ترجمة وتحرير نون بوست
يمكن تبين وجود الكثير من النظريات حول سبب انهيار المحادثات التجارية بين الولايات المتحدة والصين ووصولها إلى طريق مسدود، والتي تتراوح بين الثقة المفرطة التي تحلت بها بكين ولم تكن في محلها، وبين اعتقاد دونالد ترامب بأن خوض حرب جمركية ضد الصين سيعزز فرص إعادة انتخابه. ولفهم أسباب هذا الانهيار، ينبغي علينا النظر إلى ما وراء المناورة السياسية والعودة إلى تاريخ الصين.
خلال علاقتها التي استمرت 500 سنة مع الغرب، سعت بكين إلى تحقيق ثروتها دون اعتناق المُثل والأعراف الخاصة بهذه البلدان التي تتعامل معها. ويسجل هذا التناقض القديم حضوره في المفاوضات التجارية الجارية اليوم، ومن المرجح أنها محكوم عليها بالإعدام حتى قبل بدايتها.
لطالما كان نهج السياسة الخارجية الأمريكية تجاه بكين يستند إلى جعل الصين “غربية” منذ عقد الرئيس ريتشارد نيكسون اجتماعه الشهير مع ماو تسي تونغ سنة 1972، لكن هذا المبدأ يعود إلى أبعد من ذلك بكثير. ففي القرن الثامن عشر، أرادت القوى الأوروبية المُحبَطة من الممارسات التجارية الصينية أن تدفع أسرة تشينغ الملكية إلى تبني أفكارها، وذلك في الوقت الذي كانت الصين راضية عن نظام المبادلة التجاري الذي تتبعه، والذي يقوم على مبادلة الخزف والشاي بالفضة وفق نظام تشرف عليه المحكمة بشكل محكم.
في منتصف القرن التاسع عشر. وفي ذلك الوقت، اتجهت الصين نحو الانفتاح على التجارة والثقافة الخارجية على نطاق واسع وبدأت في قبول إقامة علاقاتها مع الدول الأخرى وفق النمط الأوروبي.
تجدر الإشارة إلى أن هذا المبدأ بدا غير عادل بالنسبة للتجار الأوروبيين الذين كانوا يريدون ترسيخ قيم التجارة الحرة. وفي سنة 1793، أرسل البريطانيون بعثة بقيادة اللورد ماكارتني لتحط الرحال في بكين للمطالبة بفتح الأسواق وإجراء العديد من الإصلاحات المتعلقة بهذا الأمر.
في المقابل، رفض اللورد الأوروبي الركوع أمام الإمبراطور الصيني المهووس بالطقوس والأعراف الجاري بها العمل، وهو ما قاد الإمبراطور إلى إرسال رسالة إلى ملك بريطانيا جورج الثالث يخبره فيها أنه قد رفض الإذعان لمطالبه وتحقيقها. وورد في هذه الرسالة السؤال التالي: “كيف يمكن لجماعتنا أن تغير جميع أعرافها ونظامها الخاص بآداب الزيارة الذي تعود أصوله لأكثر من قرن من الزمن من أجل تلبية رغباتك الفردية؟”.
لم يقبل امبراطور سلالة تشينغ الحاكمة تغيير الممارسات التجارية والدبلوماسية وفق الطراز الغربي عن طيب خاطر، بل أجبر على ذلك بعد التعرض للقصف بنيران مدافع القوات الأوروبية في حروب الأفيون في منتصف القرن التاسع عشر. وفي ذلك الوقت، اتجهت الصين نحو الانفتاح على التجارة والثقافة الخارجية على نطاق واسع وبدأت في قبول إقامة علاقاتها مع الدول الأخرى وفق النمط الأوروبي.
احتدم النقاش حول كيفية تحول الصين إلى الغرب. فقد اعتقد البعض أن مجرد اقتناء الأسلحة الغربية وتعلم تقنياتها الجديدة سيكون كافيا، في حين أن المؤسسات الصينية الجوهرية لا يجب أن تتغير
مع ذلك، لم يكتف الصينيون بالمقاومة فحسب، حيث انبثق فكر يدعو خلاله المفكرون والإصلاحيون والثوريون الصينيون إلى ضرورة اقتداء البلاد بالنموذج البريطاني والأمريكي ابتداءً من أواخر القرن التاسع عشر. ومع استمرار قوة عائلة تشينغ في الانحسار، رأى هؤلاء المفكرون الخلاص في نسخ المؤسسات والممارسات الخارجية مثل الدستور والمجالس المنتخبة والمدارس ذات النمط الغربي.
على الرغم من ذلك، احتدم النقاش حول كيفية تحول الصين إلى الغرب. فقد اعتقد البعض أن مجرد اقتناء الأسلحة الغربية وتعلم تقنياتها الجديدة سيكون كافيًا، في حين أن المؤسسات الصينية الجوهرية لا يجب أن تتغير. في المقابل، رأى البعض أن التقاليد الصينية قديمة ورجعية، ووحده الاعتناق الكامل للأفكار الأجنبية سيساهم في إعادة أمجاد الصين.
من المفارقة أن المحادثات التجارية انهارت مع اقتراب الذكرى المئوية لـ “حركة الرابع من ماي”. وقد سميت هذه الحركة بناء على اليوم الذي خرج فيه الطلاب للاحتجاج في سنة 1919، وهي تشير إلى حملة أوسع لتغيير المجتمع الصيني. وقد كتب تشن دوكسيو في سنة 1915، أحد مؤسسي الحزب الشيوعي الصيني: “أفضّل رؤية ثقافة أمتنا السابقة وهي تندثر على رؤية عرقنا وهو يموت الآن بسبب عدم قدرته على العيش في هذا العالم الحديث”.
يجب على واشنطن أن تتعلم التعامل مع الصين الحالية بدلا من الصين التي ترغب في رؤيتها.
انتقلت هذه الروح إلى فترة الثمانينات من القرن الماضي. وفي ظل الإصلاحات الصينية المؤيدة للسوق، تبنت الدولة المؤسسات الحرة ودعت إلى الاستثمار في الخارج، واستجابت لخبراء الاقتصاد الغربيين وانضمت إلى مؤسسات مثل منظمة التجارة العالمية. واقترحت شخصيات مرموقة مثل هو ياوبانج، الأمين العام للحزب الشيوعي، أن الصينيين يجب أن يتناولوا الطعام باستعمال الشوكة والسكين بدلا من عيدان الأكل.
مع ذلك، لم تتلاشى مخاوف الغرب وحذرهم، مع نمو الاقتصاد الصيني وعزمها على رسم مسارها الخاص. وعلى الصعيد العالمي، حاول الرئيس الصيني شي جين بينغ تقديم البدائل الصينية لنظام العالم الغربي مثل برنامج مبادرة الحزام والطريق لبناء البنية التحتية. وعلى الصعيد الداخلي، شدد شي جين بينغ على دور الدولة على حساب تحقيق المزيد من التحرر إلى جانب ترسيخ الثقافة والفلسفة الصينية لدرء الأفكار غير المرغوب فيها مثل الديمقراطية.
كان لجدلية الحب والكره بين الصين والغرب دور في المحادثات التجارية. فمن جهة، استفادت بكين من كونها جزءا من النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنها من جهة أخرى غير مستعدة للتنبي الكامل لهذا النظام وتقبل قواعده.
تواجه إدارة ترامب نفس الإحباطات التي سبق أن واجهها التجار البريطانيون في القرن الثامن عشر. ومع التعريفات الجمركية التي يفرضها والتهديدات، فإن ترامب يقول بوضوح: حسنا، إذا لم تتبعوا قواعدنا لوحدكم فإننا سوف نجبركم على ذلك. قد يبدو أنه من غير المنصف ألا تبادل الصين الغرب نفس الانفتاح، الذي يعتبر غاية في الأهمية بالنسبة لهم. وفي الواقع، كان الاقتصاد الصيني ليكون أفضل حالا لو فعلت ذلك. ولكن ذلك لا يعني أن الصين ستقدم على فعل ذلك. فمحاولات ترامب على إرغامها على فعل ذلك ستبوء بالفشل، مهما رفّع في التعريفات الجمركية. وبناء على ذلك، يجب على واشنطن أن تتعلم التعامل مع الصين الحالية بدلا من الصين التي ترغب في رؤيتها.
المصدر: بلومبرغ