شكل الأسبوع الماضي ما يمكن اعتباره بداية عملية لصراعات التعرض غير المباشر بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، عندما بدأت إيران – كما نرجّح – بتوجيه بوصلتها نحو ميناء الفجيرة الإماراتي، من خلال قيام فرقة التخريب الخاصة بفيلق القدس الإيراني بتفجير أربع سفن تجارية في الميناء، وبعدها بوقت قصير جدًا هاجم الحوثيون سفن نفط سعودية تابعة لشركة أرامكو على البحر الأحمر.
وعلى الجانب الأمريكي شرعت الولايات المتحدة الأمريكية هي الأخرى بخيارات الرد غير المباشر، إذ شنت “إسرائيل” هجومًا جويًا على بعض المواقع العسكرية داخل سوريا، وتركزت الهجمات الإسرائيلية على المواقع العسكرية التي تنشط فيها ميليشيات حزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني في ريف دمشق، وأبرزها مقر الفرقة الأولى في منطقة الكسوة بريف دمشق التي تضم العديد من المواقع التابعة للحرس الثوري الإيراني، ويذكر أن الطائرات الإسرائيلية شنت مطلع الشهر الحاليّ غارات على مواقع تابعة للميليشيات الإيرانية في محيط مدينة حلب، تسببت في مقتل عشرات العناصر بالإضافة إلى تدمير مستودع للصواريخ.
كما نفذت الولايات المتحدة الأمريكية إجراءات رد أخرى، ومنها التوقيع على اتفاقيات عسكرية مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية والبحرين، تم بموجبها الاتفاق على نشر أعداد كبيرة من القوات الأمريكية في مياه الخليج العربي، وهي محاولة تأتي في إطار سعي أمريكي – خليجي مشترك لردع إيران، وحماية المصالح الأمريكية في دول الخليج العربي، وليست على ما يبدو كجهد عسكري يأتي في إطار المواجهة العسكرية مع إيران.
يمكن القول إن هناك رغبة متبادلة بين الطرفين الأمريكي والإيراني لعدم رفع سقف المواجهة العسكرية إلى مستويات إستراتيجية عليا، قد تدفع الطرفين للدخول عمليًا في سياسات حافة الهاوية
وفي مشهد على ما يبدو أنه رغبة في إثبات الوجود الإيراني في كل مناطق الوجود الأمريكي، شكل الهجوم الصاروخي الذي شنته مليشيات مسلحة قريبة من إيران على السفارة الأمريكية في بغداد يوم 19 من مايو 2019، تصعيدًا خطيرًا في إطار لعبة جس النبض بين الطرفين، خصوصًا أنها تأتي مترافقة مع وصول السفير الأمريكي الجديد للعراق ماثيو تويلر الذي يعرف في أمريكا على أنه “سفير الحرب”، وقد تشكل هذه الهجمات الصاروخية كرسالة حاول الحرس الثوري الإيراني إرسالها للسفير الجديد.
يمكن القول إن هناك رغبة متبادلة بين الطرفين الأمريكي والإيراني لعدم رفع سقف المواجهة العسكرية إلى مستويات إستراتيجية عليا، قد تدفع الطرفين للدخول عمليًا في سياسات حافة الهاوية، عندها تكون التكلفة الإستراتيجية التي سيقدمها الطرفان مكلفة جدًا، ولهذا تشكل حروب الوكالة أو لنقل التعرض غير المباشر من مناطق ومصالح وقيم العدو خيارًا مرجحًا من الطرفين، فهناك إدراك واضح لنقاط قوة وضعف الطرفين، ولهذا يبدو أن خيارات المواجهة المباشرة لم تكتمل بعد، على الرغم من أنها بعيدة، ولهذا تشكل المناوشات غير المباشرة أفضل إستراتيجية يمكن أن يتم التعاطي معها في الوقت الحاضر.
وما يدعم هذا الرأي ما تحدثت عنه مجلة “التايم” الأمريكية نقلًا عن ثلاثة مسؤولين عسكريين أمريكيين، يشاركون في التخطيط للقوات العسكرية والإشراف عليها في منطقة الخليج العربي، تأكيدهم أنه “لا توجد خطة فعلية قابلة للتنفيذ فيما يتعلق بإيران، أو أي شيء من هذا القبيل لنشر قوات على نطاق واسع في الخليج”.
ولا بد من الإشارة هنا بأن هناك ساحات أخرى لم يختبرها الطرفان بعد، فقد تكون الساحة اللبنانية هي الأخرى مرشحة لتصعيد داخلي قد يقدم عليه حزب الله اللبناني، سواء مع الفرقاء اللبنانيين أو حتى “إسرائيل”، بل قد تدخل الفصائل الفلسطينية المسلحة هي الأخرى على خط المواجهة، هذا فضلًا عن إمكانية توظيف تنظيم داعش وكجزء من سياسة الاستثمار بالعدو على خط المواجهة أيضًا، وذلك من خلال فتح العديد من الممرات الأمنية التي من الممكن أن توصله لأماكن وجود القوات الأمريكية في العراق، والحديث هنا عن قاعدة عين الأسد والتنف، حيث ما زال خطر تنظيم داعش ماثلًا في هذه المناطق ومحيطها، فنفس الأسباب الإستراتيجية التي سوغت لإيران نقل عناصر داعش من القلمون الشرق في سهل البقاع اللبناني إلى دير الزور على الحدود العراقية السورية، يمكن أن توظفها إيران في صراعها مع أمريكا، أو حتى المناطق المحررة من سيطرة تنظيم داعش، ولعل هذا ما يوضح سبب امتناع أغلب القيادات السنية من إبداء رأي واضح وصريح من حيثيات الصراع بين أمريكا وإيران.
بالنسبة لطهران، دخلت المواجهة مرحلة عض الأصابع في الآونة الأخيرة وهي مرحلة اللاسلم واللاحرب، وهي الأخطر على الوضع الداخلي في ظل تشديد العقوبات المفروضة عليها
فضلًا عن كل ما تقدم، قدم الطرفان الأمريكي والإيراني رسائل مباشرة بعد جديتهما للدخول في صراعات مباشرة، وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد صرح سابقًا بأنه لا يفكر بالحرب مع إيران، وفي نفس السياق جاءت تصريحات المرشد الأعلى علي خامنئي لتصب في نفس الإطار بقوله في أثناء لقائه بمسؤولين إيرانيين رفيعي المستوى، بأن الأمة الإيرانية عازمة على مقاومة “الشيطان الأكبر”، مؤكدًا بأن بلاده لن تتفاوض مع أمريكا بشأن الإتفاق النووي الإيراني.
كانت صحيفة الغارديان البريطانية قد نشرت الأسبوع الماضي تقريرًا عن الملف الإيراني لمراسلها لشؤون الشرق الأوسط مارتن تشِلوف في صدر صفحتها الأولى الذي حمل عنوان “إيران تطلب من ميليشياتها الاستعداد لخوض حرب بالوكالة في الشرق الأوسط”، ويقول تشِلوف إن الجريدة علمت من مصادر استخباراتية بأن قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، التقى قادة الميليشيات الخاضعة لنفوذ طهران خلال زيارته الأخيرة للعراق قبل نحو 3 أسابيع وأخبرهم “بالاستعداد لخوض الحرب بالوكالة” على خلفية التصعيد الأمريكي ضد طهران.
ويضيف تشِلوف أن أحد المصادر قال “رغم أن سليماني اعتاد لقاء قادة الميليشيات بشكل مستمر منذ خمس سنوات، فإن هذا اللقاء الأخير كان مختلفًا جدًا، لقد كان الأمر أكبر بكثير من مجرد دعوة إلى إشهار السلاح”، ويوضح الكاتب أن الإدارة الأمريكية قامت بإجلاء موظفيها من بغداد وإربيل إثر وصول هذه المعلومات إلى السفارة الأمريكية في بغداد، كما رفعت مستوى التأهب في القواعد العسكرية في العراق ومواقع مختلفة في منطقة الخليج العربي، بعد أن شعرت أن مصالحها فيها قد تكون عُرضة للخطر.
بالنسبة لطهران، دخلت المواجهة مرحلة عض الأصابع في الآونة الأخيرة وهي مرحلة اللاسلم واللاحرب، وهي الأخطر على الوضع الداخلي في ظل تشديد العقوبات المفروضة عليها، ولأن الهدف العلني للرئيس الأمريكي دونالد ترامب هو تغيير سلوك النظام وليس تغييره فهو استفاد من الأيام الماضية لإرسال رسائل واضحة للقيادة الإيرانية، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام التقليدي، بأن هذه المرحلة مفتوحة أيضًا على التفاوض المباشر معه، ترامب الذي يصعّد ضد إيران، زودها برقم هاتفه لتتصل به عندما ترغب بذلك، وبالتوازي يعزز حضور بلاده العسكري على امتداد المنطقة، وهو بذلك كمن يمارس سياسة العصا والجزرة مع طهران، التي بدورها تسعى للتأكيد على أن المواجهة المباشرة معها لن تكون سهلة.
في الوقت الذي تمتلك فيه الولايات المتحدة الأمريكية قدرات عسكرية إستراتيجية يمكن من خلالها إخضاع إيران بالقوة، إلا أنه بالمقابل تمتلك إيران قدرات غير تماثلية تستطيع من خلالها استنزاف وإرهاق الولايات المتحدة الأمريكية
وعلى الرغم من كل التحشيد العسكري الأمريكي في منطقة الخليج العربي الذي يأتي مترافقًا مع تصريحات رسمية أمريكية بعدم جدية الولايات المتحدة للذهاب نحو خيار الحرب مع إيران، فقد تحدثت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، بأن الإدارة الأمريكية تهدف لنشر ما يقرب من 120 ألف جندي أمريكي في الأيام المقبلة في منطقة الخليج، التي تأتي مترافقة مع الاتفاقيات الأمنية الأخيرة التي وقعتها واشنطن مع عواصم خليجية، وعلى الرغم من أن هدفها المعلن هو حماية المصالح الأمريكية في الخليج، فإن المسؤول السابق لملف إيران في وزارة الدفاع الأمريكية كولين كاهل علق على هذا الأمر قائلًا: “نشر هذا العدد من الجنود لا يمكن أن يكون إلا في حالة التخطيط لغزو”، موضحًا أنه رغم ذلك فالعدد لن يكون كافيًا لغزو فعال.
إن حيثيات الصراع الأمريكي الإيراني لا يمكن اقتصارها في إطار منطقة جغرافية بحد ذاتها، فكلا الطرفين قادر على تحريك جبهات متعدد وبصور مختلفة، سواء كانت المواجهة عسكرية أم استخبارية أم أمنية، ولهذا يمكن القول إن هناك إدراكًا جيدًا لكلا الطرفين، ففي الوقت الذي تمتلك فيه الولايات المتحدة الأمريكية قدرات عسكرية إستراتيجية يمكن من خلالها إخضاع إيران بالقوة، إلا أنه بالمقابل تمتلك إيران قدرات غير تماثلية تستطيع من خلالها استنزاف وإرهاق الولايات المتحدة الأمريكية عسكريًا وأمنيًا.
ولهذا يبدو أن سياسة التعرض غير المباشر ستكون العنوان الأبرز خلال المرحلة المقبلة، خصوصًا أن البيئة الإقليمية والدولية غير مهيأة اليوم لصراعات عسكرية مباشرة، قد تنجم عنها مشاكل دولية جديدة، قد يأتي على رأسها موجات نزوح ولجوء جديدة، لا تستطيع أي دولة من دول المنطقة تحمل أعبائها الإنسانية والاقتصادية.