على أنقاض قرية الشيخ مُوَنِّس الفلسطينية المهجَّرة كما هو حال 530 قرية أخرى هُدمت بالكامل على الأرض في عام 1948 لإفساح المجال للمستوطنين القادمين من أوروبا، يقف الأوربيون مرة أخرى بدعوة من الاحتلال الإسرائيلي لحضور مسابقة الأغنية الأوربية “يوروفيجن” في تل أبيب وسط جدل سياسي كبير خلَّفته دعوات وحملات للمقاطعة وتهديدات من قِبل الفصائل الفلسطينية بقوتها العسكرية للتأثير على سير المسابقة حال لم يلتزم الاحتلال الإسرائيلي برفع الحصار عن غزة وتنفيذ التفاهمات التي جرت خلال الآونة الأخيرة، فيما أُثيرت حفيظة اليهود المتدينين.
سلاح المقاطعة
منذ اللحظة التي أُعلن فيها إقامة مسابقة الأغنية الأوروبية “يوروفيجن” في “إسرائيل” انتشرت الدعوات على منصات التواصل الاجتماعي لمقاطعة المهرجان الغنائي الأوروبي الأضخم بسبب الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين.
يبدو أن تحركات المقاطعة جعلت هذه النسخة الأسوأ، وكان يعول الاحتلال على جعلها من أفضل النسخ
حملات المقاطعة انطلقت بعدة لغات، ولاقت تفاعلاً كبيرًا واستجابة واسعة، وكان على رأسها تفاعلات “حركة مقاطعة إسرائيل” المعروفة اختصارًا بـ”بي دي إس” التي تحدثت في بيان لها على فيسبوك عن فشل حكومة الاحتلال في إقامة هذه المسابقة في القدس واُضطرت لنقلها إلى تل أبيب، رغم الجهود المسخَّرة لإنجاحها.
ويبدو أن تحركات المقاطعة جعلت هذه النسخة الأسوأ، وكان يعول الاحتلال على جعلها من أفضل النسخ من واقع عدد المشاركين والعائدات المالية والاقتصادية التي ستعود عليها نتيجة لاستضافة هذه النسخة من المسابقة الغنائية الشهيرة.
وخلال الأسابيع الأخيرة كثف النشطاء الفلسطينيون نشاطاتهم وحفلاتهم الرافضة لإقامة المهرجان ودعوا إلى مقاطعته، وامتد الرفض والمظاهرات لمكان إقامة المهرجان في تل أبيب التي بثت مواد ترويجية خالفت بحسب الفلسطينيين القانون الدولي، وعملت على إلغاء أي وجود لدولة فلسطين وشعبها.
وبالتزامن مع مهرجان الأغنية الأوروبية التي تستضيفه “إسرائيل”، وجهت غزة رسالة للعالم بطريقة مختلفة من خلال تنظيم مجموعة من الفنانين لحفل غنائي على ركام وأنقاض المنازل التي دمرها الاحتلال الإسرائيلي في العدوان الأخير على قطاع عزة، وذلك في خطوة لمناهضة أكبر برنامج مسابقات موسيقي في العالم من حيث الحجم وعدد المشاركين والدول المشاركة وقنوات البث.
الحفل الغنائي الذي أقيم بالتزامن مع “يوروفيجن” في” إسرائيل”
المبادرة أُطلق عليها “غزة فيجن” Gazavision) أو Gaza Message)، حيث استطاع فنانو غزة – الذين قدموا وصلات غنائية من التراث الشعبي الفلسطيني – إرسال رسالة بلغة الفن إلى العالم والمشاركين في حفل “يوروفيجن” من خلال عزف ألحان مارسيل خلفية وإنشاد أغانٍ وطنية في رسالة للعالم أن غزة تجيد الحياة رغم العدوان والدمار الذي تسبب له الاحتلال لتلك المدينة.
على صعيد متصل، أطلق فنانون فلسطينيون وعالميون على رأسهم رشا نحاس وتامر نفار حملة تحت اسم “جلوبال فيجن” (Global Vision) بالتزامن مع إطلاق “يوروفيجن”، وسوف تُقام فاعلياتها في بيت لحم وبرلين لإعطاء صوت للفلسطينيين الذين لا يمكنهم المشاركة في مهرجان الأغنية الأوروبية، ويشارك في الحدث الفلسطيني موسيقيون فلسطينيون بارزون، ومن دول أخرى بينهم الموسيقي والمنتج البريطاني المعروف بريان إينو.
وعلى مسافة قريبة من الحدث الغنائي، كانت هناك احتجاجات منتظمة من جانب الجماعات الموالية للفلسطينيين، التي ترى أن حضور “يوروفيجن” يدعم “إسرائيل” ورغبتها في صرف الانتباه عن حقائق الاحتلال من خلال تصوير تل أبيب كمكان للحريات، وهو ما استدعى حالة من الاستنفار الأمني وانتشار الشرطة المسلحة حول مجمع “إكسبو تل أبيب” وكذلك سيارات الدورية والدراجات النارية مع مرور المتفرجين عبر أجهزة كشف المعادن وخضوعهم لفحوص أمنية دقيقة.
كيف تأثر “يوروفيجن” في نسخته هذا العام؟
خصصت “إسرائيل” 145 مليون شيكل (53 مليون دولار) لميزانية المسابقة، كما كانت تتوقع أن تزيد إيراداته على 100 مليون شيكل من خلال استضافة هذه المسابقة التي يشارك فيها فنانون من 40 دولة، لكن تنظيمه في تل أبيب هذا العام سبب الخسائر، ويرجع ذلك إلى ضعف الحضور بشكل لافت، حيث لم يُبع ثلث تذاكر الحفل الافتتاحي بحسب ما ذكرت القناة الثانية الإسرائيلية.
منظمو الحفل توقعوا زيارة عشرات الآلاف من السياح إلا أن الواقع جاء مغايرًا، إذ لم يتجاوز العدد 5 آلاف سائح بحسب ما ذكرت حركة مقاطعة “إسرائيل”، وهو رقم ضئيل مقارنة بما استقطبته المسابقة في البرتغال العام الماضي (90 ألف سائح)، حيث تمثل المسابقة موسمًا سياحيًا مهمًا للدولة المستضيفة.
تأتي هذه الأرقام تأكيدًا على أهمية ونجاعة وتأثير المقاطعة الفنية والثقافية الشاملة للاحتلال الإسرائيلي للتصدّي لمحاولاته توظيف الفن والرياضة والسياحة للتغطية على جرائمه المستمرة بحق الشعب الفلسطيني منذ عقود طويلة
وفضلاً عن انخفاض أسعار الفنادق بنسبة 70%، وصل الأمر بهيئة الإذاعة الإسرائيلية حد توزيع تذاكر مجانية على الجنود والمقيمين في المستوطنات المحيطة بغزة في محاولةٍ يائسةٍ لملء مقاعد حضور العروض وردم الفجوة الكبيرة التي طرأت على أرقام السياح والوافدين للمشاركة.
تأتي هذه الأرقام صفعةً في وجه التنبؤات الإسرائيلية والآمال التي علّقت على نجاح المسابقة، كما تأتي أيضًا تأكيدًا على أهمية ونجاعة وتأثير المقاطعة الفنية والثقافية الشاملة للاحتلال الإسرائيلي للتصدّي لمحاولاته توظيف الفن والرياضة والسياحة للتغطية على جرائمه المستمرة بحق الشعب الفلسطيني منذ عقود طويلة.
ولم تغب المقاومة الفلسطينية هي الأخرى عن التأثير في فعاليات المسابقة، إذ تعرَّض البث المباشر على الإنترنت للمرحلة قبل النهائية من المسابقة الغنائية الأوروبية إلى اختراق تسبب في قطعه وظهور مشاهد مفبركة لانفجارات في تل أبيب، واتهمت شبكة التلفزة الوطنية الإسرائيلية حركة “حماس” بالمسؤولية عن هذا الاختراق، لكن الحركة لم تعلق.
وقبل أسبوعين، ألغت “إسرائيل” أحد العروض الخاصة بفعاليات مسابقة “يوروفيجن”، الذي كان من المفترض أن يقام في مستوطنة “موديعين” بمشاركة فنانين إسرائيليين، وذلك في أعقاب تهديد المقاومة الفلسطينية عبر رسائل متعددة بعدم السماح بإقامة المسابقة حال استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة.
“يوروفيجن” الأكثر تسييسًا في التاريخ
سعت “إسرائيل” منذ البداية لاستخدام المسابقة كمكسب سياسي، إذ خططت لاستضافة الحدث في مدينة القدس ضمن مخططها للترويج للقدس عاصمة لـ”إسرائيل”، وسط المجتمع الدولي، إلا أن منظمي المسابقة اختاروا تل أبيب كحل أفضل لاستضافة الحدث.
وبالنسبة لـ”إسرائيل” فإن هذه العروض الغنائية أكثر من مجرد مسابقة موسيقية، كما تقول مجلة “لوبوان” الفرنسية في تقرير أشارت فيه إلى مسابقة “يوروفيجن” باعتبارها فرصة لبعض البلدان لتأكيد هويتها، ذلك أنها تشكل وسيلة للقوة الناعمة، ومسرحًا للتوترات الجيوسياسية، ونقلاً للرسائل السياسية، خاصة أن البلدان المشاركة فيها لا تعمل على إثبات مواهبها الغنائية وإنما على دفع العالم للاعتراف بالصورة التي تريد إظهارها لنفسها.
ولم تخل “يوروفيجن” هذا العام من الرسائل السياسية، وخاصة في الليلة الختامية للمسابقة، فقد فاجأت فرقة “هاتاري” الإيسلندية المشاركة في المسابقة المشاركين برفع علم فلسطين في أثناء التصويت، وأثارت خطوة الفريق هذه سخط بعض الحاضرين، كما أنها أحرجت منظمي الحفل الذين أسرعوا إلى مصادرة العلم الفلسطيني وسط أصوات الاستهجان من الحاضرين الإسرائيليين تجاه الفرقة المعروف عنها معارضتها المعلنة للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
وعلى الرغم من ردود الفعل السياسية على البلد المضيف هذا العام، كان لدى مغنية البوب الأمريكية الشهيرة مادونا رسالة خاصة بها، حيث شهدت فقرة مادونا – التي كانت ضيفة على المهرجان – رفع العلمين الفلسطيني والإسرائيلي على ظهر اثنين من أعضاء فرقتها، وهما يرقصان خلفها، بجوار بعضهما البعض، حيث ظهر العلم الإسرائيلي مرسومًا على قميص الفتى من الخلف، بينما ظهر العلم الفلسطيني مرسومًا على قميص الفتاة، الأمر الذي أثار الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي.
هذا العرض الذي وصفته صحيفة “يسرائيل هيوم” المقربة من الحكومة بأنه “رسالة سياسية في مسابقة غير سياسية” قوبل بالكثير من الاستهجان داخل “إسرائيل” وخارجها، بعدما ظهرت راقصة أخرى مرتدية لما يبدو وكأنه قناع الحماية من الغاز مرصعًا بالورود، وأدَّى ذلك إلى هجوم وسائل الإعلام الإسرائيلية الأخرى على مغنية البوب الأشهر في العالم، واعتبرت أن ما قامت به يمثل استفزازًا من ضيفة الشرف وخيبة أمل كبيرة فاقت التوقعات.
تتزامن إقامة حفل “يوروفيجن” مع ذكرى النكبة الفلسطينية الـ71، ومرور السنة الأولى على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس بقرار من واشنطن
وكانت مادونا قد رفضت الدعوات إلى عدم مشاركتها في نهائيات مسابقة “يوروفيجن” في تل أبيب، باعتبارها واجهة لتجميل الاحتلال للأراضي الفلسطينية، إلا أنها واجهت الأمر بمحاولة توجيه رسالة عما وصفته التعايش السلمي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وقالت إنها ستدافع دائمًا عن حقوق الإنسان وتأمل أن ترى “مسارًا جديدًا نحو السلام”.
يرد عضو “الحملة الفلسطينيّة للمقاطعة الأكاديميّة والثقافيّة لإسرائيل” حيدر عيد في رسالة وجهها لمادونا والمتسابقين في “يوروفيجن” أن دعم السلام حقًا يعني التأكيد على حقيقة أن فلسطين تحت الاحتلال، وأن “إسرائيل” انتهكت العديد من قرارات الأمم المتحدة التي تدعو إلى انسحاب قواتها من الأراضي الفلسطينية، وهذا يعني الاعتراف بأن “إسرائيل” ومستوطناتها غير القانونية تعمل تحت نظام الفصل العنصري، حيث يتم عزل الفلسطينيين وقمعهم، وهذا يعني الاعتراف بأن “إسرائيل” بنيت على أرض تم تطهيرها عرقيًا وتهجير سكانها الأصليين.
أعضاء من فريق مادونا يرفعون علم فلسطين و”إسرائيل” خلال مسابقة “يوروفيجن” 2019
“اليوروفيجن” هو الحفل الغنائي الأشهر في العالم، وهو مسابقة غنائية ينظمها اتحاد البث الأوروبي منذ عام 1956، وأكبر حدث غير رياضي من حيث عدد المشاهدين، إذ يُقدَّر عدد مشاهديه بين 100 و600 مليون شخص حول العالم، وتُعد المسابقة التي تُنظم دورتها الـ64 على مستوى القارة الأوروبية الحدث الأكبر والأبرز في نظر “إسرائيل” خلال عام 2019.
وجرت المسابقة هذه السنة في تل أبيب للمرة الأولى منذ عقدين، بعد فوز الإسرائيلية نيتا بارزيلاي بالمسابقة العام الماضي بأغنيتها لتمكين المرأة “لعبة”، حينها سرت الشكوك عن إمكان اختيار تل أبيب لاستضافة مسابقة 2019، وأرادت شخصيّات سياسية إسرائيلية مثل وزيرة الثقافة اليمينية ميري ريغيف أن تكون القدس مركز المسابقة لأسباب سياسية.
وتتزامن إقامة حفل “يوروفيجن” مع ذكرى النكبة الفلسطينية الـ71، ومرور السنة الأولى على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس بقرار من واشنطن، وقّع عليه ترامب نهاية عام 2017، ونُفّذ في ذكرى النكبة التي تحتفل بها “إسرائيل” كيوم وطني يصادف ذكرى إقامة دولتهم على الأراضي الفلسطينية.
ويؤكذ هذا التوقيت مدى حرص “إسرائيل” على استخدام الموسيقى كأداة سياسية، وهذا ما أثبته رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حينما مدح نيتا بارزيلاي المغنية الإسرائيلية الفائزة باللقب لمسابقة “يوروفيجن” العام الماضي، قائلاً إنها قامت بفعل استثنائي لعلاقات “إسرائيل” الدولية”، مضيفًا أن “إسرائيل” تتمتع بـ”قوات مُبدعة”.