الجنائية، إلا أنها حققت نتائج ملموسة في إعادة بناء الدولة بعد حقبة نظام الفصل العنصري (1948-1994)، وتوحيد المجتمع حول مشروع وطني جديد، ونجحت في منع تكرار الانتهاكات إلى حد كبير.
يبقى موضوع العدالة الانتقالية في سوريا موضوعًا شائكًا، خاصة مع وجود آلاف الجنود النظاميين وغير النظاميين من داخل وخارج البلاد الذين شاركوا في انتهاك حقوق الإنسان، ومع تاريخ طويل من القمع يصل إلى فتح ملف مجزرة حماة في الثمانينيات.
ولا يبدو أن هناك صعوبة في الوصول إلى هويات الأشخاص المشاركين في المجازر والقصف والاعتداءات، مع شيوع وسائل التواصل والتقنيات الحديثة، ما يدفع بضرورة اتخاذ الحكومة المقبلة خطوات واضحة على طريقة تحقيق العدالة الانتقالية وإنصاف الضحايا، وصولًا إلى مصالحة وطنية تتجاوز الثأر والانتقام الشخصي، وتمنح السوريين ثقة بالإدارة السياسية والقضاء العادل في دولتهم الناشئة.