بينما تستهدف صواريخ الاحتلال الإسرائيلي أراضي قطاع غزة، ويشنّ المستوطنون هجمات متتالية ضد القرى والبلدات الفلسطينية في الضفة الغربية، ويستمر وزير مالية الاحتلال بتسلئيل سموتريتش في الترويج للاستيطان داخل القطاع، وتوسيع عمليات الضم في الضفة وشرعنة السيادة الإسرائيلية عليها، أطلقت السلطة الفلسطينية حملة أمنية تحت عنوان “حماية وطن”.
استهدفت الحملة الأمنية، التي ركزت على مخيم جنين شمال الضفة الغربية، توظيف مختلف الأذرع الحكومية والسياسية والعسكرية التابعة للسلطة الفلسطينية في الترويج لها، مع التهديد بمعاقبة المعارضين لها، وإصدار سلسلة من البيانات الإعلامية المتتالية.
كما حشدت المشافي لاستقبال حملات التبرع بالدم لصالح منتسبي الأجهزة الأمنية، ودفع البلديات لوقف خدماتها في المناطق المستهدفة، إضافة إلى توجيه مديريات التعليم والمدارس لتكييف برامجها مع تقدُّم الحملة أو تأخُّرها، محددة هدفها بـ”حفظ الأمن والسلم الأهلي، وبسط سيادة القانون، وقطع دابر الفتنة والفوضى في المخيم”.
في تصريح له، أعلن الناطق الرسمي باسم قوات الأمن الفلسطيني، العميد أنور رجب، أن الأجهزة الأمنية بدأت فجر يوم السبت حملة لاستعادة السيطرة على مخيم جنين من الخارجين على القانون، وأكد أن هؤلاء الأفراد قد “نغصوا حياة المواطن اليومية، وسلبوه حقه في تلقي الخدمات العامة بحرية وأمان”، كما أشار إلى أن الحملة الأمنية لن تقتصر على المخيم فقط، بل ستمتدّ لاحقًا إلى مناطق أخرى.
هدفها المعلن “القضاء على مخالفي القوانين” ولكنها تطارد مجموعات المقاومـ.ـة بشكل خاص.. ما الدوافع وراء العملية الأمنية التي تشنها السلطة الفلسطينية في #جنين؟ pic.twitter.com/rCBjuw7Vj1
— نون بوست (@NoonPost) December 16, 2024
التصعيد حتى الاشتباك
جاء تصريح رجب بمثابة إيذانًا بمرحلة فاصلة من المكاشفة بين المقاومة والأجهزة الأمنية، لا سيما مع سلسلة من النعوت والصفات التي لم يتورع هو وسلطته في إطلاقها على المقاومين الفلسطينيين للاحتلال، مثل “تجار مخدرات، مجرمين وقطاع طرق”.
وهو ما اعتبره المقاومون سعيًا متواصلًا لـ”تبرير وأد المقاومة واستهداف أبنائها”، وهو ما جاء في إطار تصعيد ملموس للعمل الأمني الفلسطيني الذي شهد ذروته منذ بداية ديسمبر/ كانون الأول الجاري، مدفوعًا بعدة عوامل دولية وإقليمية، أبرزها هدوء الجبهة الشمالية بعد اتفاق الهدنة مع لبنان، إضافة إلى تزايد الشكوك حول صفقة قريبة قد تُفضي إلى وقف الحرب، ما يعزز مكانة المقاومة على حساب السلطة، وقد يستثنيها من أي تسوية مستقبلية.
إضافةً إلى المفاجأة التكتونية التي تمثلت في سقوط النظام السوري على يد المعارضة السورية، التي تحمل خلفيات إسلامية مشابهة لتلك التي يتبناها جزء كبير من فصائل المقاومة في الضفة الغربية، مثل الجهاد الإسلامي وحماس، ما يضاعف المخاوف من انتقال هذا التأثير إلى الضفة الغربية.
وأخيرًا، تبرز الاستعدادات الرسمية الفلسطينية لاستقبال دونالد ترامب، حيث تسعى السلطة إلى تقديم ما تراه مثيرًا لاهتمامه، ويُحتمل أن يؤثر في موقفه السابق من السلطة الفلسطينية، الذي كان يتسم بتهميش القيادة الفلسطينية في النسخة الأولى من “صفقة القرن”.
تحت ضغط جميع هذه العوامل، باشرت الأجهزة الأمنية بتفجير عشرات العبوات الناسفة المعدّة لمواجهة جيش الاحتلال في مناطق مثل طوباس وجنين والفارعة ونابلس، قبل أن تبدأ بحملة استهداف مباشر للمقاومين في كتيبة طولكرم، حيث أطلقت النار على أفرادها أمام مدخل مخيم نور شمس.
في الوقت ذاته، شنّت الحملة الأمنية سلسلة من الاعتقالات في صفوف قادة المقاومة والمقربين منهم، شملت شخصيات بارزة مثل عماد أبو الهيجا، الأسير المحرر ونجل أسير محكوم بالمؤبد وشقيق شهيد، بالإضافة إلى إبراهيم الطوباسي الأسير المحرر وشقيق شهيدين وأسيرين، كما صادرت مبالغ مالية كانت مخصصة لعائلات الشهداء.
وفي مواجهة هذه الإجراءات، بررت السلطة الفلسطينية اعتقالاتها بالقول إنها تهدف إلى الحفاظ على الأمن والنظام، إلا أن كتيبة جنين أصدرت بيانًا شديد اللهجة رفضت فيه مساعي السلطة لتشويه صورة القامات الوطنية، وأكدت عزمها على التصدي لمحاولات السلطة قمع المقاومة في مناطق جنين وطوباس وطولكرم ونابلس.
في غضون ساعات قليلة، وجد مقاومو كتيبة جنين أنفسهم في مواجهة مباشرة مع أجهزة السلطة، حيث تمكنوا من إرغامها على الإفراج عن المقاومين المحتجزين، كما نجحوا في مصادرة مركبتين تابعتين لأجهزة أمن السلطة، واستعراضهما في شوارع مدينة جنين، وهو ما أثار موجة من الغضب لدى الإعلام الإسرائيلي والغربي، بالإضافة إلى مستويات الأمن الإسرائيلية والعربية (مثل الأردن ومصر)، حيث رأوا في الحادثة دليلًا على تراجع دور السلطة الفلسطينية، وربما يشير إلى ضرورة تغيير رأسها.
وفي الوقت الذي كانت فيه المدينة تشهد تصاعدًا في الاشتباكات بين المقاومين وأجهزة الأمن، حاولت العديد من المؤسسات الأهلية والحقوقية التدخل لتهدئة الوضع، إذ وجّه رئيس بلدية جنين نداءً لجميع الأطراف بضرورة وقف إطلاق النار والابتعاد عن المشافي، خاصة بعد إصابة شاب فلسطيني برصاص قوات السلطة، ثم مداهمتها المستشفى واعتقاله، ما أضاف مزيدًا من التوتر إلى الموقف.
إلحاحٌ دولي للمزيد من القمع
رغم محاولات الوساطة والإصلاح بين المقاومة والسلطة، فإن الشد والجذب بين الطرفين لم ينجح في دفع الوضع خارج دائرة التوتر الشديد، خاصة بعد أن استعارت أجهزة السلطة الأساليب العسكرية الإسرائيلية، بدءًا من اقتحام مستشفى جنين الحكومي وتحويله إلى ثكنة عسكرية وإطلاق النار من داخله على الأهالي والمقاومين.
امتد ذلك إلى تشكيل غرفة عمليات دائمة خاصة في جنين، ضمّت جميع قادة الأجهزة الأمنية، بالإضافة إلى رئيس جهاز المخابرات ماجد فرج، ووزير الداخلية زياد هب الريح، وقائد الأمن الوطني أبو دخان، ورئيس الوزراء محمد مصطفى، وهو ما انعكس بشكل واضح على حجم الحشد العسكري ونوعيته، واستخدام تقنيات المستعربين في اختطاف المقاومين وقتلهم، وحتى سحل أجسادهم كما في حادثة قتل الشاب ربحي الشلبي.
هذا التصعيد أثار ردود فعل قوية من القاعدة الشعبية الفلسطينية في المخيم، التي تفاعلت مع الوضع من خلال استخدام الأساليب الدفاعية نفسها التي تتبعها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، من أبرزها تفعيل صفارات الإنذار، واستخدام سماعات المساجد لتحذير الأهالي من اقتحام الأجهزة الأمنية، بالإضافة إلى إشعال الإطارات الحارقة لتحديد مناطق الاشتباك وتحفيز المقاومة الشعبية، كما ساندت القاعدة الشعبية المقاومين من خلال مشاركة طعامهم وشرابهم.
يمكن تفسير هذه العملية على أنها تجاوب مع التهديدات الإسرائيلية المباشرة للسلطة الفلسطينية، حيث أُبلغت بأنها “إما أن تتحركوا بأنفسكم، وإما سنضطر إلى التدخل بأنفسنا”.
ومع تزايد الاشتباكات يومًا بعد يوم، بدا أن أداء أجهزة السلطة يجذب اهتمامًا دوليًا وإقليميًا متزايدًا، الذي يدفع نحو تطوير الاشتباكات لتصبح عملية اجتثاث كامل للمقاومة، تبدأ من جنين ثم تمتد إلى مناطق أخرى، لا سيما بعد أن تمكنت الأجهزة الأمنية من قتل مقاوم كان الاحتلال يطارده منذ سنوات.
وصفت وسائل الإعلام الإسرائيلية ما حدث بأنه “حدث ضخم وغير مسبوق منذ أكثر من عقد”، في إشارة إلى حجم التصعيد وأثره على الوضع الأمني في المناطق الفلسطينية، فيما أفادت مصادر إعلامية بأن الولايات المتحدة طلبت من “إسرائيل” الموافقة بشكل عاجل على تزويد قوات الأمن الفلسطينية بمزيد من الذخيرة والخوذ والسترات الواقية من الرصاص، بالإضافة إلى معدّات الرؤية الليلية وبدلات الحماية لإزالة القنابل، إلى جانب المركبات المصفحة.
بينما لم يتوانَ مسؤولٌ في السلطة عن التأكيد أن المنسق الأمني الأمريكي، الجنرال مايك فينزل، اطّلع على خطط الأجهزة الأمنية وتناقش مع قادتها حول الإجراءات المقبلة. وفي السياق ذاته، دخلت كل من السعودية ومصر والأردن على الخط، حيث أكدت هذه الدول دعمها للسلطة الفلسطينية ورغبتها في نجاح حملتها الأمنية والسيطرة على مناطقها، معتبرة أن الحملة “مصيرية” بالنسبة إلى السلطة الفلسطينية، ومؤكدين أنها تمثل لحظة حاسمة “إما انتصار وإما هزيمة”.
لم يقتصر الإلحاح على الجانب الإسرائيلي والأمريكي والعربي الإقليمي فحسب، بل جاء أيضًا من الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي رفع من نبرته العدوانية في الأيام الأخيرة، موجّهًا تعليماته لأجهزته الأمنية بضرورة تحقيق السيطرة الكاملة على مخيم جنين “بأي ثمن”، مهددًا من يعصي أمره بالإقالة، وهو ما اعتبره مراقبون محاولة من عباس لإثبات سلطته أمام المساعي الإقليمية والدولية لاستبداله.
ذلك في وقت لا يزال فيه موقعه في الترتيبات السياسية الخاصة بقطاع غزة غير واضح، وقد لا يتضح أكثر إذا استمرت كتائب المقاومة في السيطرة على مناطق واسعة من الضفة الغربية وتوسعت أنشطتها. من جهة أخرى، يمكن تفسير هذه الخطوات أيضًا على أنها تجاوب مع التهديدات الإسرائيلية المباشرة للسلطة الفلسطينية، حيث أُبلغت بأنها “إما أن تتحركوا بأنفسكم، وإما سنضطر إلى التدخل بأنفسنا”.
جنين من أبو الهيجا إلى العموري.. حكاية أيقونة المقاومة الفلسطينية
للمخيم وسُكانه أقوال أخرى
أسفرت تصريحات الأجهزة الأمنية وأداؤها الهجومي ضد أبناء شعبها عن تصعيد خطير، حيث أدت إلى استشهاد الفتى ربحي شلبي وسحله بطريقة مهينة على يد أفراد الأجهزة الأمنية، تزامنًا مع استشهاد القيادي في كتيبة جنين يزيد جعايصة، الذي كان مطاردًا من قبل الاحتلال الإسرائيلي منذ أكثر من 4 سنوات.
ومع استشهاد الطفل محمد عماد العامر، الذي لم يتجاوز 13 عامًا، وإصابة شقيقه برصاص قناص على يد الأجهزة الأمنية، تفجرت موجة غضب في الشارع الفلسطيني ضد الحملة الأمنية، وكان لافتًا أن والد الطفل عامر، الذي يشغل منصب لواء في جهاز الأمن الوقائي، قد حذر العناصر الأمنية من وجود أطفاله في المكان، لكن تحذيراته قوبلت بتجاهل تامّ.
هذه الأحداث عززت من اصطفاف أبناء المخيم خلف كتيبة جنين والمقاومة، حيث اعتبرت الأجهزة الأمنية بالنسبة إليهم ذراعًا أخرى من أذرع “جيش الدفاع الإسرائيلي”، فخرج الأهالي في مسيرات تأييد للمقاومة ومنددة بحملة السلطة، مطالبين بكسر الحصار المفروض على المخيم وضغط السلطة لوقف إطلاق النار.
تزامن ذلك مع حراك شعبي رافض في مختلف مناطق الضفة الغربية ضد الأجهزة الأمنية، حيث شهدت مدن طولكرم ونابلس وطوباس ورام الله احتجاجات واسعة، شملت مسيرات لأمهات الشهداء، وإضرابات تجارية، وبيانات عسكرية، بالإضافة إلى إشعال الإطارات في الشوارع، وإطلاق النار على مقرات الأجهزة الأمنية.
ردًّا على ذلك، استخدمت الأجهزة الأمنية الرصاص العشوائي ضد المتظاهرين، ما أسفر عن إصابات عديدة في صفوف المواطنين، كما اندلعت اشتباكات عنيفة في مناطق أخرى، مثل مخيم الفارعة ومخيم بلاطة في نابلس.
مع اتساع دائرة الصدام، حاولت منظمات المجتمع المدني الفلسطيني التدخل مجددًا، داعيةً إلى بدء حوار وطني مسؤول ووقف إطلاق النار بهدف الحفاظ على السلم الأهلي، معتبرةً أن ما يجري يعدّ تطورًا خطرًا قد تكون له عواقب غير محمودة، لكن دعواتها لم تلقَ آذانًا صاغية من قادة السلطة الذين ظلوا مصمّمين على مواصلة حصار المخيم وقمع مقاومته.
في المقابل، استمر أبناء المقاومة في المخيم في إصدار بياناتهم التي تؤكد رفضهم نزع سلاحهم واستمرارهم في المقاومة، وأكدوا أن بوصلة بنادقهم واضحة وموجهة فقط نحو الاحتلال الإسرائيلي، داعين الأجهزة الأمنية إلى حماية المخيم من الاحتلال بدلًا من مطالبتهم بتسليم أنفسهم.
رغم أن توجُّه السلطة الفلسطينية لقمع المقاومة وحصارها في معاقلها المختلفة ليس بالأمر الجديد، بل هو أمر ذو تاريخ طويل مرتبط بالتنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي، فإن أيدي السلطة ملطخة منذ اتفاق أوسلو الأول بدماء المئات من الشهداء والمقاومين، ولا تزال سجون السلطة وزنازينها مكتظة بالأسرى من قادة المقاومة ونشطاء العمل الطلابي والجماهيري الذين يناهضون الاحتلال.
لكن النشاط السياسي والأمني المتصاعد للسلطة منذ السابع من أكتوبر، وقيامها بقمع مظاهر التضامن مع الفلسطينيين في قطاع غزة ومقاومتهم، إلى جانب تباعدها عن تجسير الهوة وتحقيق مصالحة فلسطينية شاملة، جعل من الصعب على الفلسطينيين بمختلف أطيافهم الاستمرار في تجاهل أفعال السلطة أو التواطؤ معها.
ومهما كانت نتائج الحملة الأمنية الفلسطينية التي أسفرت عن استشهاد أكثر من 13 فلسطينيًا منذ السابع من أكتوبر، فإن أبناء الأرض وطلائع مجدها يدركون تمامًا أن النصر دومًا، وفي النهاية، سيكون للمقاومين الذين يواجهون الاحتلال.