حدث الأسبوع الثالث من شهر مايو 2019 (الأسبوع الثاني من شهر رمضان) هو بدء محاكمة الرئيس بورقيبة وثلة من رجالات دولته بتهمة اغتيال القيادي في حركة التحرر الوطني صالح بن يوسف في بداية استقلال الدولة، حيث تلتهب السوشيال ميديا التونسية بالحرب بشأن بورقيبة وتاريخه، هل هو قاتل أم زعيم طاهر نقي؟ فلا موقف وسط بين الموقفين إلا أصواتًا خافتة تقدس التاريخ ولا تمنح شهادات قداسة لأحد، وهناك من يغتنم المحاكمة لتسجيل مواقف سياسية على الجانبين ولكن الحقيقة أولى بالتقديم.
كيف عاد الملف إلى السطح؟
منذ الاستقلال وتفرد بورقيبة بالقيادة وبناء الدولة ظل هناك جرح مفتوح في الذاكرة التونسية: من اغتال صالح بن يوسف؟ وهل يحق للتونسيين محاسبته؟ فقد منعت دولة بورقيبة فتح الملف وطاردت كل من أعلن تعاطفه مع بن يوسف في البداية بالحديد والنار ولاحقًا بالسجن والتشريد والإعدام، وطمست وقائع كثيرة بقوة جهاز الدعاية الفاشية لدولة بورقيبة، وسكت أنصار بن يوسف وهم كثر على وجيعتهم وكتموها في أنفسهم وظلت الوقائع تحت الرماد وميض نار، حتى جاءت الثورة وفتح ملف العدالة الانتقالية عبر الهيئة الدستورية المكلفة.
يسقط التتبع قانونًا في حق الموتى (بورقيبة وبعض المتهمين) ويظل ساريًا في حق الباقين بعد على قيد الحياة، ولكن حيثيات المحاكمة تتجه إلى إدانة أسس الدولة الظالمة من أجل دولة لجميع مواطنيها على بينة لا على دغل، ويحق للتونسيين إعادة كتابة تاريخهم
وقد وصلت الآن مرحلة وضع الملف أمام أنظار القضاء التونسي وانطلقت المحاكمة، فإذا هي محاكمة مرحلة وتاريخ ودولة بنيت على جرح لم يعالج، ويحق للتونسيين الآن فتح الجرح ومداواته بقطع النظر عن الأحكام التي ستصدر فما هي إلا عملية رمزية لتطهير التاريخ من آثار قلم الغالب المتنكر للحقيقة.
يسقط التتبع قانونًا في حق الموتى (بورقيبة وبعض المتهمين) ويظل ساريًا في حق الباقين على قيد الحياة، ولكن حيثيات المحاكمة تتجه إلى إدانة أسس الدولة الظالمة من أجل دولة لجميع مواطنيها على بينة لا على دغل، فيحق للتونسيين إعادة كتابة تاريخهم.
اليوسفيون يوسفيون دومًا
ليسوا حزبًا سياسيًا بل توجه فكري وروحي يقدم عروبة تونس وإسلامها على أطروحة حداثة متفرنسة، هذا التوجه يشترك فيه تونسيون كثر، منهم من تبنى العروبة كأطروحة سياسية ومنهم إسلاميون يؤمنون بالزيتونة وبالانتماء إلى الإسلام ومنهم يسار غير منبت، وهذا التوجه التونسي أقدم من بورقيبة ودولته كانت تعبيرته الأولى في حزب الثعالبي حتى ذوبه بورقيبة وقضى على شخصياته المؤسسة، لكن التوجه ظهر في نشاط طلبة جامعة الزيتونة ومول حركة التحرر الوطني بالمقاومين حتى وجد نفسه في شق بن يوسف ضمن حزب الدستور.
غلبة بورقيبة غيبت – كما أسلفت – تيار العروبة والإسلام ولكنها لم تقض عليه، فحصل نوع من الدمج الفكري والعاطفي بين الناصرية واليوسفية المغدورة في الستينيات (وإن لم يكن بن يوسف عروبيًا ناصريًا بالمعنى الأيديولوجي) وحوكم النفس القومي العربي الناصري محاكمات كثيرة انتهت بصمت الجيل الجديد، ولكن اليوسفية ظلت روحًا سارية حتى تبنى خطابها كثير من الإسلاميين دون أن ينكرها القوميون وبعض اليسار العروبي، وكل هؤلاء وإن لم يرفع اسم بن يوسف خوفًا ورعبًا من بورقيبة ورجالات أمنه إلا أنه لم يدنها ولم يتنصل منها، حاول بن علي رمرمة الملف برد بعض الاعتبار لزوجته واسمه (إطلاق اسم بن يوسف على بعض الشوارع) ولكن الأمر لم يكف لمداواة الجرح.
نجد أنصار محاكمة بورقيبة الآن من كل الجهات التي شعرت بالتهميش نتيجة غلبة بورقيبة المهادن للمركز الإقصائي وللجهوية وحيف تمييز الجهات باسم البناء الوطني والوحدة القومية وهو شعار بورقيبة ووسيلته في طمس كل اختلاف بشأن زعامته وشخصه
اليوسفية تعبير عن انتماء تونس إلى العروبة والإسلام وإلى وحدة المغرب العربي وإلى مشترك مقاوم قاد حركة التحرر فيه، فاليوسفية روح معادية لفرنسا وهيمنتها على تونس منذ قرنين. اليوسفية بعد بن يوسف أوضح من أطروحات بن يوسف نفسها الذي لم يكن مفكرًا ومنظرًا أيديولوجيًا وإنما كان قائدًا في حزب الدستور ولم يكن مستقلاً عن أطروحة التفاوض ولكن دون تسليم السلاح قبل نهاية المعركة كما فعل بورقيبة.
اليوسفية فيها عمق جهوي هامشي معاد لمركز (العاصمة خاصة) عمق اليوسفية في الجنوب (بن يوسف أصيل نخبة جزيرة جربة المتعلمة) وبعض قرى الشمال والساحل (متجاوزة للجهوية الساحلية التي كرسها بورقيبة لاحقًا ليحكم من خلالها ويطارد حتى اليوسفيين السواحلية ويدمرهم).
لذلك نجد أنصار محاكمة بورقيبة الآن من كل الجهات التي شعرت بالتهميش نتيجة غلبة بورقيبة المهادن للمركز الإقصائي وللجهوية وحيف تمييز الجهات باسم البناء الوطني والوحدة القومية وهو شعار بورقيبة ووسيلته في طمس كل اختلاف بشأن زعامته وشخصه، ولا يبدو أنهم يتنازلون عن محاكمة تعيد الاعتبار لزعيمهم المقهور المقتول غيلة وغدرًا.
البورقيبيون بورقيبيون إلى الأبد
أنصار الزعيم يرونه كاملاً لا يرقى الشك إلى فعله السياسي ويعتبرون المحاكمة سياسية متأخرة تسعى إلى كسب آني بعد فوات الأوان وهم يرذلون كل من ناصر المحاكمة ووقف مع مسار العدالة الانتقالية كما رذلوا كل من وقف مع الثورة ودفع مطالبها إلى التحقق بعد 60 عامًا من دولة بورقيبة انتهت بخراب الدولة على كل الواجهات.
البورقيبيون يعيدون إنتاج خيار بورقيبة ولا ينقدون تجربته فيرفضون الاعتراف بأنه قتل من أجل السلطة وأقصى مخالفيه وبنى تجربة حكم معيبة
لا يعترف هؤلاء بتونس العروبة والإسلام فكل من قال بتونس عربية مسلمة متخلف ورجعي ووجب قطع صوته في مقابل ذلك يقدمون أطروحة تقدمية تعتمد الانتماء إلى فرنسا ولغتها وثقافتها ويرون صيغة واحدة هي صيغتهم لتونس علمانية على الطريقة الفرنسية التي كان بورقيبة تجسيدًا لها. (الحرب بشأن مكانة العربية في التعليم هي إحدى وجوه الصراع اليوسفي البروقيبي).
البورقيبيون يعيدون إنتاج خيار بورقيبة ولا ينقدون تجربته فيرفضون الاعتراف بأنه قتل من أجل السلطة وأقصى مخالفيه وبنى تجربة حكم معيبة، لذلك يتحزبون الآن لهذه التجربة ويطعنون في القضاء ويستنجدون بالسفير الفرنسي نفسه لينصرهم في دعواهم من أجل بورقيبة. (علمًا أن فرنسا أقامت له التماثيل تمجيدًا).
يحق للتونسيين مراجعة تاريخهم ونزع القداسة المدّعاة على شخصياته الفاعلة ومراجعة مسلمات فرضت بقوة السلطة لا بالإقناع والحجة الديمقراطية
الأمر إذًا خلاف عميق بشأن نموذج الدولة ونموذج المجتمع المرغوب تونسيًا كما كان الأمر في بداية الاستقلال، فهناك بلدان وخياران يخفت الصراع ويعود ولكن الإشكال لا يزال قائمًا ولا يبدو أن هناك أفق حل رغم المحاكمة التي يمكن أن تنتهي بإثبات الجرم على الزعيم وشلته الأولى التي زعمت بناء دولة تونسية حديثة فانتهت إلى الدكتاتورية المقيتة ولا تريد أن تعترف وتنقد التجربة من أجل التقدم، وما رفضهم للمحاكمة إلا رفضًا للنقد والمراجعة والإيغال في الإنكار المرضي ولكن مسار العدالة يفرض نفسه.
تونس أخرى في الطريق رغم الإنكار
يحق للتونسيين مراجعة تاريخهم ونزع القداسة المدّعاة على شخصياته الفاعلة ومراجعة مسلمات فرضت بقوة السلطة لا بالإقناع والحجة الديمقراطية، وهذا الذي يجري الآن عبر محاكمة لا شك في قانونيتها طبقًا للدستور الجديد الذي أرسى مبدأ العدالة الانتقالية كعملية مراجعة وتصحيح، ولكن رمزيتها تتجاوز صبغتها الشكلية القانونية إلى إعادة مساءلة التاريخ وفرض صيغة أخرى غير التي كتبها مؤرخ السلطة المتمعش من أعطياتها والمزيف لتاريخها طبقًا لهوى الزعيم المجاهد الأكبر. محاكمة تقول في الحكم النهائي إن الرجل لم يكن مجاهدًا ولا مجاهدًا أكبر بل حاكم بغيض أهان مساحة واسعة من شعبه وحرف وعيه وفرض عليه نموذج تفكير أحادي وقطعه عن أصوله ودفعه إلى حضن مستعمره الأول حتى اللحظة.
إنها لحظة الحقيقة وإن أنكر البورقيبيون، ولن ينجر عنها نبش رفات الزعيم وحرقها كما يروجون بل إعادته إلى حجمه الطبيعي والمرور فوق روايته إلى كتابة سردية أخرى تعيد الاعتبار للتنوع والاختلاف وتفتح باب المستقبل دون ضغائن الماضي وجراحه، وهذا جوهر الثورة وجوهر العدالة الانتقالية التي فرضتها على سردية السلطة، وسردية الزعيم الذي لم يأته الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه كان مصدر الباطل الأول.