نزلت الجماهير إلى شوارع لبنان فور سماع خبر هروب بشار الأسد من سوريا ووصول المعارضة المسلحة دمشق. تهليلات واحتفالات جابت الشوارع ومسيرات تشعر معها وكأن لبنان بقعة من سوريا التي تحررت، أو هو فعلًا كذلك لمن قرأ التاريخ القريب.
لبنان في تاريخ آل الأسد كان محافظة سورية يسري عليه ما يسري على باقي المحافظات من استبداد وقمع وسياسات، إذ لم يكن الأسد الأب يتخيل لبنان خارج عباءة سوريا. ولهذا تفنّن في استغلال الحرب الأهلية اللبنانية التي غاص فيها بكل تفاصيلها وإجرامها، ليصبح ضابط إيقاعها الأول لفترة طويلة.
بعد 15 سنة من حمّام الدم في لبنان، استغل الأسد الأب التناقضات الإقليمية والدولية بحنكة، وعقد صفقة دولية في حرب الخليج الثانية منحته نفوذًا مطلقًا في لبنان، فتحولت القيادة اللبنانية بعد الطائف من مقر رئيس البلاد في بعبدا إلى البقاع اللبناني، وتحديدًا عنجر، مقر القيادة العسكرية السورية التي كانت تتحكم في كافة الملفات اللبنانية، الداخلية منها والخارجية مهما كبرت أو صغرت.
ظل الحكم السوري للبنان قائمًا حتى عام 2005، عندما اغتيل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، ما أجبر القوات السورية على الانسحاب تحت ضغط شعبي ودولي وقيادة أضعف من سابقتها. لم يعنِ خروج القوات السورية من لبنان انتهاء الارتباط الدموي، بل تتابعت سلسلة الاغتيالات التي بدأت مع استلام حافظ الأسد حكمه، وتواصلت بعد عام 2005 مع بشار الذي استهدف شخصيات سياسية لبنانية بارزة معارضة لنظامه بشكل متتابع ومكثف.
إن كل من تابع قمع وتنكيل النظام السوري بمعارضيه باستخدام الكيماوي والبراميل المتفجرة، ومشاهد صيدنايا، وانتشار الكبتاغون، يمكنه تخيل كيف كان يُدار لبنان في حقبات النظام السوري، وأي إرث تركه هذا الحكم فيه. بذلك، يمكن فهم الاحتفالات اللبنانية، ولماذا كان الشعب صاحب الفرحة الأقرب إلى فرحة الجار السوري.
على الجانب الآخر، كانت هناك مصالح إقليمية تربط أطرافًا لبنانية بالنظام السوري. فقد كان “حزب الله” الذي ترعرع على عين القيادة الثورية في إيران، على وفاق شبه تام مع الأسد، في صفقة بدأت منذ اتفاق الطائف عام 1990 بمعادلة حماية سلاح المقاومة الخاص بـ”حزب الله” والمدعوم إيرانيًا، مقابل إطلاق يد سوريا وحلفائها في لبنان في الملفات السياسية والاقتصادية المختلفة.
في عام 2005 تغيرت تفاصيل المعادلة، لكن عنوان التحالف لم يتغير، ولو أن الكفة التي كانت مع حافظ الأسد متكافئة بين إيران وسوريا مالت مع بشار إلى إيران بشكل فاقع. فبعد خروج سوريا من لبنان، رفض نصر الله أن يخرج النظام السوري منهزمًا، فحشد مظاهرة مليونية في الثامن من آذار من ذلك العام، معلنًا تغيير المعادلة ودخول “حزب الله” الساحة السياسية بشكل أوسع بعد اختفاء الغطاء الخارجي السوري.
ومنذ ذلك الحين، توسع “حزب الله” في لبنان وفرض هيمنته على السياسة اللبنانية على مراحل مختلفة. هذا التوسع بلغ ذروته عام 2016، بوصول حليفه الرئيس ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية.
ورغم اقتحام “حزب الله” للحياة السياسية بعد حرب تموز 2006، إلا أن بنيته الأساسية لم تتغير، إذ بقيَ معتمدًا على قاعدته العسكرية والأمنية، بينما بقيت الجوانب الأخرى تابعة لها.
انتشار “حزب الله” في لبنان تزامن مع توسع إيراني في المنطقة، لتصبح سوريا قلب هذا المحور وممر إيران إلى الحزب. أدرك النظام الإيراني، في ذروة قوته، أن سقوط بشار الأسد يعني انهيار مشروعه التوسعي في المنطقة وضعف أذرعه، وعلى رأسها “حزب الله”. لذا سخّرت إيران والحزب كل إمكانياتها للحفاظ على الأسد، وهو ما استمر حتى الأيام الأخيرة.
قبل سقوط النظام بعام، دخل “حزب الله” في حرب إسناد لغزة تحت شعار وحدة الساحات، لكن بشيء من الحساسية المفرطة، محاولًا الحفاظ على مستوى معيّن من التصعيد دون الدخول في حرب شاملة.
إلا أن نتنياهو رفع سقف الضربات إلى أقصاه، مستهدفًا قيادة الحزب ومحاولًا تفكيك بنيته واجتياح لبنان بريًا، بغية اجتثاث “حزب الله” أو على الأقل قدرته على الهجوم الفعّال. ورغم صمود الحزب أمام هذه الضربات المميتة على القيادة والقاعدة، إلا أنه تجنّب معركة صفرية، واختار فكّ الإسناد مقابل الحفاظ على نواته الصلبة التي يأمل بالعودة والانطلاق منها.
رضيَ “حزب الله” بالتراجع، وحصل على وعود إيرانية بالدعم للتعافي على كافة المستويات، رغم الرقابة الأمريكية والإسرائيلية المتوقعة والمختلفة هذه المرة. لكن الضربة القاصمة جاءت من سوريا، حيث تعرض خط الإمداد العسكري والبيئة الحاضنة له لضربة موجعة.
وُضع “حزب الله” بين فكَّي كماشة: من الجنوب “إسرائيل”، ومن الغرب البحر، ومن الشمال والشرق سوريا الجديدة التي واجهها لسنوات، ومن الداخل لجنة أمريكية تراقب تحركاته العسكرية وغير العسكرية، مع وجود أطراف معارضة تنتظر تراجعه الإقليمي للانقضاض عليه.
أما بيئته الحاضنة، فقد تضررت بشكل حادّ بفعل الأزمات التي أصابت لبنان في السنوات الأخيرة، وبشكل أكبر نتيجة التوحش الإسرائيلي الذي استهدف الإنسان الجنوبي والبقاعي والبيروتي.
واعيًا بهذا الواقع، أعلن نعيم قاسم، الأمين العام الجديد لـ”حزب الله”، خطة لدعم شارعه حتى إعادة الإعمار، متعهّدًا بتقديم أموال للعائلات داخل بيروت وخارجها. من الواضح أن “حزب الله” يدرك حجم الضربة التي تعرض لها، لكنه يعي أيضًا أنه لم ينتهِ بعد، بل لا يزال يحتفظ بعدد من أوراق القوة، خصوصًا داخليًا.
سيحاول “حزب الله” اليوم إعادة بناء هيكله الداخلي سريعًا، وتثبيت بيئته الحاضنة بشتى الوسائل المعنوية والمادية، كما سيعمل على تقوية تحالفاته داخل الطائفة، خاصة مع الرئيس برّي، وسيسعى لإظهار هيبته في الداخل للتأكيد على أنه لا يزال قوة مؤثرة، مانعًا الآخرين من التجرؤ عليه، لكنه سيضطر للاعتراف بأنه لم يعد الآمر الناهي في لبنان، وسيسعى لتثبيت معادلة “الفيتو الشيعي” باعتباره الممثل الأساسي للطائفة.
لن تكون المهمة سهلة، فمعارضو “حزب الله”، الذين تفوقوا عليه في عدة مراحل في أطر لبنان الديمقراطية، يجدون اليوم فرصة مناسبة لإخضاعه لمنطق الديمقراطية، وإرغامه على الالتزام بقواعد اللعبة التي طالما رفضها.
إذا تلاقت هذه المصلحة مع المصالح الخارجية، وهو ما عزز الآمال لدى هذه الأطراف التي كانت تعض الأنامل من الغيظ في زمن أشهر العسل الإيرانية مع أوباما، فهي اليوم في قمة التفاؤل وربما بشكل مبالغ فيه.
هذا يعني أن الأطراف اللبنانية قد تعيش فترة من الشد والجذب، حتى يقتنع كل طرف بحجمه الجديد في اللعبة السياسية، وإذا لم يقتنع أحد الأطراف الفاعلة بحجمه الجديد، فقد تتجه الأمور نحو تغييرات جوهرية في شكل لبنان.
الأنظار اليوم متجهة نحو الحكم الجديد في سوريا، والخوف اللبناني كبير من استغلال الظرف الراهن كما اُستغل سابقًا للّعب على وتر الإرهاب داخل لبنان. قد تُستغل هذه الورقة من قبل بعض القوى لإعادة شد العصب والحلفاء، وتجاوز الواقع الجديد في المنطقة، والعودة إلى نغمات سابقة قامت على ضرورة التلاحم في وجه الإرهاب.
في المقابل، تأمل قوى أخرى أن يكون الحكم الجديد في سوريا سندًا لها. لا يعني ذلك بالضرورة مشاركة مباشرة كما كان في عهد الأسد، لكن أي دولة وازنة في المنطقة تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على جارتها الأصغر.
بشكل أدق، تعيش القوى المسيحية اليوم نشوة الانتصار، وتنهمك في الإجابة عن سؤال حول كيفية تحويله إلى مكسب دائم، بينما يسعى الثنائي الشيعي لفصل الواقع الإقليمي عن الداخلي، والتأكيد على أن النتائج الداخلية كانت نتيجة ميزان قوى داخلي لا علاقة له بالخارج.
في الوقت ذاته، يقف الجمهور السنّي عمومًا مترقبًا لما حدث في سوريا، آملًا أن يُعيد ذلك إحياء دوره الغائب عن المشهد. يدرك السنّة أن تعاونًا مباشرًا بينهم وبين سوريا الجديدة لن يكون الأقرب للتحقق، لكنهم يأملون أن يكون ما حدث دافعًا لإعادة المبادرة داخل الطائفة، واستعادة مكانة تاريخية غائبة منذ سنوات وحتى اليوم وربما الغد.
هذا المسار من الشد والجذب قد تصحبه عوائق كثيرة، وتحديات جمّة، ومطبّات مختلفة، لكن الإرادة الدولية غالبة ما كان لها الصوت الأعلى داخل المعادلة، وهي اليوم تراقب ما يحدث في لبنان وتحاول إرساء قواعد ثابتة لعقود. لذا يمكن وصف المشهد المقبل بالمخاض الذي يسبق الولادة، على أن يكون الاختبار الأول يوم التاسع من السنة الجديدة، موعد جلسة انتخاب رئيس للجمهورية.