ساعات قليلة ويتوجه الأوروبيون صوب صناديق الاقتراع لاختيار برلمانهم الجديد في الدول الـ28 أعضاء الاتحاد الأوروبي، والمقرر أن يجري في الفترة من 23 إلى 26 من مايو الحاليّ، وسط حالة من الترقب لما ستسفر عنه تشكيلة البرلمان الجديد الذي يعد أحد أبرز الجهات الأساسية في صياغة قوانين القارة وتبنيها.
الانتخابات برهاناتها غير الواضحة لم تحظ بالقدر الكافي من الاهتمام كما كان متوقعًا من البعض، فيما تذهب الأجواء إلى تكرار سيناريو 2014، الأمر الذي أثار قلق الكيانات المحافظة واليمينية من صعود جديد للتيار الشعبوي المتطرف، خاصة في ظل الدعم الذي يحظى به، ليس من داخل أوروبا فحسب بل من العديد من القوى الخارجية المناهضة للوحدة الأوروبية.
400 مليون ناخب أوروبي مدعوون للتصويت لاختيار 751 نائبًا في برلمانهم الجديد من بينهم 73 نائبًا بريطانيًا إذ لم تنفصل لندن بعد عن الاتحاد في ظل حالة الانقسام الداخلي بشأن تطبيق البريكست، وقبل أقل من يومين على انطلاق العملية الانتخابية هناك العديد من علامات الاستفهام تطل برأسها في حاجة إلى إجابة بشأن شخصية البرلمان الجديد غير محددة الهوية حتى الآن.
انخفاض المشاركة
النسخ الأخيرة لانتخابات البرلمان الأوروبي شهدت تراجعًا كبيرًا في معدلات المشاركة، على رأسها الدورة الماضية في 2014 التي بلغت 42,6%، وهي الأدنى في التاريخ بالنسبة لانتخابات أوروبية، وهو ما عزاه خبراء السياسة بأن تلك الانتخابات فرصة جيدة للشعوب لمعاقبة السلطة وأنظمتها الحاكمة عبر سياسة الامتناع عن التصويت.
ورغم تشابه أجواء الآن بما كانت عليه قبل أربع سنوات، فإن الكثير من استطلاعات الرأي ذهبت إلى احتمالية إحداث ردة في إستراتيجية المعاقبة هذه المرة، فوفق نتائج الاستطلاع الذي أجري لحساب شبكة “تسي دي إف” فإن 56%من الألمان مهتمون بالانتخابات الأوروبية، كما أن نسبة المشاركة في الاقتراع بألمانيا قد تصل إلى 60%، مقابل 48% في 2014.
ربما تكون الفرصة سانحة أمام التيار الليبرالي ليحل منافسًا قويًا في هذا الماراثون، خاصة مع الدعم الذي يتلقاه من نواب الأغلبية الرئاسية الفرنسية (لائحة النهضة) والإسبان في حزب المواطنة (سيودادانوس)
من السابق لأوانه الاعتماد على مثل هذه الاستطلاعات في ظل ما أبدته من سقوط مدوٍ خلال الاستحقاقات الأخيرة، ليس في أوروبا وحدها بل في الولايات المتحدة كذلك لا سيما الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي فاز فيها دونالد ترامب، لكنها في الوقت ذاته تعطي مؤشرات أولية يمكن الاعتماد عليها بصورة نسبية في قراءة المشهد ومآلاته.
الاستطلاعات الأولية لم تكتفِ بنسب المشاركة وفقط، بل ذهبت إلى استشراف ملامح الخريطة السياسية الجديدة لتشكيلة البرلمان المقرر انتخابه، إذ ذهبت إلى احتمالية إنهاء الاقتراع لهيمنة أكبر كتلتين سياسيتين في القارة وهما الحزب الشعبي الأوروبي في اليمين والاشتراكيون في اليسار.
النتائج كشفت خسارة كل تيار لما يقرب من 30 مقعدًا على الأقل داخل المجلس الجديد، إلا أن ذلك لن يؤثر في هيمنتهما على البرلمان باعتبارهما القوتين المحوريتين في تشكيل تبني القوانين والموافقة عليها وفق ما ذهب الناطق باسم البرلمان الأوروبي خاومي دوش.
وفي تلك الأجواء ربما تكون الفرصة سانحة أمام التيار الليبرالي ليحل منافسًا قويًا في هذا الماراثون، خاصة مع الدعم الذي يتلقّاه من نواب الأغلبية الرئاسية الفرنسية (لائحة النهضة) والإسبان في حزب المواطنة (سيودادانوس)، وفي حال الليبراليين لسياسة الانضباط والعمل في إطار المجموع بعيدًا عن الشخصنة قد يكون لهم دورًا محوريًا في الدورة القادمة.
مؤشرات تذهب إلى تراجع معدلات المشاركة في الانتخابات
مساومات تعزز الانقسام
من المفترض أن يعقد قادة الاتحاد قمة بعد الانتهاء من الانتخابات بأيام قليلة، تحديدًا في الـ28 من الشهر الحاليّ، لبدء اختيار رؤساء الهيئات الخمس الأساسية: المفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبي والبرلمان الأوروبي والإدارة الدبلوماسية والبنك المركزي الأوروبي.
هناك العديد من الضوابط التي تحكم عملية الاختيار شكلًا وليس موضوعًا، كضرورة تعيين امرأة واحدة على الأقل في هذه المناصب، واحترام التوازنات بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، بحيث يكون المجلس بهيئاته معبرًا بشكل كبير عن الخريطة الجغرافية للقارة بعيدًا عن التحيزات.
لكن يبدو أن الواقع ينافي تلك الضوابط في الناحية الموضوعية، وهو ما يجسّده الخلاف بين المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فالأخير الذي يعارض مرشح الحزب الشعبي الأوروبي الألماني مانفريد فيبر الذي تدعمه ميركل لرئاسة المفوضية الأوروبية، قال تعليقًا على هذا الاختيار “علينا تجنب التسويات للمرشح الأقل جدارة”.
محاولات استيعاب هذا الخلاف تسير على قدم وساق من أجل الخروج بنتائج توافقية، ولأجل هذه المهمة من المقرر أن يتوجه رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك إلى باريس للقاء ماكرون، لإعداد الخطوط العريضة للقمة ومحاولة إزالة الخلافات وتقريب وجهات النظر.
اللافت للنظر كذلك اختيار شخصيات غير معروفة لرئاسة اللجان داخل المجلس الجديد، فيما اعتبره البعض عداءً معلنًا لرؤساء الدول والحكومات ورفضًا واضحًا لسياساتهم المتبعة، وأن يكون التصويت فرصة للمعاقبة كما تم ذكره سابقًا لا سيما في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا.
“أوروبا هذه التي نعيش فيها اليوم هي أوروبا جيدة، ولن نسمح بأن يدمرها القوميون.. رئيس كتلة المسيحيين الديمقراطيين في البرلمان الأوروبي” مانفريد فيبر
صعود اليمين المتطرف
قبل أسبوع من انطلاق العملية الانتخابية عقد 12 حزبًا من اليمين المتطرف قمة في ميلانو في إطار حملة الانتخابات الأوروبية، الحدث الذي وصفه البعض بأنه منعطف مهم في مسار هذا التيار، خاصة أنه يأتي غداة فضيحة نائب المستشار النمساوي الذي ينتمي لليمين القومي المتطرف التي أدت لاستقالته.
القمة جاءت كذلك عشية ظهور المستشار السابق للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ستيف بانون في باريس، كمستشار غير رسمي لحملة حزب التجمع الوطني بقيادة مارين لوبان، وهو الذي يعتبر المفكر الأساسي لتيارات اليمين الشعبوي المتطرف في الولايات المتحدة.
بانون توقع أن تحدث نتائج الانتخابات القادمة زلزالًا سياسيًا لصالح أحزاب اليمين القومي المتطرف، غير أن ما لفت الأنظار هو تصريح سابق له أكد فيه أن صعود اليمين القومي الأوروبي سيسمح لترامب بالانتصار في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ما يعني أن الرجل جاء لنقل هذه الخبرة لـ”لوبان” لتحقيق الانتصار كذلك.
من الواضح أن محاولة تفتيت التكتل الأوروبي ليس رغبة أمريكية فحسب، فلم يكن ترامب وحده الذي يعزف على هذا الوتر، إذ شاطره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ذات الهدف، وبات السؤال الأكثر حضورًا في الشارع الأوروبي الآن: هل يلعب ترامب وبوتين دور العراب لليمين القومي المتطرف الذي يريد إنهاء الاتحاد الأوروبي لصالح فكرة أوروبا الأمم؟ خاصة أن الاتحاد الحاليّ لا يثير ارتياح الدولتين فضلًا عن الصين من جانب آخر.
قلق من صعود جديد لليمين المتطرف
انتخابات مصيرية
بعيدًا عن الولوج في جدلية من المسؤول عن وصول الأوضاع إلى ما وصلت إليه، إلا أن نخبة من الخبراء ذهبوا إلى أن الفجوة الكبيرة بين الأحزاب التقليدية والشارع كانت السبب الرئيسي في صعود اليمين المتطرف، الأمر الذي أعطى الضوء الأخير لأحزاب الأخيرة في استغلال هذه الظرفية السياسية والعزف عليها بصورة ساعدت في تأجيج الوضع الاجتماعي وهو ما عبرت عنه احتجاجات السترات الصفراء في فرنسا على سبيل المثال.
“في السادس والعشرين من مايو سنقف على عتبة انتخابات مصيرية لهذه القارة”.. بهذه الكلمات عبّر رئيس كتلة المسيحيين الديمقراطيين في البرلمان الأوروبي، مانفريد فيبر، عن الأهمية المحورية للانتخابات المقبلة رغم تراجع مستوى الاهتمام بها على المستوى الإعلامي والشعبي.
وأضاف “أوروبا هذه التي نعيش فيها اليوم هي أوروبا جيدة، ولن نسمح بأن يدمرها القوميون”، شاطره في ذلك العديد من سياسي الأحزاب الأوروبية التي ترى أن الانتخابات لتشكيل البرلمان الأوروبي “مصيرية”، خاصة أنه لم يسبق أن وُجد هذا العدد الكبير داخل دول الاتحاد الأوروبي من الشعبويين اليمينيين المشاركين في الانتخابات المقبلة، وقد يحصلون، حسب الاستطلاعات، على 20% من مجموع المقاعد، وهذا أكثر ما يقلق التيارات اليمنية والمحافظة داخل القارة العجوز.
العديد من الملفات محل الخلاف بين الأحزاب المؤيدة لأوروبا والأخرى المناهضة لها، على رأسها فرص العمل والهجرة وحماية المناخ وسياسة التجارة ودور أقوى لأوروبا في العالم، الأمر الذي يضع الانتخابات التي تنطلق بعد يومين تحت مجهر الاهتمام، داخل أوروبا وخارجها، في انتظار ما ستسفر عنه من نتائج لا شك سيكون لها ارتدادات كبيرة على مستقبل القارة وعلاقاتها بالقوى الأخرى.