تنظر باريس بعين من القلق والتوتر إلى إفرازات التطورات التي تلت تنحي الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة عن الحكم بعد أكثر من عقدين من الزمن، لا سيما بعد بروز ما يعرف لدى الرأي العام في الجزائر بجيل “الضباط” الجدد المعروف بعدائه الشديد للنفوذ الفرنسي في البلاد والحرب الضروس التي شنَها الجنرال العسكري أحمد قايد صالح على “يدها الخفية” في الجزائر التي تمثل بالنسبة لها قوةً إقليميةً حقيقةً في شمال إفريقيا.
فرنسا تفقد “أذرعها” المالية
حجب “الرجل القوي” في الجزائر رئيس الأركان الفريق أحمد قايد صالح الرؤية الفرنسية بعد سقوط “أذرعها” المالية المحسوبة على النظام السابق، ورغم أن فرنسا لم تكشف علنًا تعاظم مخاوفها من مستقبل مشاريعها في الجزائر بسبب ارتباك العلاقات السياسية، فإن حراك الجزائر تصدر النقاش داخل مؤسساتها الرسمية وهو ما حدث في الجمعية الفرنسية (مؤسسة حكومية) منذ أيام، حيث سلط النائب الجمهوري جون لاسال الضوء على “بروز جيل جديد من الضباط في المؤسسة العسكرية معادٍ للمصالح الفرنسية في الجزائر، لا سيما في الجانبين الاقتصادي والسياسي”.
وألمحت مداخلة النائب إلى المخاوف التي تنتاب فرنسا حيال تطور الأوضاع في الجزائر خاصة بعد تنحي الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة وتأثيرها على مصالحها الاقتصادية تحديدًا لا سيما أنها تشكل قوة كبيرة في السوق الجزائرية، فحجم صادرتها إلى البلاد بلغت وفقًا للأرقام التي أعلنتها الخزانة العامة الفرنسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 نحو 2.3 مليار يورو في الشهور الست الأولى من عام 2018، كما أنها تستورد 10% من حاجتها من الغاز الطبيعي من الجزائر.
في ضوء الاهتمام الفرنسي الصامت وغير المعلن بحراك الجزائر الذي يلامس أسبوعه الـ14، يتبادر إلى الأذهان تساؤلات كثيرة أهمها: هل هناك مصالح اقتصادية تبرر هذه المخاوف؟
وطفت إلى السطح مؤخرًا مؤشرات سلبية توحي بإمكانية تقلص وجودها في السوق الجزائرية، وكشفت تقارير إعلامية فرنسية أن بنك الجزائر عطَّل تحويلاً لشركة فرنسية موجودة في مدينة وهران (ثاني أكبر مدن الجزائر) تعمل في المجال البتروكيماويات يُقدَر بنحو 80 مليون دولار، كذلك أثارت الاتفاقية التي أبرمت مؤخرًا بين الجزائر وكوبا، تساؤلات عن مصير الاتفاق الذي أُبرم قبل سنة مع الدولة الجزائرية وأحدث صخبًا كبيرًا، خاصة أن السلطات الجزائرية لم توضح إن كان الاتفاق الجديد مع كوبا الذي تمّ إبرامه مع فرنسا قد ألغي أم أنها تكمله لا سيما أنها لم توضح أيضًا في أي المجالات تندرج هذه الاتفاقية.
وفي ضوء الاهتمام الفرنسي الصامت وغير المعلن بحراك الجزائر الذي يلامس أسبوعه الـ14، يتبادر إلى الأذهان تساؤلات كثيرة أهمها: هل هناك مصالح اقتصادية تبرر هذه المخاوف؟
مخاوف من تأميم الشركات الفرنسية المختلطة
يجيب المحلل الاقتصادي الجزائري ناصر سليمان عن هذا السؤال، بالقول: إن “مخاوف فرنسا تكمن في إمكانية تأميم الشركات الفرنسية المختلطة أو تصفيتها إذا تمت محاكمة رجال أعمال يملكون أسهمًا في هذه الشركات أو جزءًا منها، وبالتالي تتقهقر حجم استثماراتها في الجزائر خاصة أمام التفوق الصيني عليها”.
وشهدت الجزائر سلسلة توقيفات وتحقيقات مفتوحة طالت الأذرع المالية لنظام بوتفليقة، وذلك بعد إيداع رجال أعمال الحبس المؤقت على غرار رجل الأعمال الجزائري علي حداد ويسعد ربراب والأخوة كونيناف تحسبًا لمحاكمتهم بعدة تهم ومنع عدد آخر منهم من السفر وأُخضعُوا لتحقيقات مُعمقة.
ويشير في هذا السياق الخبير ناصر سليمان في حديثه مع “نون بوست” بالأرقام إلى حجم الاستثمارات الفرنسية في الجزائر، قائلاً: “يعمل حاليًّا في الجزائر نحو 450 شركة فرنسية، أي ما يمثل 20% من الشركات الأجنبية العاملة بالجزائر، بينما بلغت واردات الجزائر من فرنسا سنة 2018 مبلغ 4.8 مليار دولار أي ما يمثل 10.35% من مجموع وارداتنا، مقابل 7.8 مليار دولار خلال نفس السنة للصين وهو ما يمثل 17% من وارداتنا ما يجعل هذه الأخيرة في المرتبة الأولى لمورّدينا”.
فرنسا تملك استثمارات كبيرة جدًا بالجزائر كما أنها تعتبر ثاني شريك للجزائر، حيث تصدر ما يفوق 6 مليارات دولار للجزائر، وليس من السهل عليها خسارة هذه “الفاتورة”
استثماراتها في الصناعة مهددة
يقول ناصر سليمان إن استثمارات فرنسا في الجزائر تُمثل خُمس الاستثمارات الأجنبية في البلاد، إلا أنها تتميز بكونها إستراتيجية خاصة في القطاعين (المحروقات والسيارات)، ويشير إلى أن قطاع المحروقات أصبح يشكل هاجسًا بالنسبة لها بسبب المنافسة الشرسة بينها وبين الاستثمارات الأمريكية في هذا المجال وكذا بقية البلدان الأوروبية، ولا يخفى على أحد أن فرنسا تعتبر الجزائر غنيمة حرب ومنطقة نفوذ سياسي واقتصادي منذ خروجها بعد الاستقلال.
وبالنسبة لوجودها في مجال صناعة تركيب السيارات، يشير الخبير الاقتصادي ناصر سليمان، إلى أن استثمارات فرنسا في مجال الصناعة في الجزائر أصبحت مهددة بـ”جدية” بعد موافقة المجلس الوطني للاستثمار على إعطاء رخصة إقامة هذه المصانع لنحو 40 متعامل أجنبي، بينما فرنسا تمتلك مصنعًا وحيدًا خاصًا بهذه الصناعة في الجزائر وهو مصنع “رونو” الذي حصلت عليه بفرض شروط مُجحفة.
في المقابل يقول الخبير الاقتصادي كمال سي محمد إن فرنسا تملك استثمارات كبيرة جدًا بالجزائر كما أنها تعتبر ثاني شريك للجزائر حيث تصدر ما يفوق 6 مليارات دولار للجزائر، وليس من السهل عليها خسارة هذه “الفاتورة” في حالة استمرار الحراك الشعبي في الجزائر.
ويضيف الخبير لـ”نون بوست” أن مئات الفرنسيين يعملون في الجزائر خاصة في قطاع المحروقات وأبرز دليل على ذلك محاولات شركة “توتال” الفرنسية التوسع في الجزائر، حيث اقتنصت الأسبوع الماضي صفقة شراء شركة “أناداركو” التي تمتلك فيها الجزائر أكثر من نصف الأسهم بواسطة شركة سوناطراك، وتستحوذ على ربع النشاط النفطي في البلاد ولها نشاط مماثل في عموم القارة الإفريقية.