“بعد شو جيتو؟”… بهذا السؤال الاستنكاري أشهرت سيدة سورية حذاءها في وجه بعثة الأمم المتحدة إلى سوريا بقيادة غير بيدرسون أثناء زيارتها لسجن صيدنايا بالعاصمة دمشق، الاثنين 16 ديسمبر/ كانون الأول 2024، معربة عن استنكارها للدور السلبي للمبعوث الأممي على مدار سنوات تعرضت سوريا خلالها، دولة وشعبًا، لأبشع أنواع التنكيل والاضطهاد على أيدي النظام البائد.
يعكس هجوم المرأة السورية على وفد البعثة الأممية، والتي رشقت سياراته بحذائها (في استدعاء لمشهد الصحفي العراقي منتظر الزايدي حين رشق الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش خلال مؤتمر صحفي في بغداد ديسمبر/ كانون الأول 2008)، مُجبرة إياه على الانسحاب من المكان، حالة الامتعاض من غياب الدور الأممي عن المشهد السوري رغم تعدد المبعوثين وتنوع الوفود بين الحين والآخر، لا سيما فيما يتعلق بالانتهاكات التي تعرض لها الملايين من الشعب السوري، داخل السجون والمسالخ البشرية التي لم يتطرق أحد إليها إلا بعد سقوط النظام.
أمرأة سورية حرة من أمام سجن صيدنايا
تقوم بطرد بعثة بيدرسون والأمم المتحدة
وتصف حضورهم وحضور الدول العربية بالمتأخر pic.twitter.com/c5EsvvwT3I— Wolverine (@Wolveri07681751) December 16, 2024
ومنذ انطلاق الثورة السورية في مارس/ آذار 2011، كان للأمم المتحدة دورًا وحضورًا على الساحة السورية، لكنه الحضور الباهت والدور المفقود، الذي جاء في مجمله عكس إرادة السوريين، إذ منح نظام الأسد المنهار الضوء الأخضر -بشكل غير مباشر- لارتكاب كل أنواع الجرائم ضد الإنسانية بحق شعبه، من خلال استراتيجية التسويف والمماطلة والتلكؤ وغضّ الطرف، وهو ما وظفه الأسد الهارب للتنكيل بالسوريين على مدار أكثر من 10 سنوات.
اليوم وبعد سقوط النظام وتحرير المعتقلين من صيدنايا وغيره من مسالخ الموت التي أعدّها الرئيس المخلوع للمعارضين، ها هو المبعوث الأممي يتوجه في زيارة هي الأولى من نوعها لأحد تلك المقابر الحية، والتي لم يزرها حين كانت تعجّ بعشرات الآلاف من المعتقلين الذين كانوا يواجهون كل أنواع التعذيب والسحق، زيارة إن كان لها عنوان فهي “زيارة اللقطة” ومحاولة تسول دور للمنظمة الدولية، يحفظ لها ماء الوجه المُراق على مدار سنوات كان الفشل طريقها الوحيد.
انخراط مبكّر في الأزمة.. ولكن
مع بداية اندلاع الاحتجاجات الشعبية ضد النظام منتصف مارس/ آذار 2011، ولجوء شبيحة الأسد للعنف كأداة وحيدة للتعامل مع هذا الحراك الجماهيري الذي يطالب بالتغيير السلمي، دعت الأمم المتحدة -كعادتها في مثل تلك الأحداث في شتى بقاع الأرض- الثوار والنظام إلى ضبط النفس والتهدئة، وأن يكون الحل السياسي هو الخيار الوحيد.
غير أن النظام المتعجرف وقتها لم يلقِ بالًا لتلك الدعوات المجردة تمامًا من أي أدوات ضغط يمكن إشهارها في وجه الأسد، لتدخل الجامعة العربية هي الأخرى على الخط عبر جهود دبلوماسية قامت بها لوقف العنف ضد المدنيين، والارتضاء للجلوس على طاولة المفاوضات للوصول إلى حل سلمي يجنّب البلاد المزيد من الفوضى.
كان رد الأسد على دعوات المؤسستين، الأمم المتحدة والجامعة العربية، هو المزيد من التصعيد والقتل والتنكيل بحق المتظاهرين، استهداف مباشر في سويداء القلب، مجازر جماعية، موجة اعتقالات بالجملة غير مسبوقة، إصرار ممنهج على سحق إرادة الشعب، والتأكيد على أن العمل العسكري هو الحل الوحيد في البلاد.
وأمام هذا الصلف ورفض كافة المبادرات والمحاولات للحل الدبلوماسي، أعلنت الجامعة انسحابها من المشهد بعد أن اتخذت قرارها بتجميد مقعد سوريا لديها، تاركة الدولة العربية غارقة في بحار من الدماء لا تجف، ليُلقى بهذا الملف بأكمله في ملعب الأمم المتحدة التي وجدت نفسها دون غيرها المخولة بالتعاطي مع تلك الأزمة في ظل حالة انقسام دولية فاضحة بشأنها، فريق يدعم النظام بإجرامه وانتهاكاته، وآخر يطالب بمعاقبته وفرض عقوبات رادعة ضده.
وبعد عدة مناقشات على مدار قرابة عام كامل منذ اندلاع الثورة، قررت الأمم المتحدة إيفاد مبعوث خاص بها لدى سوريا، لتيسير جهود حل الصراع بعدما وصل إلى مستويات أكثر دموية، وقد وقع الاختيار حينها على الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان، ليكون مبعوثًا مشتركًا للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية في 23 فبراير/ شباط 2012، ليبدأ مشوار الفشل والعجز والتواطؤ.
خطة عنان السداسية.. الإحباط كلمة السر
حاول عنان توظيف خبراته السياسية الأممية وعلاقاته المستمدة من كونه أمينًا عامًّا سابقًا للأمم المتحدة لإنجاح مهمته الصعبة، فبدأ بالتواصل مع طرفي الأزمة السورية، النظام والمعارضة، بجانب فتح قنوات اتصال مع الوسطاء والقوى الإقليمية المعنية بالمشهد، كروسيا والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وإيران وبعض الدول العربية.
وبعد مشاورات استمرت قرابة شهر أو أكثر قليلًا، خرج عنان بخطة مكونة من 6 نقاط لإنهاء الصراع، كان من أبرزها ضمان وصول المساعدات الإنسانية للمتضررين والإفراج عن المعتقلين وبدء حوار سياسي والسماح للإعلام الدولي بالوصول إلى سوريا دون عوائق، وبالفعل أيّد مجلس الأمن تلك الخطة في أبريل/ نيسان من نفس العام باعتماد القرارين 2042 و2043، وإنشاء بعثة الأمم المتحدة للمراقبة في سوريا (أنسميس).
الخطة رُحّب بها بداية الأمر، إلا أنه ومع دخولها حيز التنفيذ جاء الرد سريعًا من الأسد، حيث إلقاء القنابل المتفجرة على السوريين في مدينة دير الزور التي اجتاحها جيش النظام، وارتكاب العديد من المجازر المروعة أشهرها مجزرة الحولة بريف حمص في 25 مايو/ أيار 2012، والتي راح ضحيتها 108 أشخاص، من بينهم 34 امرأة و49 طفلًا.
وفي نفس التوقيت تقريبًا صدر إعلان جنيف عن اجتماع مجموعة العمل من أجل سوريا التي ضمت عددًا من دول منطقة الشرق الأوسط، والدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي (الولايات المتحدة الأمريكية، المملكة المتحدة، فرنسا، الصين، روسيا)، وهو الإعلان الذي قام في الأساس على الخطة السداسية التي وضعها عنان.
وفي 2 أغسطس/ آب 2012، فوجئ الجميع بإعلان عنان رغبته في عدم التمديد له كرئيس للبعثة الأممية لسوريا، والاكتفاء بتلك الفترة التي قضاها وتقديم استقالته بشكل رسمي، مبررًا ذلك بصعوبة الموقف في الداخل السوري في ظل تعنُّت حكومة النظام بشكل واضح، وعجز المجتمع الدولي عن القيام بالمهام الموكلة إليه وعدم إظهاره للشجاعة اللازمة لذلك.
وأضاف حينها في المؤتمر الصحفي الذي عقده في جنيف وأعلن فيه استقالته، أنه “بدون ضغط دولي جادّ وهادف، بما في ذلك من قوى المنطقة، سيكون من المستحيل لي أو لأي شخص آخر أن يدفع الحكومة السورية أولًا وأيضًا المعارضة إلى اتخاذ الخطوات الضرورية لبدء العملية السياسية”، مؤكدًا في الوقت ذاته أن سوريا يمكن أن تنقَذ من أسوأ كارثة يمكن أن تشهدها، بشرط أن يُظهر المجتمع الدولي القيادة والشجاعة اللازمتَين للتوصل إلى حلول وسط من أجل مصلحة الشعب السوري.
الأخضر الإبراهيمي.. الذي أطاحت به براميل الأسد
في 17 أغسطس/ آب 2012، تم تعيين وزير الخارجية الجزائري السابق الأخضر الإبراهيمي كمبعوث مشترك للجامعة العربية والأمم المتحدة إلى سوريا، خلفًا لكوفي عنان، ورغم اعتراف المبعوث الجديد بصعوبة المهمة في ظل استمرار النظام في انتهاكاته الإجرامية بحق السوريين، إلا أنه حاول العزف على وتر الدبلوماسية على أمل أن تنجح الأطراف المعنية في الضغط على الأسد.
وبالفعل بدأ في عقد سلسلة من المشاورات واللقاءات مع رئيس النظام السوري ورؤساء روسيا والصين، وعدد من المسؤولين في طهران وأنقرة والأمين العام للجامعة العربية، ليطرح بعدها خطته للسلام المؤقت، والتي تضمّنت وقف إطلاق النار لمدة 4 أيام، خلال إجازات عيد الأضحى، نهاية أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه.
وبالفعل وافقت المعارضة وحكومة النظام على الالتزام بتلك الخطة التي دخلت حيز التنفيذ في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2012، لكن سرعان ما خرق شبيحة الأسد تلك المهلة، ليبدأ الضرب والقصف بالبراميل المتفجرة للسوريين في الغوطة الشرقية، لينهار الاتفاق وتعود الأمور إلى ما كانت عليه، قتل وتنكيل وإجرام، وسط صمت وعجز أممي معتاد.
حاول الإبراهيمي العاجز في فرض قراره وقرار مؤسسته الدولية على نظام الأسد أن يطرق أبواب الصين لممارسة الضغط على الحكومة السورية المتعنتة، فتوجّه بعد انهيار خطته في زيارة خاطفة إلى بكين، التقى خلالها وزير الخارجية الذي أكّد هو الآخر على ضرورة الحل السياسي، دون توضيح كيفية ذلك ولا الضمانات وأدوات الضغط المتوقع ممارستها على النظام السوري.
تزامن عمل المبعوث الأممي مع انطلاق مؤتمر جنيف للسلام مطلع عام 2014، والذي كان يهدف لمناقشة سبل حل الأزمة وتحقيق الانتقال السلمي للسلطة، لكن كالعادة خرج المؤتمر صفري النتائج، مكتفيًا بعبارات ومناشدات وتصريحات فضفاضة لا مخالب لها لترجمتها على أرض الواقع المحكوم ببراميل الأسد المتفجرة.
وكما استقال عنان استشعارًا بالعجز والفشل، أعلن الدبلوماسي الجزائري هو الآخر استقالته للأسباب ذاتها، نهاية مايو/ أيار 2014، رغم ما قدمه من مرونة وتنازلات لإرضاء الأسد ونظامه، مؤكدًا في بيان استقالته أنه على قناعة بأن الأزمة السورية ستنتهي، “لكن كم شخص سيُقتل بعد حتى تحقيق ذلك؟”، مرجعًا فشل تحقيق مصالحة سوريا إلى تعنت النظام السوري وإصراره على الحل العسكري، وعجز المجتمع الدولي عن فرض إرادته وكلمته.
دي ميستورا.. شاهد العيان على الإجرام الروسي
بعد قرابة 40 يومًا من استقالة الإبراهيمي، عُيّن الدبلوماسي مزدوج الجنسية، الإيطالي السويدي، ستيفان دي ميستورا مبعوثًا للأمم المتحدة لدى سوريا، وذلك في 10 يوليو/ تموز 2014، والذي عمل بعد مشاورات مكثفة بين وروسيا والولايات المتحدة وبعض القوى الأخرى على إنشاء مجموعة الدعم الدولية لسوريا، لبحث كيفية التعجيل بإنهاء الصراع.
وأسفرت المحادثات التي قادها المبعوث الجديد عن اعتماد مجلس الأمن للقرار 2254 في 18 ديسمبر/ كانون الأول 2015، والذي وضع جدولًا زمنيًا للانتقال السياسي السلمي للسلطة، بما تضمنه من مفاوضات حول إنشاء حكومة تعبّر عن أطياف المجتمع السوري ولها مصداقية معتبرة، كذلك وضع آلية لتدشين دستور جديد، والدعوة لإجراء انتخابات حرة تحت إشراف الأمم المتحدة.
ولاقى القرار الذي طالب “جميع الأطراف التوقف فورًا عن شن أية هجمات ضد أهداف مدنية”، ترحيبًا من المعارضة السورية، فيما ماطلت الحكومة السورية في تنفيذه، متعلّلة ببعض البنود التي طالبت بتعديلها وإضافتها، وهو ما عرقل القرار وجمّده بشكل كبير، قبل أن يتغير مسار العمل السياسي نحو أستانة.
وخلال فترة دي ميستورا، شهدت الأزمة السورية دخول روسيا على خط المعركة كقوة داعمة لنظام الأسد، والممول العسكري والاقتصادي الأبرز له، والتي ساعدته في ارتكاب مئات الجرائم والانتهاكات بحق شعبه، تلك الجرائم التي قلبت الطاولة وغيّرت معادلة التوازن في المشهد لصالح النظام على حساب مئات الآلاف من الضحايا السوريين، وعشرات أضعافهم أُجبروا على النزوح داخليًا وخارجيًا.
شارك المبعوث الإيطالي السويدي بـ 11 جولة لمسار أستانة، بالتزامن مع استمرار الهمجية الإجرامية لنظام الأسد الذي لم يجد أي غضاضة في وقف أو تجميد انتهاكاته بحقّ الشعب السوري، كل هذا ولم تحرك الأمم المتحدة ساكنًا، ولم ينتفض مبعوثها للدفاع عن المهمة التي أوكلت إليه، وأمام هذا الإحساس المرير من الفشل الممزوج بالعجز، اضطر دي ميستورا تقديم استقالته من منصبه نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، تاركًا خلفه إرثًا من الدماء والأشلاء.
بيدرسون.. الدبلوماسي المتأرجح بين خطوة وخطوة
عُيّن الدبلوماسي النرويجي غير بيدرسون خلفًا لسلفه دي ميستورا كمبعوث للأمم المتحدة لسوريا، وهو الذي يتمتع بخبرة سياسية ودبلوماسية ممتدة لقرابة 20 عامًا، منذ أن عُيّن ممثلًا للنرويج لدى السلطة الفلسطيينة فترة 1998-2003، والممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لجنوب لبنان عام 2005، قبل أن يتولى منصب المنسق الخاص للمنظمة في لبنان بين عامي 2007-2008، وممثلًا دائمًا لبلاده في عام 2012، كما رأس شعبة آسيا والمحيط الهادئ بإدارة الأمم المتحدة للشؤون السياسية فترة 2012-2017، وسفير النرويج في الصين عام 2017.
ورث بيدرسون إرثًا داميًا من قبل أسلافه الثلاثة، حيث تجاوز الأسد ونظامه كافة الخطوط الحمراء ومختلف الألوان الرمادية والداكنة الأخرى، فاعتقل مئات الآلاف وزجّ بهم في السجون والمعتقلات سيّئة السمعة، وارتكب مجازر وحشية بحقّ شعبه في عشرات المدن، مستخدمًا كافة أنواع الأسلحة المحرمة.
حاول المبعوث الأممي الرابع لسوريا تجنُّب الصدام مع أي من الأطراف المتنازعة، خاصة بعد دخول روسيا على خط الأزمة كطرف أساسي وحليف داعم على طول الخط للنظام السوري، فضلًا عن الصين وإن لم تعلن ذلك بشكل واضح.
كذلك حاول طرق الأبواب العربية لدعم مهمته الصعبة، فكان القبول بالمبادرة التي قدمها الأردن منتصف عام 2021 لكسر حالة الجمود التي أحلت بهذا الملف، والتي حملت اسم “خطوة مقابل خطوة”، وعُرفت أيضًا بـ”اللاورقة”، وتقوم على تقديم كل طرف خطوة، مقابل خطوة من الطرف الآخر، بهدف “بناء الثقة”.
تقزم الدور الأممي سوريًا طيلة ولاية بيدرسون، لا سيما بعد الاتفاق الروسي التركي، الموقع بموسكو في مارس/ آذار 2020، بشأن وقف إطلاق النار في إدلب (شمال غرب) وإقامة ممر أمني وتسيير دوريات مشتركة، وهو الاتفاق الذي سحب البساط نسبيًا من الوفد الأممي الذي اقتصر دوره على التنسيق كحلقة وصل بين الأطراف دون أي حضور ملموس ميدانيًا.
العجز والفشل سيد الموقف
إن كان هناك من عنوان لفترة عمل المبعوثين الأمميين الأربعة لدى سوريا، والتي استمرت 12 سنة و9 أشهر و15 يومًا (4672 يومًا) منذ تعيين أول مبعوث في 23 فبراير/ شباط 2012 حتى سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، فهو الفشل على كافة المسارات والمستويات، الفشل الممزوج بين العجز أحيانًا والتواطؤ مع النظام البائد أحايين أخرى.
وتعرضت الثورة السورية على مدار أعوامها الثلاثة عشر وأشهرها الثمانية وأيامها الثلاثة والعشرين، لطعنات غائرة من المجتمع الدولي بكافة أطيافه، على رأسه الأمم المتحدة، التي اكتفت بدور الحاضر الغائب، الشريك المخالف، الحليف غير الموثوق به، المنصة العوراء التي ترى بعين وتغض الأخرى.
فشل سياسي.. بعد مئات اللقاءات والاجتماعات في الداخل السوري وخارجه، لم تنجح البعثة الأممية في فرض الحل السلمي للأزمة السورية، إذ تأرجحت على أحبال المشهد تارة نحو المشرق وأخرى صوب المغرب، مكتفية بدور المشاهد للأحداث والمنسق لها أحيانًا، دون القدرة على إحداث أي اختراق بسبب عدم الرغبة في استخدام أوراق الضغط التي بحوزتها، لإجبار نظام الأسد على الرضوخ للقرارات الأممية.
فشل حقوقي.. كانت عمليات الاعتقال لمئات الآلاف من السوريين تتم على مرأى ومسمع من البعثة، سواء على أعينها أو عبر عشرات التقارير الحقوقية التي كانت توثق تلك العمليات، كذلك حفلات التعذيب الممنهجة بحقّ المعتقلين داخل المسالخ البشرية الإجرامية التي حوّلها الأسد لمقابر جماعية للشعب السوري، دون أن تُحرك ساكنًا أو تُمارس دورها ضد هذا النظام الذي اتخذ من هذا الصمت الأممي دربًا لمواصلة جرائمه، دون أي قلق من حساب أو معاقبة.
وبينما كان نظام الأسد وشبيحته يلقون القنابل المتفجرة على السوريين هنا وهناك، كان الموفد الأممي يكتفي بالتنديد والاستنكار والمناشدة البعثية، وإجراء الاتصالات الجوفاء لوقف تلك الجرائم، دون استخدام لأي من صلاحياته لوقف تلك الجرائم التي صنّفتها الكيانات الحقوقية الدولية كجرائم حرب وانتهاكات ضد الإنسانية.
اتهامات التواطؤ.. واجهت البعثة الأممية في سوريا عدة اتهامات بالتواطؤ مع نظام الأسد في ارتكاب جرائمه بحق شعبه، فالصمت على ما يجري من انتهاكات وحشية دون اتخاذ موقف حازم نوع من التواطؤ، وعدم تقديم رموز هذا النظام لمحاكمات دولية عاجلة وتركهم يعربدون هكذا كيفما شاؤوا هو أيضًا نوع من التواطؤ، ومنح النظام 10 سنوات كاملة لممارسة إجرامه عبر سياسة التسويف العقيم وتشتيت الجهود درب من دروب التواطؤ.
ومن أبشع أنواع التواطؤ التي ارتكبتها الأمم المتحدة بحق الشعب السوري، التلاعب بورقة المساعدات الإنسانية، التي كانت تُمنح للنظام السوري فيما يُترك الشعب فريسة للجوع والعطش ونقص الأدوية والمستلزمات الطبية.
ففي أغسطس/ آب 2023، أصدر الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية بيانًا كشف فيه “قيام نظام الأسد بسرقة ودفن مئات الأطنان من المساعدات الإنسانية في منطقة عمريت بريف طرطوس، لانتهاء صلاحيتها جراء تخزينها لفترات طويلة في مستودعات النظام، وامتناعه عن توزيعها للأهالي”، مشيرًا إلى أن قوى الثورة حذّرت في عدة مناسبات سابقة أن هذا النظام يسرق المساعدات الإنسانية ويمنع وصولها للأهالي.
وأكد الائتلاف في بيانه أن “إرسال المساعدات الإنسانية عبر نظام الأسد يمثل إمداد آلة القتل الإجرامية بسلاح إضافي، إذ يمنع النظام هذه المساعدات عن الأهالي ويوزعها على الميليشيات والعناصر الذين يشاركونه في قتل الشعب السوري، ويخزنها حتى تفسد في مستودعاته”.
وفي الأخير، فإن كان من وصف بارز وواضح لإدارة الأمم المتحدة للملف السوري بعد 12 عامًا و9 أشهر، ومن خلال 4 مبعوثين من مختلف الجنسيات والخلفيات السياسية، لن يخرج عن ثلاثية الفشل والعجز والتواطؤ، لترسخ المنظمة الأممية ازدواجيتها وفقدانها للاستقلالية المزعومة، وخضوعها ابتداءً وانتهاءً لرغبات وأجندات القوى الكبرى التي تهيمن عليها وعلى قراراتها، ليأتي في نهاية المطاف وبعد نجاح الثورة السورية وتخلُّصها من النظام البائد، من يطالب -ببجاحة منقطعة النظير- بفرض الوصاية الدولية على سوريا، وتدشين مرحلة انتقالية تحت رعاية الأمم المتحدة الفاشلة.