شهدت الساحة العراقية العديد من الميليشيات المسلحة بمختلف تلوناتها وانتماءاتها، لم تكن وليدة لحظة عابرة في التاريخ السياسي العراقي، بل لعبت العديد من الظروف والتحولات التاريخية التي مر بها العراق دورًا في نشأتها وظهورها وتطورها، فعلى الرغم من أن جميع ألوان الطيف العراقي أسهمت في بروز ميليشيات مسلحة أدت دورًا كبيرًا في خلخلة الوضع الداخلي العراقي، وكانت سببًا رئيسيًا في التأزم الطائفي الذي لا يزال يعاني منه العراق، فإنها كانت متفاوتة في القوة والتأثير، وذلك يعتمد على مدى تغلغلها داخل الأجهزة الأمنية العراقية وتمكنها، والحديث هنا عن الميليشيات الشيعية التي ازدهرت وانتعشت في مرحلة ما بعد 2003.
فالتوجه نحو العمل المسلح ضمن الإطار “الشيعي” يرجع إلى فترات بعيدة في العراق، فنتيجة لأسباب تاريخية ومذهبية، دفعت كثيرًا من الأحزاب والتنظيمات الشيعية إلى تبني مفهوم العمل المسلح ضد الدولة، بعد حظر أغلبها من العمل السياسي في العراق، تحديدًا خلال فترة حكم حزب البعث، إذ وجدت أغلب هذه الأحزاب أن إرباك الأوضاع الداخلية في العراق سيسهم في زيادة الضغوط على النظام السياسي السابق، ومن ثم يمكن توسيع دائرتها حتى الوصول إلى ثورة شعبية “شيعية” تقلب نظام الحكم، حيث كانت هذه الفلسفة القاعدة التي نظمت أساسيات العمل السياسي لأغلب الأحزاب الشيعية في العراق.
شكل بروز تنظيم داعش على الساحة العراقية عام 2014، نقلة نوعية في إستراتيجية عمل المليشيات المسلحة في العراق
انتشرت الميليشيات المسلحة في العراق بشكل واسع في مرحلة ما بعد 2003، مستغلة بذلك الفراغ الأمني الذي خلفه الاحتلال الأمريكي للعراق، فضلًا عن عمل أغلبها ضمن أحزاب نافذة في العملية السياسية العراقية، بل وصل الحد بها إلى ارتباطها المباشر بالحكومة، تحديدًا خلال فترة حكم نوري المالكي الذي أشرف على تشكيل فرق الموت التي مارست أبشع صور القتل والتنكيل ضد المدنيين والمعارضين.
شكل بروز تنظيم داعش على الساحة العراقية عام 2014، نقلة نوعية في إستراتيجية عمل المليشيات المسلحة في العراق، إذ استغلت هذه المليشيات الانهيار الكبير الذي أصاب القوات المسلحة العراقية من جهة، ومن جهة أخرى فتوى الجهاد الكفائي التي أصدرتها مرجعية السيد السيستاني، لتطرح نفسها ضمن هيكل مؤسسي عسكري أمني تحت مسمى “الحشد الشعبي”، لتشكل قوة عسكرية ضاربة في هيكل القوة العراقية، ولتكون أيضًا وبنسبة كبيرة يد إيران الطولى في العراق، مما كرس بدورها النفوذ الإيراني في العراق، وجعل منها إحدى أدوات المواجهة الإيرانية ضد الولايات المتحدة الأمريكية، في أي صراع مستقبلي ينشب بين الطرفين.
إلى من تتبع المليشيات المسلحة في العراق؟
عند الحديث عن انتماءات الميليشيات المسلحة العاملة في العراق في الوقت الحاضر، تبرز هنا عدة تساؤلات عن ماهية انتماءتها وتحديدًا في المجال العقائدي المذهبي، لأن أغلب هذه الميليشيات يدين بالولاية العامة للولي الفقيه في إيران علي خامنئي، بوصفه القائم بأمر المسلمين حتى ظهور الإمام المهدي، وبما أنه يمثل الإمام المهدي فإن أوامره لا تخضع للنقاش أو الاستفسار بوصفها أوامر إلهية، وهي واجبة التنفيذ، ولعل هذا ما أشار إليه علي خامنئي في كثير من المناسبات عندما كرر باستمرار أن مهمة هذه الميليشيات لا تقتصر على العراق فقط، وإنما واجبها نصرة “المظلومين” على امتداد الشرق الأوسط والعالم.
على الرغم من أن الغاية الأساسية لنشأته(الحشد الشعبي) كانت محاربة تنظيم داعش، وحماية المقدسات، فإن الأكبر من ذلك هو لخلق كيان موازٍ داخل العراق
وإلى جانب ما تقدم أيضًا نشير إلى أن أغلب هذه الميليشيات أخذ يرتبط بصورة أو بأخرى بالمؤسسة العسكرية العراقية (وزارة الدفاع والداخلية) التي ترتبط بدورها برئيس الوزراء عادل عبد المهدي القائد العام للقوات المسلحة، خصوصًا بعد صدور قانون هيئة الحشد الشعبي والمؤسسات التابعة له، إذ أصبح لأغلب هذه الميليشيات توصيف قانوني ينظم عملها لكونها جميعًا تعمل الآن في الساحة العراقية تحت مسمى “الحشد الشعبي” أو “فصائل المقاومة الإسلامية”.
وعليه يظهر لنا أن الميليشيات المسلحة العراقية بوضعها الحاليّ لها مرجعيتان أساسيتان:
أولًا: المرجعية السياسية المتمثلة في ارتباطها برئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي بوصفه قائدًا عامًا للقوات المسلحة العراقية.
ثانيًا: المرجعية الدينية المتمثلة في ارتباطها بالولي الفقيه في إيران علي خامنئي.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك بعض الاستثناءات التي ترد على الارتباط العقائدي لهذه الميليشيات وارتباطها بالمرجعية في إيران، وهي سرايا السلام وسرايا عاشوراء وفرقة العباس القتالية ولواء علي الأكبر، اللآتي يرتبطن بالمراجع الدينية في العراق، فالأولى ترتبط بالسيد مقتدى الصدر، والثانية بالسيد عمار الحكيم، والثالثة بمرجعية النجف.
إيران والمليشيات المسلحة في العراق
رغم أن أغلب الآراء والأفكار تذهب باتجاه المواءمة السياسية والعسكرية بين تأسيس الحشد الشعبي وسقوط مدينة الموصل بيد تنظيم داعش عام 2014، فإن المتمعن بالحيثييات العامة للإستراتيجية الإقليمية الإيرانية في الشرق الأوسط التي يخططها مجلس الأمن القومي الإيراني وينفذها فيلق القدس الإيراني، يجد أن الموضوع أكبر من مجرد لحظة عابرة في التاريخ السياسي العراقي، ذلك أن الوصاية الدينية للعديد من المراجع ورجال الدين الشيعة على الحشد ومليشياته أصبحت تقليدًا دينيًا متبعًا، بحيث أصبحت كل مجموعة من المليشيات ترتبط برجل دين معين هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد أن طبيعة النسق العقيدي لقيادات الحشد الشعبي والمليشيات التابعة له، تظهر بأنه تكوين غير عشوائي الهدف والغاية.
فرغم أن الغاية الأساسية لنشأته كانت محاربة تنظيم داعش، وحماية المقدسات، فإن الأكبر من ذلك هو لخلق كيان موازٍ داخل العراق، وتنفيذ أهداف عابرة للحدود باتجاه دول الجوار تحديدًا، وبالتالي تحوله إلى وتد أساسي من أوتاد الإستراتيجية الإيرانية في العراق والشرق الأوسط.
سلطت الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو للعراق، الضوء على الدور الذي من الممكن أن تلعبه هذه المليشيات في خدمة الإستراتيجية الإيرانية حيال التحشدات العسكرية الأمريكية في المنطقة
أي دور ينتظر هذه المليشيات في “المواجهة القادمة”؟
تعول إيران كثيرًا على الدور الذي من الممكن أن تقوم به هذه المليشيات في “المواجهة القادمة” مع الولايات المتحدة الأمريكية، إذ لا يخفى على أحد أن إيران نجحت خلال الفترة الماضية بتزويد هذه المليشيات بأحدث أنواع الأسلحة والصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى، فضلًا عن تحديث سلوكياتها العسكرية من خلال الزج بها في الحرب السورية، وأظهرت الكثير منها التزامًا إستراتيجيًا بالخطط العامة التي رسمها فيلق القدس الإيراني في إدارته للعمليات العسكرية في مختلف ساحات الصراع.
سلطت الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو للعراق، الضوء على الدور الذي من الممكن أن تلعبه هذه المليشيات في خدمة الإستراتيجية الإيرانية حيال التحشدات العسكرية الأمريكية في المنطقة، إذ أوضح وزير الخارجية الأمريكي أن الولايات المتحدة الأمريكية لديها العديد من الأدلة والمعلومات الاستخبارية على نية هذه المليشيات شن هجمات مسلحة على المصالح الأمريكية في العراق، ولهذا لا بد للحكومة العراقية أن توضح موقفها من هذه التقارير، وأن تظهر التزامًا سياسيًا في تأمين هذه المصالح.
الحديث عن دور المليشيات المسلحة في العراق، أثار حفيظة الولايات المتحدة الأمريكية بصورة كبيرة بعد أن وضعت الحرب على تنظيم داعش أوزارها
إذ قالت صحيفة الأخبار اللبنانية في تقرير لها نشر يوم 11 من مايو/أيار 2019، إن بومبيو أبلغ العراقيين أن “الجماعات الموالية لإيران تبدو متفاعلة أكثر من إيران نفسها، كونها مستفيدة أولًا وأخيرًا من طهران، ما يجعل الولايات المتحدة في وضع لا يمكن السكوت عنه، وبالتالي فإن الرد لن يقتصر على الجانب العسكري، بل سيكون اقتصاديًا أيضًا، ومتعدد الجوانب”، وأضاف التقرير أن إستراتيجية المليشيات المسلحة لاستهداف المصالح الأمريكية في العراق تتراوح بين الخيارات الآتية:
1- قصف صاروخي على التجمعات الأمريكية (سفارة أو قواعد أو معسكرات).
2- كمائن ضد القوافل الأمريكية المسيرة في مختلف المحافظات العراقية، وتحديدًا في مناطق “غير متوقعة” أي المحافظات الشمالية والغربية.
3- خطف رعايا أمريكيين، وذلك مع تطور المواجهة، وبلوغها حدًا كبيرًا من التصعيد، وخصوصًا أن المناطق الجنوبية (محافظة البصرة على سبيل المثال)، تعج بمواطنين أمريكيين تطرح تساؤلات عن طبيعة مهماتهم، علمًا بأن معظمهم يوجدون هناك بصفة “خبراء نفطيين”.
بالإضافة إلى ما تقدم، نشر موقع استخباري إسرائيلي “ديبكا”، ما زعم أنه “معلومات خاصة” عن أحاديث سرية دارت بين وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو والمسؤولين العراقيين، خلال زيارته إلى بغداد مؤخرًا، وبحسب الموقع الإسرائيلي، فإن “الإدارة الأمريكية أرسلت تهديدًا مباشرًا إلى إيران، مفاده بأنه في حال مهاجمة حزب الله العراقي والفصائل الموالية لإيران في العراق، قاعدة التنف الأمريكية في سوريا، فإن واشنطن ستهاجم قواعد الحرس الثوري الإيراني نفسه”.
وذكر الموقع أيضًا، أن “تحركات قيس الخزعلي زعيم حركة عصائب أهل الحق المنتمية للحشد الشعبي، يجب أن تؤخذ على محمل الجد”، مشيرًا إلى أنه “بالنسبة لإدارة ترامب، فإن الهجوم بالوكالة على المصالح الأمريكية بمثابة عدوان مباشر من النظام الإيراني، ولفت الموقع الإسرائيلي إلى أن إيران زودت الخزعلي بترسانة من الصواريخ متعددة الوظائف.
على الرغم من صدور فتوى من السيد علي السيستاني بضرورة التزام العراق الحياد في الصراع الدائر بين إيران والولايات المتحدة، فإن هذه الفتوى لا يمكنها الصمود طويلًا لأسباب كثيرة
الحديث عن دور المليشيات المسلحة في العراق، أثار حفيظة الولايات المتحدة الأمريكية بصورة كبيرة بعد أن وضعت الحرب على تنظيم داعش أوزارها، وكانت حريصة بشكل كبير من خلال ضغطها المستمر على الحكومة العراقية بحل أو دمج هذه المليشيات، إلا أنها لم تتمكن من الوصول إلى معالجة حقيقية لهذه الإشكالية.
اليوم تواجه الولايات المتحدة الأمريكية التحدي ذاته، خصوصًا أنها تدرك جيدًا عدم قدرة الحكومة العراقية على ضبط إيقاع هذه المليشيات إذا اندلعت مواجهة مسلحة مع إيران، أضف لذلك فإنه على الرغم من صدور فتوى من السيد علي السيستاني بضرورة التزام العراق الحياد في الصراع الدائر بين إيران والولايات المتحدة، فإن هذه الفتوى لا يمكنها الصمود طويلًا لأسباب كثيرة، ومن أهمها أن أغلب المليشيات المسلحة في العراق، وتحديدًا الرئيسية منها، كحركة النجباء وحزب الله العراقي وعصائب أهل الحق وكتائب الإمام علي، تدين بالولاية العامة لمرجعية المرشد الأعلى علي خامنئي، وهي بذلك تربط نفسها عقائديًا وأمنيًا بإيران، ما يعني تحولها إلى آلة حرب مدمرة بيد إيران في العراق.