منذ زمن المصريين القدماء وفلاسفة اليونان الكلاسيكيّين، كانت الدورة الشهرية تحتلّ أهميةً كبيرة في حيّز التفكير العام بين الناس بشكلٍ واسع. اعتقد أفلاطون على سبيل المثال بأنّها نتاجٌ لحداد الرحم وحزنه حين لا يحصل على مولودٍ جديد، كما أنّ مصطلح “هستيريا” مشتق من الكلمة اليونانية “hystera” التي تعني الرحم.
وعلى أنّ الكلمة شائعة جدًا في عصرنا هذا، إلّا أنها على مرّ التاريخ كانت حكرًا على النساء فقط ومرتبطة بحالاتهنّ النفسية والجنسية تبعًا للدورة الشهرية. لكنّ غياب الكلمة لم يغيّر كليًّا من الفكرة القائلة بأنّ المرأة خاضعة لهرموناتها وغير قادرة على تنظيم سلوكيّاتها ومزاجاتها لوقوعها تحت تأثير حالاتها البيولوجية، لا سيّما دورتها الشهرية.
تشكّل تلك الفكرة العديد من الصور النمطيّة في العقول وتنعكس على تصرّفات وسلوكيّات الناس. فيعتقد البعض بأنّ المرأة غير عقلانية أو مزاجية أو عصيّة على الفهم والتعامل، أو أنها غير قادرة على شغل مناصب عليا وما إلى ذلك، وغيرها من الصور التي رُسّخت في الوعي الجَمعي للبشر دون أنْ تفهم حقيقةً أثر البيولوجيا على المرأة ودور هرموناتها في حياتها.
على مستوىً نفسيّ ومزاجيّ، فمن المسلّم به بكلّ تأكيد أنّ أكثر من 80% من النساء يعانين من أعراض اثنين من الاضطرابات المصاحبة للدورة الشهرية والحيض؛ متلازمة ما قبل الدورة الشهرية واضطراب ما قبل الطمث الاكتئابي، مع اختلاف الأعراض وحدّتها ومدّتها وغيرها من العوامل المؤثّرة من امرأةٍ لأخرى.
التغيرات الهرمونية وأثرها على الدماغ ليست حكرًا على النساء وحسب. الرجال لديهم دوراتهم الهرمونيّة أيضًا، والتي تؤثّر على قدراتهم الإدراكية والمعرفيّة كلّ يوم
مبدئيًا، لنتّفق أيضًا أنّ التغيرات الهرمونية وأثرها على الدماغ ليست حكرًا على النساء وحسب. الرجال لديهم دوراتهم الهرمونيّة أيضًا، والتي تؤثّر على قدراتهم الإدراكية والمعرفيّة كلّ يوم. ففي وقتٍ مبكّر جدًّا في الصباح، يصل التستوستيرون عند الرجل إلى أعلى مستوياته ثمّ ينخفض بشكلٍ حادّ مع مرور النهار، مسبّبًا معه زيادةً في العدوانية والتعب وتقلب المزاج والتوتّر وسرعة الغضب والاندفاع في اتّخاذ القرارات. وهذه جميعها أعراض شبيه بأعراض المتلازمة السابقة للحيض عند المرأة.
لكنْ هل يقتصر تأثير هرمونات الدورة الشهرية على اضطرابات المزاج وحسب؟ بكلّ تأكيد لا. ومن هنا، نحن بحاجةٍ فعلية إلى إعادة النظر في أدمغتنا وما يحدث فيها حتى نستطيع فهم حالاتنا الإنسانية والتعامل معها بإدراكٍ صحيح، وربّما بالتالي نستطيع استغلالها.
جوانب إيجابية
هناك الكثير من الأبحاث والدراسات التي حاولت كشف العلاقة الفعلية بين الدورة الشهرية وتغيّرات الهرمونات الجنسية الأنثوية من جهة وبين الدماغ وأجزائه والمهامّ المسؤولة عنها. وبشكلٍ عام، هناك لُبس واضح وملحوظ حول تلك العلاقة ما بين متّفق ومنكر.
فعلى سبيل المثال، اكتشف مجموعة من الباحثين عام 1995 أنّ هناك عددًا من البروتينات يتمّ تنشيطها عن طريق مستقبلات هرمون الأستروجين في العديد من مناطق الدماغ، بما في ذلك المناطق المسؤولة عن التفكير والذاكرة والانتباه.
تشير دراسات إلى أنّ ارتفاع هرمون الاستروجين يحسّن من أداء الذاكرة والوعي المكاني والطلاقة اللفظية عند المرأة
ومنذ ذلك الوقت، أصبح لدى العلماء سببٌ واضح لوجود علاقة حقيقية بين الهرمونات الجنسية والدماغ. هناك دراسات تتحدّث عن قدرةٍ أكبر في أداء الذاكرة، لا سيّما الذاكرة الضمنية، وما يرتبط بها من مهاراتٍ أعلى في الاتّصال والتواصل. تستند هذه الفكرة على النتائج المقرّة بأنّ هرمون الأستروجين يؤثّر فعليًا على منطقتين متجاورتين في الدماغ؛ الحصين واللوزة الدماغية.
فمن جهة، يشارك الحصيْن في تخزين الذكريات واسترجاعها تمامًا كما يلعب دورًا حيويًّا في تعزيز القدرات الاجتماعية مثل التواصل والتعاطف ومعالجة المشاعر. أمّا اللوزة الدماغية فتشارك أيضًا في إدراك وتقييم العواطف والاستجابات السلوكية المرتبطة بالخوف والقلق، وهو ما يساعد أيضًا في تعزيز المهارات الاجتماعية.
في وقت لاحق، أشارت عدة دراسات إلى أنّ هرمونيْ الأستروجين والبروجستيرون يمكن أن يؤثرا على كلٍّ من الوعي المكاني والطلاقة اللفظية عند المرأة. أمّا التفسير لذلك فيرجع إلى الضرورة البيولوجية التي تطوّرت مع المرأة لتكون أكثر قدرةً على التواصل مع أطفالها ونقل وتبادل المعلومات معهم لضمان سلامتهم ونجاتهم.
اختلافاتٌ شخصية
بالنهاية، غالبًا ما تكون هذه النتائج والآراء غير حاسمة أو متناقضة، إمّا لصغر العيّنات المستهدفة أو لتعقيدات العلاقة بين الدورة الشهرية والمهارات الإدراكية. ومن جانبٍ آخر، تلعب الاختلافات في السمات الشخصية بين النساء دورًا واضحًا يزيد من تعقيد العلاقة بين الهرمونات والإدراك.
من المحتمل أنْ تكون بعض النساء أكثر حساسيةً لتأثيرات الأستروجين من غيرهنّ نظرًا لمستوى الدوبامين عندهنّ
ونظرًا لأنّ الأستروجين وغيره من الهرمونات الجنسية ترتبط ارتباطًا مباشرًا وتتفاعل مع عددٍ من الناقلات العصبية في الدماغ مثل السيروتونين والدوبامين والغلوتامات والأدرينالين، وهي التي تختلف بشكلٍ طبيعيّ في مستوياتها بين جميع الناس، ومن المعروف أنّ هذه النواقل تؤثّر على الأداء المعرفيّ والإدراكيّ أيضًا، خاصة الدوبامين. وبالتالي، من المحتمل أنْ تكون بعض النساء أكثر حساسيةً لتأثيرات الأستروجين من غيرهنّ نظرًا لمستوى الدوبامين عندهنّ.
ودعمًا لذلك، أكّدت واحدة من الدراسات أنّ عددًا من النساء أظهر بالفعل تحسّنًا وأداءً أفضل في الذاكرة عند ارتفاع مستويات الأستروجين لديهنّ في حين لم تُظهر أخريات ذلك. وبكلماتٍ أخرى، قد تؤثّر الاختلافات الطبيعية في مستويات هرمون الأستروجين على الإدراك، ولكن فقط في مجموعةٍ معيّنة من النساء وليس جميعهنّ.
تخبرنا جميع تلك الدراسات أنّ هذا العلاقة بين الهرمونات الأنثوية والدماغ أو الإدراك أو حتى النفسية والمزاج قد تكون شائكة بالفعل ولا تستطيع فرضية واحدة الحسم فيها، ومهما خرج من أبحاث ودراسات حتى اللحظة فمن غير المرجّح أن تكون الأخيرة أو الفاصلة. لكنّ هذا لا يمنعنا من الاطّلاع عليها وتناولها لنكونَ على دراية بما يحدث داخل أدمغتنا وأجسامنا ومعرفةٍ بالمحفّزات المحتملة لسلوكياتنا وتصرفاتنا ومزاجاتنا.