في صراعه الأزلي مع الطبيعة انتقل الإنسان بأطوار ومراحل متعددة؛ حيث اختلفت علاقة الإنسان وتعاطيه مع قوى الطبيعة وتدرجت من طور التقديس والخوف إلى طور السيطرة ثم التعرف على قوانينها وقواعدها ومصادقتها. وألهمت صيرورة هذا الصراع الأبدي القائم بين الإنسان والطبيعة الأدباء، ظهر ذلك جلياً في أعمالهم الروائية التي عُرفت باسم أدب البحار، وهو ذلك النوع من الكتابة الذي يلعب فيه البحر الدور الأساسي حيث يكون هو المحرك الرئيسي لأحداث الرواية.
كيف اقتحم البحر عالم الكتابة الأدبية
منذ قديم الزمان كان البحر محرضاً رئيسياً لانتشار الخرافات والحكايات الشعبية القديمة، فمن وحي خياله تم نسج الأساطير، ومن أعماق مائه ابتُكرت حورية البحر وصُبت فيها جميع معاني الجمال والجاذبية، ومن أشهر شخصيات عالم أدب البحار “السندباد البحري” وهو شخصية أسطورية من شخصيات ألف ليلة وليلة التي دارت أحداثها في الوطن العربي وتركت أثراً قوياً في الثقافة العالمية.
وتجدر الإشارة إلى أن البحر لم يلهم جميع الأدباء بنفس الطريقة، إذ أن لكل بحر آدابه وفقاً لطبيعة المكان وخصوصياته؛ ففي ملحمتي الإلياذة والأوديسة حيث درات رحى حرب طروادة كان البحر شرساً لا يرحم، كما كان غاضباً بشدة، وبالنسبة للفينيقيين كان البحر مراسي آمنة، ولهذا فالآداب التي نتجت عن هذا السياق لم تكن تخشى البحر.
أما الرومان فقد جسد لهم البحر مساحة سيطرة من أجل احتلال أراضي الأمم الأخرى، وعلى العكس فالتهجير الذي لحق بسكان الأندلس خلق لهم مساحة رحبة من الأدب ارتكزت جميعها على البحر المتوسط لأنه كان وسيلة الترحيل، وفي أوروبا كان البحر يمثل المجهول والدهشة كما كان دوماً يثير الرغبة في اكتشافه وركوب أمواجه العتية.
أشهر روايات أدب البحار
في السرد الروائي يعد البحر أحد أهم عناصر البناء الفني، فمنه تستمد شخصيات الرواية قدرتها على التعبير والحركة داخل المتن السردي، فالبحر بقوته الطاغية قد يخرج لنا أبطالاً ملحميين يملكون قوة وإصرار ورغبة قوية في تحقيق الذات وتحدي الصعاب، وفي كتابات أخرى يخلق البحر داخل البطل صراعاً متأججاً لا ينتهي مع الحياة، بينما يشكل في بعض الروايات وسيلة لهروب البطل من حياته السابقة ورغبة في حل بعض الألغاز.
رواية العجوز والبحر: مغامرة كبرى في أعماق البحار
“كان يا ما كان… كان هناك رجل عجوز، يتجول وحيداً في مركبه يصطاد في مياه غولف – ستريم” بهذه الكلمات تبدأ رواية “العجوز والبحر” للأديب الأمريكي إرنست همنغواي والتي تدور أحداثها حول الصياد العجوز سانتياغو الذي كان يرابض كل يوم في مركبه ساعياً إلى الصيد ولكنه كان يعود خالي الوفاض مساء كل يوم حتى اتهمته سكان القرية بأنه صياد نحس إذ كان قد مر أربعة وثمانون يوماً دون أن يمسك الصياد سمكة واحدة.
وفي اليوم الخامس والثمانين يقرر الصياد العجوز أن يغامر ويتوغل بمركبه الشراعي الصغير بحثاً عن الصيد الكبير في أعماق الخليج، وهناك يتمكن سانتياغو من اصطياد سمكة “مارلين” هائلة الحجم إلا أن ضخامتها تشكل تحدياً كبيراً أمام الصياد العجوز ولكنه يصمم على ألا يتركها تفلت من بين يديه فيظل يصارعها وتصارعه ويشدها ويجذبها إليه طوال يومين كاملين وفي اليوم الثالث تضعف قوة السمكة وتقرر الاستسلام وعليه يجذبها الصياد إلى المركب ويشرع في طعنها برمح الصيد ويقرر التوجه للقارب.
وفي الطريق تبدأ معركة جديدة حيث تجذب دماء السمكة التي ظلت تتساقط على صفحة المياه أسماك القرش، ويبدأ الصياد في قتال تلك الأسماء ولكن دون جدوى حيث تنهش القروش جسد سمكة المارلين بالكامل ليعود الصياد إلى الشاطئ وليس في مركبه سوى هيكل عظمي لمارلينته، فيما بعد يعود الصياد إلى كوخه خائر القوى ومنهكاً بشدة تاركاً الهيكل العظمي على الشاطئ، وأثناء نومه يجتمع الصيادون والأهالي والسياح منبهرين من ضخامة وشكل الهيكل العظمي لسمكة المارلين.
رمزية رواية همنغواي تكمن في عدم استسلام الصياد لصعوبات الحياة حيث لم يردعه الفشل ولم تنهكه محاولاته المستمرة إعادة المحاولة مرة أخرى، الصياد انتصر رغم عدم عودته بالسمكة الكبيرة.. انتصر لمجرد أنه رفض أن ينهزم ولأنه قرر المغامرة منذ البداية.
رواية موبي ديك: سيمفونية البحر وملحمته الخالدة
حين نُشرت رواية “موبي ديك” لكاتبها الأمريكي هيرمان ميلفيل في المرة الأولى عام 1851 لم يهتم بها أحد وظلت مهملة لمدة طويلة وذلك حتى لاحظتها مؤسسة “ايفري مان لايبراري” الشهيرة في عام 1907 ونشرتها في سلسلة الأعمال الخالدة، حينها فقط بدأ الاهتمام بهذه الرواية حيث شغلت اهتمام القراء والنقاد والباحثين وتحولت إلى واحدة من أشهر الملاحم الأمريكية التاريخية.
وتدور أحداث رواية “موبي ديك” حول البحار المتجول إسماعيل الذي يعمل في أربع سفن تجارية، ولكنه يقرر أن يجرب حظه في سفن صيد الحيتان، ولهذا يسافر من مانهاتن في نيويورك متوجهاً صوب ماساشوسيتس، وعلى متن السفينة يتعرف إسماعيل على الصيادين والبحارة فهناك الكابتن ستاربك والبحار ستاب والقبطان آهاب.
وفور أن تدخل السفينة إلى المياه العميقة يدرك إسماعيل أن هدف الرحلة هو اصطياد الحوت الأبيض الذي يُطلق عليه اسم “موبي ديك” وحين تصل السفينة إلى أفريقيا يقابل القبطان آهاب العراف غابريل الذي يحذره من محاولة قتل موبي ديك حيث أن الموت هو المصير المحتوم لكل من حاول النيل منه ولكن القبطان لا يستمع إلى كلام العراف، وبالفعل يطارد موبي ديك الذي ينطح السفينة بقوة محدثاً فجوة هائلة بها وهو الأمر الذي يؤدي لموت جميع طاقم السفينة ماعدا إسماعيل.
رمزية رواية موبي ديك تكمن في محاولة استكشافها للنفس البشرية وصراعتها التي لا تنتهي، فشخصيات الرواية خاضت صراعاً قوياً مع الطبيعة متجسدة في أمواج البحار العاتية كما خاضت صراعاً مع ذاتها وصراعاً مع الإنسان وهو الأمر الذي تجلى في الجدالات القوية بين طاقم السفينة إذ انقسموا إلى مؤيدين ورافضين لقتل الحوت الأبيض، تحكي لنا الرواية أيضاً أن الإنسان يحمل بداخله قيم الخير والشر.. الحب والكراهية، الحقد والتسامح حيث أن جميع شخصيات الرواية منقسمة على ذاتها.
يُذكر أن السينما الأمريكية قدمت تسعة أفلام مقتبسة عن الرواية أشهرها: الفيلم الصامت “وحش البحر” وفيلم “موبي ديك”، وفي الدراما تم تقديم مسلسل الرسوم المتحركة الياباني “أسطورة موبي ديك” وفي الرسم أنجز الفنان الأمريكي فرانك ستيلا 138 لوحة حول موضوع الرواية بدأ رسمها خلال عام 1985 وانتهى منها عام 1997.
رواية الشراع والعاصفة: البحر ملك ويجب احترامه
حين نتحدث عن البحر في الأدب العربي يجب أن نذكر الأديب السوري حنا مينا الذي التصقت أغلب رواياته بالبحار، حيث جعل منها موضوعاً مميزاً ورسم من خلالها تراجيديا الإنسان ووجعه القدري وصراعاته السياسية والاجتماعية المعقدة، وقد قال عنه الشاعر والمترجم السوري محمد علاءالدين عبدالمولى “حنا بن مريانا البحريّ، الذي سوسحَ القرّاء، وسفّرهم في رحلة الشتاء والصيد، الفتى الحلاّق الذي أمسك في النهاية بلحية البحر ومشّطها وزيّنها وأعدّها لعرس آلهة الماء وحوريات خمارات الواقع والحلم”.
وتدور أحداث رواية “الشراع والعاصفة” في مدينة اللاذقية السورية المطلة على البحر المتوسط إبان الحرب العالمية الثانية وذلك حين كانت سوريا ترزح تحت وطأة الاستعمار الفرنسي، وتحكي الرواية قصة البطل حسن بن محمد زهدي الطروسي البحار الذي قرر أن يعود إلى البحر مرة أخرى بعد ان ابتعد عنه مدة طويلة بسبب غرق مركبه، وعلى غرار شخصية الصياد العجوز في رواية همنغواي يختار الطروسي عدم الاستسلام، ولكن حنا مينا لا يصارع الطبيعة في روايته ولا يحاول الانتصار عليها ولكنه يصارع الاحتلال الفرنسي والجشع والاستغلال، فالطروسي يقف شامخاً بقيمه في وجه العدو..يناضل من أجل العدالة والحرية ولا ييأس مهما كانت الصعاب.
رواية الشراع والعاصفة تحكي عن تفاصيل حياة البحر والمخاطر التي تحدق بكل من تسول له نفسه ولوجه، وعواقب إدراك أعماقه، وروعة شعور الحرية الذي يجتاح من يسبر أغواره.. فوفقاً لمينا البحر ملك ويجب على البحارة احترامه وليس مصارعته، ففي أعماقه يملك البحر روحاً أسطورية حنونة تحت عنفوانه وشراسته، وقد احتلت الرواية المركز 14 ضمن أفضل مائة رواية عربية.