ترجمة وتحرير نون بوست
في السابع عشر من أيار/مايو، وفي خطوة مفاجئة أذهلت العديد من المراقبين على حين غرة، أصدر البوندستاغ الألماني، قرارًا يدين حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، معتبرا إياها معادية للسامية. وحظي هذا القرار غير المُلزم، الذي اقترحه الحزب الديمقراطي المسيحي الحاكم والحزب الديمقراطي الاشتراكي، بدعم مختلف الأحزاب الألمانية بما في ذلك الليبراليون وحزب الخضر الألماني.
في هذا السياق، قدّم حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف اقتراحًا خاصًا يدعو إلى فرض حظر كامل على حركة المقاطعة، في حين أن الحزب اليساري الألماني، المعروف باسم دي لينكه، لم يدعم اقتراح الحكومة، بل قدم اقتراحه الخاص، الذي يدعو إلى إدانة أي تصريحات معادية للسامية قد تقدّمها حركة المقاطعة.
تفسير مقنع
في الواقع، بدأت المقالات المثيرة للقلق في الانتشار، بعد فترة وجيزة من ادعاء البعض أن ألمانيا هي “أول بلد في العالم يجرّم حركة المقاطعة على إسرائيل”. وعلى سبيل المثال، وخلال إحدى المقابلات، أورد الخبير الاقتصادي السياسي، شير هيفر الذي يتخذ من برلين مقراً له قائلا: “لقد وافق البوندستاغ الألماني للتو على تشريع لم يسبق له مثيل، يدين حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، واصفا إياها بأنها معادية للسامية وغير شرعية. كنتيجة لدلك، يجعل هذا القرار من ألمانيا الدولة الأولى والوحيدة في العالم التي تجرّم حركة المقاطعة”.
الدافع لتجريم المقاطعة، ينبع من الرغبة في التغلب على ذنب المرء الناجم عن الهولوكوست.
من هذا المنطلق، يقدم هيفر تفسيرًا مثيرًا للاهتمام (إن لم يكن مقنعًا) لتبرير إدانة ألمانيا لمقاطعة إسرائيل. كما أشار هيفر إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أكد مرتين أن المفتي العام للقدس، الحاج أمين الحسيني، هو أول من اقترح فكرة إبادة اليهود، وليس أدولف هتلر. علاوة على ذلك، أوضح هيفر أن نتنياهو كان يحاول تخليص الألمان من شعورهم بالذنب إزاء الهولوكوست. وتابع هيفر حديثة قائلا إنه “بدلاً من الشعور بالذنب تجاه الهولوكوست والحاجة إلى الاعتذار وتحمل المسؤولية عن تلك الجرائم التي ارتكبت منذ سنوات عديدة، من الممكن نقل هذا الذنب إلى الفلسطينيين”.
وأضاف هيفر: “يحمل هذا الخطاب في طيّاته رسالة خفيّة موجّهة إلى حزب البديل من أجل ألمانيا. لكن يبدو أن حزب اليسار الألماني، أو بعض أطرافه، قد عبروا عن رغبتهم في التخلص من شعورهم بالذنب تجاه الهولوكوست من خلال وضع حركة المقاطعة، التي تمثّل صرخة فلسطينية، في الكفّة ذاتها مع معاداة السامية، على الرغم من أنها ليست في الواقع معادية للسامية. في المقابل، تشير أفعالهم هذه بأنهم يحاربون معاداة السامية من خلال دعم إسرائيل، بدلاً من تحمّل مسؤوليّة حماية الشعب اليهودي”. ووفقا لهيفر، فإن الدافع لتجريم المقاطعة، ينبع من الرغبة في التغلب على ذنب المرء الناجم عن الهولوكوست.
الحزب اليساري الألماني
فضلا عما سبق، يقدم الناشط والمنشق الإسرائيلي ومؤيد حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات المتمركز في برلين، روني باركان، تفسيراً أكثر إقناعا إزاء سبب دعم أطراف من حزب اليسار الألماني للتشريع المناهض لحركة المقاطعة، يتمثل في أنه قرار عنصري. بالإضافة إلى ذلك، يشبّه باركان قرار ألمانيا المناهض لسياسة المقاطعة بقانون الدولة القومية في إسرائيل.
في الواقع، لوحظ انسحاب حزب اليسار الأوروبي، عن دعمه لفلسطين قبل بضع سنوات في مقال نشرته مجلّة “جاكوبين” بعنوان “مشكلة فلسطين الخاصّة باليسار الألماني”
في هذا السياق، كتب باركان أنه مثلما ينصّ قانون الدولة القومية على تقنين العنصرية الكامنة في البلاد، دون تغيير أي شيء حيال ذلك، فإن تقديم هذا القانون في كلمات بسيطة وتجريده من “لغته الصهيونية الأورويلية”، قد أماط اللثام عن الحقيقة أمام من كانوا يتوهمون بوجود “ديمقراطية إسرائيلية”.
وعلى نفس المنوال، يجادل باركان أن الحركة المناهضة لحركة المقاطعة الألمانية تكشف فقط عن الطبيعة الحقيقية للشعب الألماني، وهي أن العنصريّة متجذّرة فيه. في المقابل، يوجّه باركان غضبه نحو اليسار الألماني، ويتهمه بالتواطؤ الكبير في إسكات المعارضة والنشطاء في مجال حقوق الفلسطينيين.
في الواقع، لوحظ انسحاب حزب اليسار الأوروبي، عن دعمه لفلسطين قبل بضع سنوات في مقال نشرته مجلّة “جاكوبين” بعنوان “مشكلة فلسطين الخاصّة باليسار الألماني”، والذي يشير إلى أن رئيس “دي لينكه” في برلين، كلاوس ليدرر، قد ألقى كلمة خلال اجتماع مؤيدٍ لإسرائيل خلال الحرب على غزّة 2008-2009.
إحدى المتظاهرات التي تحمل لافتة مؤيّدة لحركة المقاطعة في التاسع من حزيران/يونيو سنة 2018 في برلين.
في الواقع، من خلال دوره “كسيناتور للثقافة”، سعى ليدر بدوره إلى إلغاء عدّة أحداث أخرى مؤيدة لفلسطين، على غرار “حديث مع منال التميمي”، الذي نظمته مجموعة “النساء تحت الاحتلال” خلال السنة الماضية. وبالإضافة إلى ستافيت سينا وماجد أبو سلامة، واجه باركان، العضو في “هومبولت 3″، مؤخرا اتهامات بتخريب خطاب في جامعة هومبولت، ألقاه عضو في الكنيست الإسرائيلي أيّد من خلاله الهجوم الإسرائيلي على غزة سنة 2014.
في بيانه في المحكمة، أوضح أبو سلامة “أن الآلاف من المسلمين والفلسطينيين في ألمانيا لا يشعرون بالأمان عند التعبير عن رأيهم. ويشعرون أنهم معرّضون للاضطهاد في أي لحظة، لمجرد الصراخ بكلمات من قبيل؛ “فلسطين حرة” أو حتى أن يحلموا بالعودة إلى ديارهم وفقًا لحق العودة الذي فوضته الأمم المتحدة. لذلك، هم يخشون من التعرّض للاضطهاد بسبب مناداتهم بتحقيق المساواة والكرامة والحرية والعدالة في غزة”.
تسليط الضوء على الأكاذيب
مهما كانت الأسباب المعقدة لتخلّي اليسار الألماني عن دعمه الشعبي لحقوق الفلسطينيين، فيجب الإشارة إلى بعض الأكاذيب المتعلّقة بهذا القرار الأخير. أولاً، كما يشير موقع “ميدل إيست آي”، فإن هذه الخطوة غير ملزمة ورمزية تمامًا. وبعبارة أخرى، لم “تجرّم” ألمانيا حركة المقاطعة، بل أصدرت قرارا (زورا) يدينها باعتبارها معادية للسامية. وثانياً، لا يعدّ هذا القرار في حد ذاته الأول من نوعه، نظرا لأنه يتّبع خطوات سابقة مماثلة صادرة عن كل من فرنسا والمملكة المتحدة.
من جهتها، فرضت فرنسا على مجموعة من نشطاء حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات سنة 2015 غرامة مالية قدرها 14500 دولار بالإضافة إلى رسوم المحكمة، وذلك إثر ترويجهم للحركة في إحدى الفضاءات التجارية. وقالت السلطات إن الحركة تقوم على مبدأ “التمييز” حسب الأصل القومي. لذلك، يعتبر الدفاع عنها بمثابة جريمة. وفي سنة 2016، سنّت بريطانيا قانونا يحظر على الهيئات العمومية مقاطعة المنتجات الإسرائيلية. ولذلك، لم يسبق أن حدث “تجريم” حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات سوى في فرنسا.
يمكن للمرء أن يتوقع مناقشة تشريعات مناهضة للحركة والتصويت عليها في مختلف دول أوروبا وأمريكا الشمالية وحتى كندا التي سبق لها أن أدانتها.
على الرغم من تصنيف القضاء الفرنسي للحركة على أنها تقوم على التمييز، وجب أن نفهم أن “حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات تستهدف مبدأ “التواطؤ وليس الهوية” كما ذكرت مؤخرًا. لذلك، لا تعدّ الكثير من الشركات التي تسلط عليها الحركة الضوء على غرار “كاتربيلر” و”هوليت-باكارد” و”جي فور إس”، إسرائيلية.
على العموم، وجدت محاولات تطبيق القرارات التي اتخذتها الولايات المتحدة بهدف حظر حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات من يتحداها داخل أروقة المحاكم، كما هو موضح في المقال، الذي يحمل عنوان “القوانين المفروضة لمكافحة حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات التي أصبحت شائعة ولكنها غير دستورية”، الذي نشرته صحيفة واشنطن بوست مؤخرا.
في الحقيقة، كان آخر هذه التحديات التي أتت أكلها يتمثل في إسقاط الحظر الذي فرضته الدولة في مدينة بفلوغرفيل، في ولاية تكساس. فقد رفعت الأستاذة بهية أماوي دعوى قضائية ضد المقاطعة التعليمية التي رفضت تجديد عقدها عندما امتنعت عن التوقيع على فقرة تلتزم من خلالها ألا تكون طرفا في حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات. وفي نيسان/أبريل سنة 2019، حققت السيدة أماوي فوزا ساحقا عندما أصدر القاضي حكما ضد القانون المناهض لحركة المقاطعة، الذي كان من شأنه أن يجردها من حقوقها المدنية ويحرمها من وظيفتها.
أهداف حركة المقاطعة
يمكن للمرء أن يتوقع مناقشة تشريعات مناهضة للحركة والتصويت عليها في مختلف دول أوروبا وأمريكا الشمالية وحتى كندا التي سبق لها أن أدانتها. لذلك، لا بدّ من تكرار وتوضيح بعض النقاط وبالأخص، أهداف الحركة. وفي الواقع، تشمل هذه الأهداف إنهاء الاحتلال غير القانوني للأراضي الفلسطينية وهدم جدار الفصل العنصري غير القانوني، إلى جانب منح المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل حقوقًا متساوية والاعتراف بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة.
سواء وقع تجريم مقاطعة إسرائيل من عدمه، لا يتدّ “مشروعية” حركة أو أيديولوجيا أو سياسة أو ممارسة مؤشرا على نزاهتها الأخلاقية، وخير دليل على ذلك الفصل العنصري الذي كان في وقت سابق قانونا إلى أن ألغي تماما
والجدير بالذكر أنه يترتب عن اتهام حركة المقاطعة بأنها “معادية للسامية”، اتهام “السامية” (وهي أسرة لغوية تشترك فيها العديد من الجماعات القومية والإثنية) بأنها مجموعة فرعية ذات طبيعة عنصرية استيطانية مستعمرة تسيطر عليها نزعة التفوق وتنتهك القانون الدولي. ومن الجلي أن المنطق الذي يقف وراء هذا الادعاء خاطئ على كل المستويات.
أما فيما يتعلق باتهام حركة المقاطعة بسعيها إلى “نزع الشرعية” عن إسرائيل من خلال الضغط لضمان التزامها بالقوانين الدولية. فلسائل أن يسأل حول السبب الذي يدفع ببلد إلى شعور بالتهديد في مواجهة مطلب يحترم حقوق الإنسان. ولا بدّ من الإشارة إلى أن العدالة تهدد الظلم. فإذا ما تعرضت إسرائيل للتهديد وشعرت أنها فقدت شرعيتها بسبب المطالب التي تسعى الحركة لتحقيقها والتي تلتزم بالقانون الدولي، فمن الواضح أن هذا البلد قد ارتكب انتهاكات فظيعة خالفت هذا القانون.
سواء وقع تجريم مقاطعة إسرائيل من عدمه، لا يتدّ “مشروعية” حركة أو أيديولوجيا أو سياسة أو ممارسة مؤشرا على نزاهتها الأخلاقية، وخير دليل على ذلك الفصل العنصري الذي كان في وقت سابق قانونا إلى أن ألغي تماما. هكذا كانت العبودية وكذلك هي الهولوكوست في السياق الألماني. وحتى وإن أصبحت حركة المقاطعة غير قانونية أو بمثابة جريمة، إلا أنها لن تكون غير أخلاقية. فعندما يختار القانون أن ينحاز إلى الظالم، فإن أولئك الذين يقاومونه ويسعون إلى تغييره يمتلكون أسسا أخلاقية عالية.
المصدر: ميدل إيست آي