فشلت السلطات الجزائرية، إلى اليوم، في الحد من الحراك الشعبي المنادي بمحاسبة رموز نظام بوتفليقة والبدء في مرحلة انتقالية مع تأجيل الانتخابات، رغم اتخاذها أساليب عديدة لتحقيق ذلك، ما دفعها إلى اللجوء لأسلوب جديد تمثل في غلق العديد من الساحات العامة سعيًا لاستعادة قبضتها الأمنية على الفضاء العام.
غلق رمزيات الحراك
يبدو أن السلطات تسارع لتطويق الحراك والحد من فعاليته، وذلك بغلق أبرز نقاطه، حيث عمدت ليلة أمس، إلى غلق ساحة البريد المركزي، القلب النابض للحراك الشعبي، والميدان الذي احتضن أغلب التظاهرات والحركات الاحتجاجية الرافضة لنظام الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة ولبقاء رموزه، منذ بدايتها في 22 من فبراير/شباط الماضي.
ونشر نشطاء جزائريون، ليلة أمس الثلاثاء، صورًا ومقاطع فيديو على صفحاتهم الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي، تظهر لحظة تسييج مبنى البريد المركزي بصفائح حديدية من طرف العمال، وسط حضور أمني مكثف.
وتعتبر ساحة البريد المطلة على خليج الجزائر والواقعة على مقربة من العديد من المؤسسات الرسمية (البرلمان بغرفتيه وقصر الحكومة وعدة وزارات منها الداخلية)، ملتقى المحتجين. فمنذ بداية الحراك، اتخذ المتظاهرون الجزائريون من ساحة البريد المركزي في قلب العاصمة منبرًا رددوا منه هتافاتهم ورفعوا فيه شعاراتهم الرافضة للنظام واستمرار حكم بوتفليقة.
وبررت السلطات قرار غلق ساحة البريد بخوفها على المتظاهرين، على إثر ظهور تشققات واهتراءات مست السلالم الموجودة في الساحة، ما جعلها مهددة بالانهيار، وحذرت المتظاهرين من الوصول إليها حفظًا لسلامتهم الجسدية.
لجأت قوات الأمن الجزائرية أمس إلى تفريق مسيرة لطلبة الجامعات توجهت إلى قصر الحكومة لمعارضة الانتخابات الرئاسية
بالتزامن مع ذلك، تم إغلاق جميع مداخل المبنى المعروف بتسمية “قصر الشعب” في وسط مدينة برج بوعريريج بالآجر، واشتهر المبنى غير المكتمل البناء الذي يضم عدة طوابق منذ بداية الحراك الشعبي بسبب استخدامه من المتظاهرين لرفع شعاراتهم وكذلك إنزال التيفو الأسبوعي (لافتة عملاقة) وتعليقه على جدرانه.
قبل ذلك، أغلقت السلطات النفق الجامعي المحاذي لساحة موريس أودان (مناضل فرنسي من أجل القضية الجزائرية اغتاله الاستعمار في الخمسينيات)، ويشكل هذا النفق الذي يصفه الجزائريون بـ”غار حراك”، في إشارة رمزية للانبعاث الشعبي منه، أحد أبرز نقاط الاحتجاج في البلاد.
ومنذ انطلاق الحراك الشعبي مثّل النفق الجامعي نقطة رئيسية في مسار المتظاهرين ينفذون منه في طوافهم كل جمعة ليعودوا إلى ساحة البريد المركزي، حيث قلب “الحراك”، وأرجعت السلطات سبب غلقها لهذا النفق بالاكتظاظ الذي يحصل فيه والخوف من حدوث انزلاقات خطيرة داخله، أو احتكاك بين الجماهير، وحماية الأشخاص.
حجج مردودة على “الوصاية”
“الحجج التي قدمتها الوصاية (في إشارة للسلطة التي تحكم البلاد الآن) في تسييج وغلق منافذ بعض رمزيات الحراك في الجزائر غير منطقية”، يقول الصحفي الجزائري رياض المعزوزي في تصريح لـ “نون بوست”.
ويضيف رياض “السلطة تحدثت عن الحفاظ على منشأة البريد المركزي كعمارة تعود إلى العهد العثماني ومصنفة في التراث العالمي، وتواصل الاعتصامات من على درجها الرئيسي قد يؤثر على المبنى، لكن السؤال المطروح هنا: لماذا هذا الإجراء لم يكن بحي القصبة بالكامل وهو المصنف أيضًا في التراث العالمي؟”.
مبنى قصر الشعب
أشار الصحفي الجزائري إلى حادثة انهيار عمارة تعود إلى العهد العثماني في الجزائر في أبريل/نيسان الماضي، التي توفي على إثرها 05 أشخاص، ونتيجة هذه الحادثة تم إقالة والي العاصمة عبد القادر زوخ، للدلالة على إهمال السلطات.
أما بخصوص قصر الشعب بولاية بورج بوعريريج، فيقول رياض: “السلطات المحلية تحدثت عن المحافظة على سلامة الشعب، لأن العمارة ومع ضغط الحراك ووجود مندسين قد تكون هناك حوادث مؤسفة، لكن حسب المعلومات التي بحوزتنا، فإن قصر الشعب هذا يشرف على تسييره كل جمعة مجموعة من الشباب الذين يحددون العدد، ويراقبون كل الوافدين إلى داخله بما فيهم الإعلاميين والشخصيات السياسية”.
استعادة الفضاء العام
يؤكد رياض المعزوزي أن الشعب الجزائري واعٍ ويعرف ألاعيب السلطة، ويقول في هذا الشأن: “أرى أن هناك أطرافًا تحاول التضييق على الحراك الشعبي من خلال التركيز على ساحات رمزية للحراك، التي أصبحت قبلة لكاميرات العالم بأسره”.
ويعتقد محدثنا أن الجمعة المقبلة (الـ14 منذ انطلاق الحراك) ستكون الأكثر حشدًا بسبب هذه التصرفات، فضلاً عن تصرفات الاعتداء على الطلبة من الشرطة والأمن، وتركيز القايد صالح رئيس الأركان على ترسيم 4 من يوليو/تموز كموعد لإجراء الانتخابات.
ولجأت قوات الأمن الجزائرية أمس إلى تفريق مسيرة لطلبة الجامعات توجهت إلى قصر الحكومة لمعارضة الانتخابات الرئاسية، واستخدمت الشرطة الغازات المسلية للدموع والهراوات، لتتحول المسيرة إلى مقر اللجنة المستقلة لمراقبة الانتخابات – التي تم حلها مؤخرًا – أين أعلنوا رفضهم للانتخابات ورددوا “مكاش انتخابات يا العصابات” و”دولة مدنية وليس عسكرية”.
يطالب المحتجون بأن يسبق تنظيم الانتخابات رحيل كل هذه الرموز وفي مقدمهم الرئيس الانتقالي عبد القادر بن صالح ورئيس الوزراء نور الدين بدوي
جاءت هذه المسيرة، يومًا بعد خطاب رئيس أركان الجيش الفريق قايد صالح، رفض فيه أي تأجيل للانتخابات التي دعا إليها عبد القادر بن صالح، أو رحيل كل رموز النظام الموروث.
واعتبر قايد صالح أن إجراء الانتخابات الرئاسية في البلاد يقطع الطريق أمام من يريد إطالة أمد الأزمة، ويمكن أن يؤدي إلى تفادي الوقوع فيما سماه فخ الفراغ الدستوري، وأضاف – خلال زيارة له إلى المنطقة العسكرية في ورقلة – أن الخطوة الأساسية تتمثل في الإسراع بتشكيل الهيئة المستقلة لتنظيم هذه الانتخابات.
وقال: “ذوو المخططات المريبة يستخدمون المسيرات لإبراز شعاراتهم مثل المطالبة بالرحيل الجماعي لكل إطارات الدولة بحجة أنهم رموز النظام، وهو مصطلح غير موضوعي وغير معقول، بل وخطير وخبيث يراد منه تجريد مؤسسات الدولة من إطاراتها وتشويه سمعتهم”.
وتسعى السلطات الجزائرية التي تمسك بزمام الأمور الآن إلى استعادة قبضتها الأمنية على الفضاء العام، حتى تتمكن من بسط سيطرتها على الحراك الشعبي والتحكم في مسارها، وهو ما يمكّن النظام من إعادة إنتاج نفسه، وفق العديد من الجزائريين.
ويؤكد رياض ضرورة إزاحة الأسيجة والجدران المقامة لغلق هذه الأماكن، وفي حال لم يتم ذلك، فستظهر ساحات أخرى وميادين ستتكفل برمزية الحراك، أو ربما يقدم الشباب على إزاحتها بالقوة وهو ما قد يبحث عنه البعض لإثارة الفوضى والصدام.
يسعى النظام للسيطرة على الحراك الشعبي
في غضون ذلك، تتواصل الفعاليات الرافضة لإنجاز الانتخابات الرئاسية في موعدها المحدد، ويؤكد المحتجون رفضهم إجراء انتخابات رئاسية ينظمها رموز “النظام” الموروث، تحت الضغوط المزدوجة للحركة الاحتجاجية والجيش الذي تخلى عنه.
ويطالب المحتجون بأن يسبق تنظيم الانتخابات رحيل كل هذه الرموز وفي مقدمهم بن صالح ورئيس الوزراء نور الدين بدوي، وكانت المهلة القانونية لتقديم ملفات الترشح قد انتهت أول أمس الأحد.
هذا الشد والجذب بين السلطات الجزائرية الحاليّة وعلى رأسها الجيش بقيادة قايد صالح من جهة، والمحتجين من جهة أخرى من شأنه إطالة الأزمة في الجزائر وتأجيل الوصول إلى حل يرضي جميع الأطراف، الأمر الذي ستكون له تداعيات سلبية على البلاد.