إن كان لشهر رمضان المبارك مكانة كبيرة لدى مسلمي إفريقيا فإن له وضعية خاصة لدي النيجيريين، حيث يحتل قدسية معظمة في نفوس من يدينون بالإسلام هناك، تجسدها حزمة العادات والتقاليد والطقوس التي يتميز بها أبناء هذا البلد الذي يحتل المرتبة الأولى في عدد السكان داخل القارة السمراء.
حالة من الفرح تعم مسلمي نيجيريا الذي يشكلون 75% من إجمالي عدد السكان البالغ عددهم 160 مليون نسمة، مع إعلان قدوم رمضان، فتكتسي الأجواء بالبهجة والسرور، وتبدأ كل أسرة في إعداد عدتها احتفاءً بالضيف المنتظر، كل على قدر استطاعته.
وعلى عكس المجتمعات الكسالى في هذا الشهر الفضيل يتحوّل الشارع النيجيري إلى خلايا نحل طيلة أيامه ولياليه، مستمتعون بروحانياته، متنعمون بأجوائه العطرة ونسماته الحانية، مقدمين أروع تجسيد لمقولة أن رمضان هو شهر العمل والصيام في آن واحد.
ضيف عزيز
مع الساعات الأولى لثبوت هلال رمضان يخرج النيجيريون إلى الشوارع والميادين العامة، حاملين الدفوف والطبول، يجوبون الطرق الرئيسية وينشدون الأغاني الدينية التي تعبر عن فرحتهم بقدوم الشهر الذي يعتبرونه “أغلى ضيف” حسبما وصف أبو بكر دانداتى الطالب بجامعة الأزهر.
دانداتي أشار لـ”نون بوست” أن للشهر مكانة كبيرة في نفوس شعب نيجيريا، فهم يعتبرونه هدية من الله لهم، ومكافأة على تحملهم مشقة العبادة وعناء الزهد والتقرب إلى الله طيلة أيام العام، موضحًا أن منازل النيجيريين تتحوّل مع بداية رمضان إلى ساحات من الفرح والسرور.
وعلى الفور تستعد الأسر لشراء مستلزمات الشهر من مأكل ومشرب، فضلاً عن تكوين تجمعات من المواطنين القائمين على أفعال الخير، حيث يحثون على التبرع ومساعدة الفقراء بجانب تقديم دروس توعوية بأهمية العمل الخيري وثوابه المضاعف في شهر الصيام.
تتنوع المائدة الرمضانية في نيجيريا
تكثيف الدروس الدينية
يضيف الطالب بجامعة الأزهر أن علماء المسلمين يستغلون رمضان في تكثيف دروسهم وخطبهم الدينية، لا سيما في المناطق الشمالية للبلاد التي يكثر بها المسلمون، كاشفًا أن معظم الدروس الملقاة خلال أيام الصيام تحض على التعايش بين المسلمين وغيرهم بجانب التركيز على نبذ الفرقة والخصام والتسامح.
كما أن هناك أماكن مخصصة للنساء لا سيما غير المتعلمات، حيث يتلقين تعليمهن الديني على أيدي المتعلمات تعليمًا دينيًا، هذا بجانب تلقي الفتيات صغار السن بعض دروس دينهن داخل منازلهن عن طريق الوالد أو الأم إن كانت على دراية بأحكام الإسلام خاصة الصيام وعبادات رمضان.
تتكون فرقة الإيقاظ من مجموعة من الشباب يدقون الطبول والمعازف ويطوفون شوارع البلاد، يعزفون أعذب الألحان التي تدعو الناس للصيام وتناول طعام السحور والعبادة وعدم النوم
وتحتل دروس تعليم القرآن قائمة الدروس الدينية في هذا الشهر، حيث تكتظ المساجد في مختلف أرجاء البلاد بحلقات التحفيظ والتلاوة، وتختلف مسمياتها حسب طبيعتها، فهناك جلسات القراءة إن كانت تخصص لقراءة القرآن فقط، وجلسات التفسير إن تطرق الأمر إلى شرح معاني القرآن وتفسير آياته، أما أكثر المسميات تداولاً وانتشارًا “جلسة المواعظ”.
أما عن موعد عقد تلك الجلسات، فتكون في أوقات الصباح والظهر وبعد العصر، إضافة إلى أخرى تعقد بعد صلاة التراويح، تلك الموائد الرمضانية القرآنية التي تشهد حضورًا مكثفًا من المسلمين من الأطياف كافة، لا سيما العمال والموظفين وطلاب الجامعات والمدارس.
تكتظ ساحات المساجد بالمصلين في هذا الشهر
فرق الإيقاظ (المسحراتي)
في معظم دول العالم الإسلامي يقتصر دور من يوقظ الناس لتناول السحور “المسحراتي” على فرد واحد فقط، يحمل بيديه إما دف أو طبلة، يطرق عليها منشدًا بعض الأناشيد التي تحث الناس على الاستيقاظ، إلا أن الأمر في نيجيريا يختلف جملة وتفصيلاً، إذ توكل هذه المهمة إلى فرقة إنشادية بأكملها تسمى “فرقة الإيقاظ”.
تتكون هذه الفرقة من مجموعة من الشباب يدقون الطبول والمعازف ويطوفون شوارع البلاد، يعزفون أعذب الألحان التي تدعو الناس للصيام وتناول طعام السحور والعبادة وعدم النوم، وتلقى قبولاً واستحسانًا من المسلمين هناك ممن يشاطرون المنشدين الفرحة بالوقوف في شرفات المنازل وأمام البيوت للاستماع إلى تلك الألحان.
جدير بالذكر أن تلك الفرق تبدأ أنشطتها مع الإعلان رسميًا عن ميلاد هلال رمضان، علمًا بأن مسلمي نيجيريا يعتمدون في تحديد بداية الشهر على ثبوت رؤيتهم الخاصة للهلال، ولا يعتمدون أو يتبعون أي دولة أخرى مجاورة إذا لم تثبت الرؤية لديهم، ولعل هذا ما يفسر مخالفتهم لبعض الدول الإسلامية المجاورة لهم بعض الأحيان.
تتميز مائدة رمضان في نيجيريا بالثراء والتنوع الشديد في الأطعمة والمشروبات المقدمة، حيث يستهل الصائمون إفطارهم بتناول بعض المشروبات الخفيفة التي تهيء المعدة قبل تناول الوجبات الرئيسية
التلاحم المجتمعي
“حين كنت في القاهرة إبان دراستي بالأزهر كان أول ما لفت نظري في رمضان موائد الرحمن، تلك الظاهرة التي توجد في بلادنا وإن كانت ليست بهذه الكيفية، لكن أبرز ما يميزها اللحمة المجتمعية والتكاتف الذي يعمق وحدة المسلمين في بلد يعاني من تفتت وتشرذم وصراعات داخلية”.. بهذه الكلمات ربط الداعية النيجيري أدم علي بين موائد الرحمن في مصر والإفطار الجماعي في نيجيريا.
علي في حديثه لـ “نون بوست” أشار إلى أن من أبرز العادات الرمضانية في بلاده أن تتناول الأسر فطورها أمام المنزل، بحيث ترى كل أسرة جارتها، في مشهد يبعث على الفرح ويعكس مؤشرات الوحدة والتلاحم، مشيرًا أنه في بعض الأحيان تتجمع عدد من الأسر، كل يأتي بطعامه، ويجلسون في أماكن عامة بالقرب من المساجد، ليتناولوا طعام الإفطار مع بعضهم البعض.
وفي هذه الأثناء يتم تقسيم الإفطار إلى مائدتين، واحدة للرجال والأخرى للنساء والأطفال، كما تحرص الأسر المسلمة في نيجيريا على دعوة فقير على الأقل للإفطار معها يوميًا، ومن ثم يعد هذا الشهر موسمًا للخير، إذ لا يوجد فقير في كل بلدة إلا وناله نصيب من تلك الأعمال الخيرية.
أسرة نيجيرية في انتظار أذان المغرب
العصيدة.. أفخم الأكلات في رمضان
تتنميز مائدة رمضان في نيجيريا بالثراء والتنوع الشديد في الأطعمة والمشروبات المقدمة، حيث يستهل الصائمون إفطارهم بتناول بعض المشروبات الخفيفة التي تهيء المعدة قبل تناول الوجبات الرئيسية على رأسها مشروبي “الكوسي” الذي يتكون من بصل مفروم يقلى بالزيت مع الملح، ويؤكل مع الفلفل الحار، و”الكانو” المكون من الدخن والذرة والتمر الهندي.
أما الوجبة الرئيسية فمتعددة الأصناف، يتقدمها “العصيدة” المصنوعة مع اللحوم، وهي أفخر الأكلات المقدمة في هذا الشهر، بجانب طبق “إيكومومو” المصنوع من الذرة المطحونة، بخلاف طبق “الدويا” فهو أرز ولحم، وتعد الأطباق الثلاثة الرئيسية التي في الغالب توجد إحداها على مائدة الإفطار الرمضانية عادة، ويضاف إليها بعض السلطات مثل سلطة اللوبيا و”أذنجي” وهي سلطة الخضار المتنوعة.
وفي السحور لا تقل المائدة عما كانت عليه في الإفطار، فبعض الأسر تتناول أنواعًا معينة من اللحوم منها العصيدة مثلاً، إلا أن أشهر الأطعمة على مائدة السحور طبق “التو” وهو عبارة عن خليط من الخضار وصلصة الأرز، كما يفضل البعض تناول الأسماك، وبعده يتم احتساء الشاي واللبن كونهما مشروبان أساسيان على المائدة.
وهكذا يتحول الشارع النيجيري في رمضان إلى كرنفال احتفالي دعوي مجتمعي يحاكي غيره من العواصم الإسلامية ذات الصيت الكبير في طقوس الاحتفاء بهذا الشهر المبارك، وتعكس خريطة الطقوس والعادات والتقاليد خلال أيام الشهر ولياليه منزلته الكبيرة ومكانته المقدسة لدى مسلمي نيجيريا.