مع استمرار حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني منذ أكثر من 14 شهرًا، تتصاعد التحديات التي تواجه القضية الفلسطينية، ما يضعها أمام مفترق طرق في ظل أخطار تهدد وجودها ومكانتها على الصعيدين الإقليمي والدولي. وفي الوقت الذي يستمر فيه الانقسام الداخلي وتزداد التغيرات الإقليمية بشكل متسارع، تبرز تساؤلات ملحة حول إمكانية تحقيق الوحدة الوطنية، ومصير مساعي التهدئة مع الاحتلال، بالإضافة إلى السيناريوهات المحتملة في هذه المرحلة الدقيقة والمصيرية.
في هذا السياق، أجرى “نون بوست” مقابلة خاصة مع الأستاذ صادق أبو عامر، رئيس مجموعة الحوار الفلسطيني، وأحد أبرز الباحثين المتخصصين في الشأن الفلسطيني. تناول الحوار قراءة شاملة لأبرز العقبات التي تحول دون تحقيق الوحدة الوطنية، وتحليله لمساعي التهدئة الجارية، إلى جانب رؤيته للسيناريوهات المستقبلية التي قد ترسم ملامح المرحلة القادمة في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي والتحديات الإقليمية والدولية.
هذا الحوار، الذي يتناول أبرز القضايا الوطنية برؤية تحليلية عميقة، يُلقي الضوء على المسارات الممكنة للخروج من الأزمات الراهنة، ويطرح أولويات العمل الوطني المطلوبة لحماية القضية الفلسطينية وضمان حقوق الشعب الفلسطيني في مواجهة التحديات الكبرى.
ما تقييمك للمشهد الفلسطيني بعد مرور أكثر من 14 شهرًا على حرب الإبادة المستمرة ضد الشعب الفلسطيني؟ وما هو تقديرك لسيناريوهات “اليوم التالي”؟
المشهد الفلسطيني بعد أكثر من عام من العدوان يعكس واقعًا مؤلمًا ومأساويًا بشكل غير مسبوق على المستويين الإنساني والسياسي.
هذه الحرب لم تعد تُفسَّر باعتبارها انتقامًا لما جرى في السابع من أكتوبر أو مشروعًا للقضاء على المقاومة أو حركة حماس، بل بات واضحًا أنها مخطط مدروس يهدف إلى تغيير الواقع الديمغرافي الفلسطيني داخل حدود فلسطين التاريخية، الذي كان يسير بوضوح لصالح الشعب الفلسطيني. كما تهدف إلى منع إقامة دولة فلسطينية وفقًا للقانون الدولي والشرعية الدولية، بالإضافة إلى فرض ترتيبات أمنية طويلة الأمد يخضع لها الشعب الفلسطيني وأي سلطة تنبثق عنه، وخلق حقائق على الأرض يصعب التراجع عنها.
لذلك، كنا نعتقد ولا نزال أن أي ثمن يمكن أن يدفعه الفلسطينيون لإيقاف الحرب هو أقل من ثمن استمرار حرب الإبادة، حيث وجود الشعب الفلسطيني والوضع الإنساني الذي يعيشه أهلنا في قطاع غزة فوق أي اعتبار ويتجاوز أي حسابات سياسية، وهو ما يدفعنا إلى إعادة النظر في العديد من القضايا المرتبطة بهذه المسألة. هذه القضايا تتطلب، بالتوازي مع ما جرى من طوفان ميداني “طوفان الأقصى”، الحاجة إلى طوفان سياسي يواكب هذا الزلزال الذي أصبح حدثًا مفصليًا غيّر الكثير من قواعد الصراع في المنطقة.
ولا يخلو الأمر من بعض الانتقادات التي تسعى إلى تسليط الضوء على جوانب التقصير، وفهم تعقيدات الواقع، والإشارة إلى سبل تجاوز المستنقع الذي يسعى الاحتلال لإغراق الشعب الفلسطيني فيه. وهو ما يضعنا جميعًا أمام واجب الإجابة عن التحديات والتوحد حول مبادئ جامعة، لتعزيز التكامل مع صمود الشعب الفلسطيني في فلسطين، الذي يواجه مشروع الاحتلال الساعي لاستكمال نكبة الشعب الفلسطيني.
ورغم القدرات المحدودة وفجوة القوة مع العدو، فإن هذه الأهداف العدوانية لا تبدو قابلة للتحقق مهما بلغت قوة البطش المستخدمة، فالشعب الفلسطيني، بوعيه العميق وإدراكه لتلك المخططات، لم يرضخ رغم الثمن الباهظ الذي دفعه من التضحيات الجسيمة. وعلى الرغم من مواجهته آلة القتل بصدوره العارية وأسلحة بسيطة صنعها بيده، إلا أن قراره الواضح هو رفض المعادلات التي يحاول الاحتلال فرضها، مع التمسك بمسار سياسي يقود إلى وقف إطلاق النار والتأكيد على ضرورة إنهاء الحرب.
لقد أظهرت هذه الحرب أن أهداف اليمين الصهيوني ليست سوى أوهام. الفلسطينيون لا يزالون يملكون شروط التسوية النهائية مهما كانت الظروف، وسيخرجون من هذه المحنة أكثر قوة على المدى الطويل. بالتوازي، ستواجه إسرائيل تحديات كبيرة على صعيد معادلاتها الأمنية وشرعيتها الدولية، فضلًا عن تماسكها الداخلي واهتزاز مكانتها ووظيفتها ضمن تحالفاتها الغربية. ولن تتمكن من إلغاء وجود الشعب الفلسطيني أو دفعه نحو خيارات تُلحق الضرر بقضيته، أو تعزله عن محيطه العربي والإسلامي، أو تجبره على التخلي عن حقه في تقرير مصيره وإقامة دولته.
ومع ذلك، فإن صمود الشعب الفلسطيني، الذي بات واضحًا للجميع، لا يكفي وحده لفرض وقف إطلاق النار، بل يتطلب جهودًا كبيرة للبحث عن مخارج لهذا الصراع تضمن الحفاظ على شروط الحد الأدنى لتسوية تقود إلى إنهاء الحرب.
في هذا الإطار، يجب تعزيز التضامن بين كل مكونات الحركة الفلسطينية والاستعداد لأن تكون الخلافات على السلطة والنظام السياسي جزءًا من الماضي، والتحرك نحو المستقبل بعقل واعٍ وقلب مفتوح. الوحدة الوطنية هي السبيل للخلاص من إهانة الاحتلال والشعور بالقدرة على إقامة الدولة وإدارتها.
رغم أنها جاءت كخطوة متأخرة، فقد تحقق تقدم ملموس في اجتماعات القاهرة نحو بلورة رؤية فلسطينية مشتركة وتوافقية لإدارة قطاع غزة، سواء خلال الحرب أو كمدخل لإنهائها. وهو مطلب فلسطيني داخلي قبل أن يكون مطلبًا خارجيًا. يأتي ذلك في إطار العمل على سحب الذرائع من الاحتلال لإطالة أمد الحرب، وهي بمثابة إجابة فلسطينية مشتركة على سؤال “اليوم التالي للحرب”، رغم ما ينطوي عليه المصطلح من تضليل. لكن بات هذا المصطلح جزءًا من مفردات المفاوضات والاتصالات الإقليمية والدولية.
كل ذلك يعتمد على إسناد عربي وإقليمي لهذه الرؤية. ومن هنا، يجب أن نبني جهودنا وسياساتنا على القيم والمصالح المشتركة مع محيطنا وظهيرنا العربي والإسلامي، على أساس من الثقة والطمأنينة.
ما رأيك بفكرة “لجنة الإسناد المجتمعي” في قطاع غزة؟ وكيف ترى فرص نجاحها في ظل المعطيات الواقعية؟ وما هي أبرز المتطلبات اللازمة لتحقيق هذا النجاح؟
“لجنة الإسناد المجتمعي” هي مبادرة مصرية تعكس قراءة واقعية للمشهد الفلسطيني والواقع الإقليمي والدولي. يعتقد الجانب المصري أن اتفاق الفلسطينيين حول هذه اللجنة سيُسهم بشكل مباشر في جهود وقف إطلاق النار. وهي بمثابة إجابة فلسطينية موحدة على كيفية إدارة قطاع غزة بعد الحرب، بحيث تراعي حسابات كل طرف: حركة حماس، السلطة الفلسطينية، الجانب الإسرائيلي، والموقف الدولي، خاصة موقف واشنطن، بما يتماشى مع الواقع الميداني والسياسي الراهن في قطاع غزة.
حيث لا يمكن تجاهل حركة حماس والبنية الإدارية والمدنية التي بنتها خلال أكثر من 17 عامًا، كما لا يمكن تفادي الهدف المعلن للحرب، المتمثل في إخراج حركة حماس من مشهد الحكم في قطاع غزة. في الوقت نفسه، لا يمكن تجاوز السلطة الفلسطينية كمصدر شرعية لأي بنية إدارية أو سلطوية في القطاع.
وفقًا لديباجة الورقة، تُعتبر اللجنة إجراءً مؤقتًا يمتد لمدة عام، على أن تُجرى بعد ذلك انتخابات عامة في كل الأراضي الفلسطينية. كما تؤكد الورقة على الوحدة الإقليمية لكل من قطاع غزة والضفة الغربية، وأن منظمة التحرير الفلسطينية هي صاحبة الولاية القانونية على كلا المنطقتين بصفتها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. هذه النصوص تهدف إلى التحوّط من أي انعكاسات سلبية على وحدة الضفة وغزة، ورفض أي محاولة لفصل القطاع عن الكيان الفلسطيني.
كان المأمول تنفيذ بنود اتفاق بكين، الذي مثلت نصوصه الأكثر تطورًا على صعيد التفاهمات الفلسطينية. لكن الوضع الفلسطيني الحالي والاشتراطات الدولية والإقليمية حالت دون تنفيذ الاتفاق، الذي نصّ بوضوح على تشكيل حكومة واحدة لكل من الضفة الغربية وقطاع غزة. تتحمل القيادات الفلسطينية، بدرجات متفاوتة، مسؤولية التأخر في تطبيق هذا الاتفاق، وخاصة قيادة السلطة في رام الله التي خضعت، بطريقة ما، لضغوط إسرائيلية وأمريكية.
على أي حال، تبقى هذه اللجنة، على الرغم من بعض المآخذ المتعلقة بآليات عملها، خطوة فلسطينية متأخرة وأقل من المطلوب لتسهيل الوصول إلى وقف دائم لإطلاق النار. وهي محاولة لتعزيز العامل الفلسطيني في أي مفاوضات أو ترتيبات إقليمية تتعلق بمصير القضية الفلسطينية ومستقبل المنطقة.
مع الأسف، هذا هو الحد الأدنى الذي نجح الفلسطينيون في تحقيقه في ظل المرحلة المعقدة والخطيرة التي يعيشونها، والتي عنوانها “شطب الكيانية الفلسطينية” وعدم الاعتراف بالفلسطينيين كجماعة وطنية. لذا، من المتوقع الإعلان عن هذه اللجنة في الأيام القليلة المقبلة، لتكون أول جهد سياسي فلسطيني ذو مغزى يضع الفلسطينيين على طاولة المفاوضات بهدف تقرير مستقبلهم.
يبقى التحدي الأكبر في التطبيق الفعلي لهذه اللجنة. على الرغم من احتمال حصولها على دعم إقليمي وموافقة دولية، لا توجد ضمانات بأن توافق إسرائيل عليها. مع ذلك، فإن رفض إسرائيل سيضعها في مواجهة ضغوط دولية متزايدة لإبرام اتفاق نهائي لوقف الحرب، مما قد يُفشل مخططات ظهرت مؤخرًا، مثل “خطة الجنرالات” التي تقضي بتفريغ شمال قطاع غزة، أو “الفقاعات الأمنية” التي ستُنفذ بالتعاون مع شركات أمنية أمريكية، خصوصًا في شمال القطاع.
إن إنشاء اللجنة بمرسوم رئاسي يُظهر التزام هذه اللجنة بمرجعية وطنية متفق عليها، كما ستخضع اللجنة لإشراف حكومي لكنها ستتمتع باستقلالية واسعة في إدارة ملفات رئيسية، مثل ادارة المساعدات وإعادة الإعمار وبعض القضايا الأمنية، باستثناء معبر رفح الذي سيُدار من قبل السلطة الفلسطينية وفق اتفاقية الرباعية لعام 2005، بمشاركة مراقبين أوروبيين ورقابة إسرائيلية عن بُعد.
رغم كل التضحيات، فإن هذه اللجنة لا تمثل طموحات الشعب الفلسطيني الذي قدم تضحيات جسام خلال هذه الحرب. ومع ذلك، فإنها خطوة ضرورية لإنهاء الحرب وقطع الطريق على محاولات إسرائيل لترسيخ وجودها الأمني والعسكري في القطاع.
إلى أي مدى تعتقد أن المشهد الفلسطيني الداخلي يقترب من تحقيق التوافق والوحدة الوطنية في ظل التحديات الراهنة؟
الوحدة الوطنية ضرورة فلسطينية وحتمية سياسية في هذه المرحلة الحساسة التي يمر بها الشعب الفلسطيني في أخطر مراحل نضاله ووجوده على أرضه والحفاظ على هويته.
أظهرت اجتماعات القاهرة الأخيرة مؤشرات إيجابية للتقارب في الرؤى، بما يتماشى مع ما تم إقراره في المؤسسات والمرجعيات الفلسطينية. في هذه المرحلة الراهنة، تم الاتفاق على المقترح المصري “لجنة الإسناد المجتمعي”، وهي صيغة توافقية لإدارة قطاع غزة في مرحلة ما بعد الحرب، بما في ذلك تعزيز دور السلطة الفلسطينية.
كما يوفر هذا المقترح خروجًا آمنًا لحماس من مشهد الحكم في قطاع غزة، مع المحافظة على دور سياسي وازن لها في المعادلة الداخلية الفلسطينية، وإمكانية مفتوحة لمشاركتها في إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني وأي ترتيبات مستقبلية في مسار إقامة الدولة الفلسطينية. مع ذلك، لا تزال هناك تحديات أيديولوجية وسياسية تعيق تحقيق توافق شامل.
أبرز هذه التحديات يتمثل في عدم الوصول إلى برنامج سياسي مشترك يعكس الأولويات الفلسطينية في هذه المرحلة، بالإضافة إلى غياب الاتفاق على آلية تضمن تمثيل جميع القوى في المؤسسات الفلسطينية وأي إدارة مستقبلية. تم ترك مثل هذه القضايا لتُحسم عبر الانتخابات، رغم وجود اتفاقات سابقة تنظم هذه العمليات، مثل إطار الأمناء العامين للفصائل.
التحديات المتعلقة بلجنة الإسناد المجتمعي والتنسيق العملي على الأرض لا تزال غير واضحة المعالم. هناك مخاوف من أن تصبح اللجنة مدخلًا لتكريس الفصل بين قطاع غزة والضفة الغربية، بدلًا من أن تكون مقدمة لإنهاء الانقسام. هذا الأمر قد يؤثر سلبًا على فرص إقامة الدولة الفلسطينية.
كل هذه التحديات تشير إلى الحاجة إلى مزيد من الحوار على مستوى النخب الفلسطينية، وعدم اقتصار الأمر على قطبي السياسة الفلسطينية فقط.
ينبغي توسيع قاعدة المشاركة في هذا الحوار ليشمل مستويات تنظيمية مختلفة، بالإضافة إلى إطلاق منصات حوار يشارك فيها المثقفون، وشرائح فلسطينية من الشباب والمرأة، وفعاليات اقتصادية ودينية. الهدف من ذلك هو المشاركة في صياغة مستقبل يعكس تطلعات الفلسطينيين، وأداة للضغط على القادة لإنجاز برنامج سياسي عملي يتماشى مع أهداف المشروع الوطني الفلسطيني.
في أي سياق يمكن وضع المرسوم الرئاسي القاضي بتكليف رئيس المجلس الوطني رئيسًا بالإنابة في حال شغور موقع رئاسة السلطة؟ وما هو التكييف القانوني والسياسي لهذه الخطوة؟ وكيف يمكن أن تنعكس على جهود تحقيق الوحدة الوطنية؟
المرسوم الرئاسي من جهة يمكن قراءته بأنها خطوة تهدف إلى ضمان استمرارية عمل المؤسسات الفلسطينية ومنع حصول فراغ في السلطة، في حال الغياب المحتمل لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، بحكم عامل العمر والوضع الصحي الذي لا يمكن التنبؤ به، أو لأي أسباب أخرى قد تؤدي إلى خروجه من المشهد.
هذا السيناريو قد يُدخل النظام السياسي الفلسطيني في حالة فراغ خطيرة لا تُحمد عقباها، ولمنع استغلال هذا الوضع من جانب إسرائيل لخلق فوضى في الضفة الغربية تخضع لسيطرتها في إطار رؤيتها الأمنية. لكنه من جهة أخرى يثير تساؤلات قانونية ترتبط بالخلط في الصلاحيات بين السلطة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية.
هذا الخلط يتعلق بالاختصاصات القانونية للمراسيم ومدى ولايتها، إلى جانب إحلال مؤسسات بمهام وصلاحيات مؤسسات أخرى دون أن يكون ذلك مستندًا إلى توافق وطني فلسطيني شامل.
مثل هذا الإجراء، في حال عدم معالجته وفق الأسس القانونية والدستورية المناسبة، قد يؤدي إلى تداعيات سلبية على بنية النظام السياسي الفلسطيني وهيكليته، مما يستدعي حوارًا وطنيًا واسعًا لضمان احترام الأطر القانونية وحماية مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني من أي تعديلات غير توافقية.
من جهة ثالثة يعكس مرسوم تعيين روحي فتوح السلوك المعتاد في قرارات الرئيس محمود عباس التفرد في القرار، وتجاهل أن منع الفراغ المحتمل في حال غيابه يتطلب أكثر من مجرد إصدار مرسوم بتكليف رئيس المجلس الوطني رئيسًا بالإنابة.
الحاجة في مثل هذه الحالة تتطلب سلسلة من التوافقات داخل أطر منظمة التحرير الفلسطينية وعلى مستوى الساحة الفلسطينية ككل، لتجاوز هذا الفراغ المحتمل الذي يلوح في الأفق. وعلى الرغم من إمكانية الجدل بشأن الحق القانوني في سنّ مثل هذه المراسيم، إلا أن الوضع السياسي الفلسطيني لا يمكن التعامل معه من منظور قانوني بحت.
هناك حاجة ماسة إلى إنتاج توافقات شاملة لكل مرحلة، خاصة في ظل الاستهداف الإسرائيلي المتواصل لإضعاف المؤسسات الفلسطينية، واستغلال التناقضات الداخلية لخلق وتعزيز الانقسامات.
السبيل الوحيد لإحباط سياسات الاحتلال يكمن في اعتماد صيغ توافقية وتوسيع قاعدة المشاركة في القرار السياسي الفلسطيني.
هذا التوجه ضروري لتحصين المؤسسات وضمان قدرتها على إدارة المرحلة الحرجة التي تمر بها القضية الفلسطينية، وضمان التزام الجميع بما تقرره المؤسسات الفلسطينية. لذلك، فإن نجاح هذه الخطوة مرهون بتوسيع دائرة المشاورات مع جميع الفاعلين في الساحة الفلسطينية، والالتزام بمبدأ الشراكة الوطنية.
كيف تُقيّم مؤشرات إمكانية التوصل إلى تهدئة في الجولة الحالية من المفاوضات؟ وما هي أبرز عناصر القوة والضعف في هذا المسار، خصوصًا في ظل الحديث عن صفقة ذات طبيعة “مرحلية” دون التزام إسرائيلي واضح بوقف الحرب؟
حتى الآن، تشير جميع المؤشرات إلى أننا ذاهبون نحو اتفاق مرحلي يمكن أن يتحول إلى اتفاق شامل، بناءً على جدية المفاوضات وتخلي الجانب الإسرائيلي عن التعنت، سواء بسبب عوامل داخلية أو ضغوط دولية وإقليمية.
يعود ذلك لأسباب موضوعية، حيث إن حركة حماس، من خلال موافقتها على المقترح المصري الخاص بإدارة قطاع غزة عبر “لجنة الإسناد المجتمعي”، تكون قد فككت إحدى الذرائع التي تستخدمها إسرائيل لإطالة أمد الحرب، وهي خروجها من مشهد الحكم في قطاع غزة. ومع اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، تقلصت خيارات حماس، مما دفعها إلى التراجع عن رهاناتها بشأن استراتيجية وحدة الساحات وإمكانية إشعال حرب إقليمية تغير معادلة الصراع مع إسرائيل.
في المقابل، يمثل اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان نجاحًا إسرائيليًا نسبيًا ضمن استراتيجية “فصل الساحات”، ما يعني تآكلًا في شرعية الحرب الإسرائيلية. وإذا ما أرادت إسرائيل الاستثمار في نتائج الجهد العسكري والتفوق الاستخباراتي الذي أظهرته آلة القتل الإسرائيلية في لبنان وغزة، فلن يكون أمامها سوى إبرام صفقة لتبادل الأسرى، خاصة في ضوء المرونة التي تُظهرها حركة حماس في التعاطي مع هذا الملف.
يضاف إلى ذلك مرونة حماس في مسألة الانسحاب الكامل من قطاع غزة، حيث لا تزال تتمسك بهذا الشرط، لكنها أبدت استعدادًا لتطبيقه تدريجيًا مع مرونة في الجداول الزمنية، وأخذ الضمانات اللازمة لتنفيذه.
في الوقت نفسه، تبدو حكومة الاحتلال تواجه تحديات داخلية في ظل تقلص أهداف الحرب بعد مرور 14 شهرًا دون حلٍّ لأزمة الرهائن، وهي الهدف الأهم المُعلن لهذه الحرب. وقد تصاعد التفاعل الداخلي بشأن ملف الرهائن بشكل كبير بعد نجاح حماس في تحريك الملف من خلال التسريبات حول أعداد الأسرى الأحياء، بعدما كانت التقارير الإسرائيلية تحاول خلق انطباع بأنهم لم يعودوا على قيد الحياة.
هذا التطور جعل القضية أولوية أولى للمجتمع الإسرائيلي، مما زاد من الضغوط على نتنياهو وقوض جزءًا رئيسيًا من ادعاءاته بتحقيق إنجاز عسكري على جبهتي غزة ولبنان دون الإفراج عن الرهائن، وهو ما يُعد المؤشر الأوضح للإخفاق العسكري من جهة خصومه في الداخل. لذا، لم يعد أمامه خيارات سوى التفاوض والإفراج عنهم ضمن صفقة.
كما تزايدت القناعة داخل المؤسسة العسكرية والأمنية بأن تكلفة السيطرة على غزة باهظة الثمن أمنيًا واقتصاديًا، وأن عدم السيطرة سيخلق فراغًا أمنيًا قد يؤدي إلى نشوء قوى جديدة أكثر عنفًا من حركة حماس، أو أن هذه الأوضاع قد تعيد حماس مرة أخرى لإدارة الوضع في قطاع غزة. هذا يعني أن استمرار العمل العسكري دون ربطه بهدف سياسي لن يحقق أهدافًا أمنية مستدامة لإسرائيل.
لذا، تبرز الحاجة إلى الصفقة كنوع من استثمار ما تم تحقيقه ميدانيًا. ولا يجب تأخير هذه العملية الضرورية وفقًا لرؤية المؤسسة الأمنية والعسكرية. يضاف إلى ذلك الأهمية القصوى للالتفات إلى ملفات أكثر حساسية في ساحات أخرى، مثل مستجدات الوضع في سوريا، حيث إن سقوط النظام السوري سيخلق ديناميات جديدة في المنطقة من حيث خريطة التهديدات أو نوع الفرص التي قد تنشأ جراء هذه الأوضاع. ذلك يعني تراجعًا كبيرًا في التهديدات الإيرانية من الأراضي السورية، واستكمال حصار “حزب الله” عن طريق قطع خط إمداده الذي يمر عبر سوريا.
تمثل سوريا واسطة العقد في محور إيران، وانهيار النظام السوري يعني كسرًا في هذا المحور، ما يعني من جهة أن الطريق لتوجيه ضربة إلى طهران باتت ممهدة لكن في المقابل فإن سيطرة قوى إسلامية سنية على الحكم في دمشق وتضاعف النفوذ التركي في سوريا لن يكون مرغوبًا على المدى الطويل.
إذا أضفنا إلى ذلك رغبة واشنطن في تهدئة الملفات الساخنة في المنطقة ضمن رؤيتها الأمنية واستراتيجيتها الأوسع لإدارة التوازنات المعقدة بين القوى الإقليمية والدولية، فإن الحاجة في هذه المرحلة لتسكين جبهة غزة تصبح ضرورة، كما فرضته في لبنان على الطرفين اللبناني والإسرائيلي. ما يعني امتلاك واشنطن ما يكفي لقيادة الحل من خلال طاولة تشكّلها لهذا الغرض، ضمن حساباتها الخاصة والتي لا تتطابق بالضرورة مع حسابات تل أبيب وتوقيتاتها.
في هذا السياق، بات من الواضح أن جميع الأطراف المنخرطة في الصراع أو في جهود الوساطة ستخضع بشكل أو بآخر لرؤية واشنطن لما تراه حلًّا للحرب في غزة في هذه المرحلة، مع إعطاء أدوار أساسية وثانوية لكل طرف وفقًا لوزنه وتأثيره في الوضع الفلسطيني والإسرائيلي.
ويمثل انضمام تركيا إلى الطاولة إلى جانب مصر وقطر آلية أمريكية لترجيح الحل وتقليص الفجوة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. مع ذلك، تبقى مخاطر عدم الاتفاق على رؤية فلسطينية موحدة أو استمرار التعنت الإسرائيلي، بما في ذلك مناورات نتنياهو في اللحظات الأخيرة أو أجنداته الأيديولوجية والاستراتيجية، من العوامل التي قد تعيق الوصول إلى هذه التفاهمات.
لكن يظل احتمال الفشل مستبعدًا في ظل هذه المتغيرات والمعطيات في بيئة الصراع، وعلى الصعيدين الإقليمي والدولي.