لا تقف الأزمات المالية والديون المتراكمة لأصحاب المشروعات المتوسطة، على دول الشرق الأوسط وبلدان العالم الثالث التي تغييب فيها معايير التخطيط والمسؤولية والدراسة الجيدة قبل الإقدام على أي خطوة مهما كانت صغيرة، ولكنها ظاهرة عالمية لم تسلم منها حتى الدول الأكثر تطوراً، كالولايات المتحدة الأمريكية، التي يعيش فيها سائقو سيارات الأجرة أزمات خطيرة بسبب تراكم ديون القروض، فانتهى الحال ببعضهم إلى الانتحار بعدما تحولت حياتهم إلى حجيم متواصل.
نيويورك.. حالات انتحار
ترصد الصحف الأمريكية حقائق مفزعة عن ظاهرة تزايد حالات الانتحار بين أصحاب سيارات الأجرة، وخاصة خلال الـ12 شهرًا الماضية، مما وضع مدينة مثل نيويورك تحت الأضواء من جديد، وهذه المرة ليس بسبب السينما أو عروض الأزياء، ولكن لحصول آلاف السائقين من جنسيات مختلفة، على قروض متهورة، فأثقلوا كاهلهم بالديون ولم يعد بإمكانهم سدادها.
لجأت البنوك لإشباع السوق بمثل هذه القروض بعد تحطم سوق الإسكان وانهيار الاقتصاد العالمي عام 2008، وعلى مدار 10 سنوات بعد هذا التاريخ، اعتمدت على منهج القروض المتقلبة، عبر مزيج من المال السهل والمدينين المتحمسين الذين وقعوا في هواية القروض دون النظر إلى تكاليفها الباهظة التي تصادر حقوقهم وأرباحهم الشهرية لصالح فؤائد تقدم للبنوك لأجل غير مسمى.
سمحت بعض البنوك للسائقين المتعثرين وخاصة بنكSignature Bank بالحصول على قروض إضافية لسد القروض القديمة، مما ساهم في تكدس الديون عليهم
يعمل السائقون نحو 60 ساعة أسبوعيًا، ورغم هذا النشاط ومع طحنهم في أقساط القروض، أصبحوا لا يحصلون حتى على الحد الأدنى للأجور، بسبب إنفاق الدخل على تكاليف التمويل والإيداع والدفع الممل والمبكر، في ظل المنافسة غير العادلة مع شركة “Uber” التي دخلت إلى الخدمة في المدينة منذ عام 2011، فانخفضت أرباح سيارة الأجرة ولم تسعفهم كل محاولات المواجهة أو حتى طلب التوقف المؤقت عن السداد، خاصة أن البنوك استثمرت في الأزمة وأمعنت في ابتزازهم سواء بعرض ممتلكاتهم أم ممتلكات أقاربهم للبيع بعد التعثر عن السداد أم فرض رسوم إضافية وإجبارهم على شراء أنظمة حماية للتأمين على الحياة دون أن يكون لهم رغبة أو حاجة فيها.
كما سمحت بعض البنوك للسائقين المتعثرين وخاصة بنك Signature Bank بالحصول على قروض إضافية لسد القروض القديمة، مما ساهم في تكدس الديون عليهم، وأصبحت أكثر من 950 أسرةً في المدينة تحت رحمة المجهول، ما أدى في النهاية إلى 8 حالات انتحار بين السائقين، بسبب ضغوط العمل والديون التي تراكمت عليهم، بسبب إعادة تمويل قروضهم، حسب القانون الذي يتيح لهم الحصول على قروض أخرى، كل خمس سنوات، دون أن يتغير وضع السوق أو تتدخل الدولة لفرض العدالة على المنافسة مع الشركات العابرة للقارات.
ومنذ دخول شركة “Uber” السوق، وهي تستحوذ على حصة كبيرة بعدما أصبحت التجربة الأفضل للعملاء بعكس متاعب سيارات الأجرة، ما دعا مدينة نيويورك لوضع بعض اللوائح في الآونة الأخيرة، للحد من التأثير الذي أحدثته الشركة على شوارع المدينة وصناعة سيارات الأجرة الصفراء، فجمدت عدد من السيارات المؤجرة للشركة العملاقة وفرضت عددًا من الرسوم الإضافية منذ شهر فبراير الماضي، بجانب تطبيق قانون الحد الأدنى للأجور بالنسبة للسائقين المعتمدين على التطبيق.
وتحاول السلطات مؤخرًا، الضغط قدر المستطاع للمساهمة في وقف الانخفاض المتزايد بعدد الراغبين في الاستثمار بسيارة الأجرة الصفراء، في ظل استعداد “Uber” لطرح عروض لاستقطاب عملاء جدد رغم التضييق عليها، ما دفع تحالف عمال سيارات الأجرة في نيويورك لتنظيم إضراب شامل، من أجل إجبار السلطات على التدخل بشكل أكثر جدية لتحسين بيئة العمل وحماية السائقين وتأمين دخلهم، بغض النظر عن الأزمة التي تفرض نفسها على الأحداث، بجانب أزمة القروض وانتحار السائقين، وهي انخفاض مهارات السائقين المحترفين في مدينة نيويورك وخاصة القادمين للبلاد من الهجرة.
اختفت من المدينة الحياة الكريمة للسائقين، كما هو الحال في الشرق الأوسط والشعار المرفوع في مجتمع يفضل البقاء للأقوى في السوق
وينتمي نحو 91% من السائقين المحترفين في المدينة إلى أفقر بلدان العالم مثل جمهورية الدومينيكان وبنغلاديش، ونصف السائقين من هذه البلدان لا يعتمدون على التطبيقات الحديثة في أعمالهم، التي أصبحت تقليديًا أكثر شرائح السوق ربحًا، في ظل زواج التكنولوجيا الجديدة من عولمة سوق العمل، الذي أصبح معروفًا بتدني الأجور في مدينة نيويورك، وجميعها ظروف تقود إلى خدمات أفضل للمستهلكين، وهو بالأساس قصة نجاح السوق الحرة الكلاسيكية منذ تطور الرأسمالية التي تقتات على نمو الجانب المظلم من القصة بشكل واضح أمام أعين الجميع.
وأغلب حالات الانتحار بين سائقي سيارات الأجرة في المدينة، تحدث بسبب اليأس الذي يعانون منه وعدم الاستماع بشكل جيد لاستغاثاتهم من مرارة الدخول في حرب تكسير عظام مع شركات عالمية مثل “Uber وLyft” خاصة أن أغلبهم استثمر مدخرات حياته في شراء سياراة أجرة وأصبحت حاليًّا بالنسبة لسكان نيويورك من الماضي، فدمروا هم وعائلاتهم ماليًا، ولم يعد أمامهم إلا العمل لمدة 10 ساعات و12 و14 ساعة دون أن تكفيهم شر العوز والفقر، بل تتزايد المخاطر كل يوم عن الآخر بسبب المنافسة غير العادلة مع شركات عابرة للقارات تفترس السوق وتخضعه لحساباتها التي تبنى على حسابات دقيقة، لدراسة الحاجات الاجتماعية والنفسية والتكنولوجية للمواطن.
اختفت من المدينة الحياة الكريمة للسائقين، كما هو الحال في الشرق الأوسط، والشعار المرفوع في مجتمع يفضل البقاء للأقوى في السوق ويمنح قبلة الحياة لأصحاب المهارات العليا وحدهم دون غيرهم، مما جعل مثل هذه المنافسة المجنونة، تدميرًا ذاتيًا لأي احتمال يقود إلى التنقل التصاعدي بين العمال، وخاصة ذوي المهارات المنخفضة، إذ لا تتوافر الوظائف جيدة الأجر لهؤلاء حاليًّا.
تكرار لسيناريو الأزمة في العالم العربي
ما يحدث في نيويورك عاشته العديد من دول المنطقة وفي القلب منهم مصر منذ سنوات، إذ اندلعت أزمة كبرى بين سائقي “التاكسي الأبيض” وشركة “Uber” مصر بسبب استخدام الشركة للعداد في حساب الأجرة بطريقة أكثر احترافية وأقل في التكلفة، في وقت يتحجج فيه أغلب سائقي سيارات الأجرة بغلق العداد بحجة تعطله، وتقدير الأجرة بدلاً من ذلك بالمزاج الشخصي أو المساومة مع الراكب.
جشع الكثير من سائقى سيارات الأجرة جعل المواطنين وحتى الوافدين العرب، يتضامنون مع الشركة ضد حملات السائقين ضدهم، عندما قدموا عشرات البلاغات لوأد التجربة، بحجة عدم التزام “Uber” بالضرائب مثلهم، بجانب المنافسة غير العادلة مع شركة عالمية لديها القدرة على توفير عروض لا يقدرون عليها بسبب ارتفاع أسعار البنزين والسولار وقطع الغيار، وإن كانت هذه الشكاوي حقيقة ولكن المعاملة والأمانة ودراسة احتياج الجمهور واللعب على إشباع حاجاته، الدافع خلف تفضيل الجمهور لخدمات “Uber” والشركات التي ستقدم نفس الخدمة مستقبلاً بالسوق المصرية.
ما رأي الشعب المصري في برنامج “Uber“؟
تعمل شركة “Uber” الأمريكية وكريم الإماراتية في مصر منذ عام 2014، واستحوذت الأولى على الأخيرة في صفقة تجاوزت الـ3.1 مليار دولار مؤخرًا، لتخفيف حدة المنافسة بينهما، بعدما أصبحا من أهم وسائل المواصلات الداخلية يسرًا وتنظيمًا، ما زاد من معاناة أصحاب “التاكسي الأبيض”، إذ استحوذت الشركتان على جزء كبير جدًا من زبائنهم، دون الخضوع لشروط المنافسة العادلة في قطاع النقل المصري، كما يردد سائقو الأبيض دائمًا.
الانتفاضة الشعبية المؤيدة إعلاميًا لصالح بقاء الخدمة بعد الحصول على حكم قضائي بوقف خدمات أوبر وكريم في مصر، دعا الحكومة للطعن على حكم المحكمة الإدارية العليا التي قبلت الطعن بدورها، وقضت المحكمة في النهاية بعدم قبول الدعوى المقامة من سائقي “التاكسي الأبيض” لزوال شرط المصلحة.
وقفة لسائقي “التاكسي الأبيض” ضد سيارات “أوبر وكريم” بميدان مصطفي محمود
لم تلتفت الحكومة المصرية إلى احتجاجات سائقي سيارات الأجرة، في ظل الخدمة المميزة التي تقدمها شركات النقل الخاص للركاب والحنق الشعبي على سائقي الأبيض بسبب العشوائية وسوء المعاملة وتردي الخدمات وعدم تطوير مهاراتهم وترسخ المهنة في أيدي حفنة من أصحاب المهارات البسيطة والثقافة العشوائية، ما كان يسيء لصورة مصر لدى الزائرين العرب والأجانب.
أصدرت الحكومة المصرية القانون رقم 87 لسنة 2018، لتنظيم خدمات النقل باستخدام تكنولوجيا المعلومات، تضمن القانون الجديد، تحديدات واضحة لنشاط شركات النقل البري باستخدام تكنولوجيا المعلومات، بينها شركتا “Uber” و”كريم” وألزمت الراغبين في المنافسة بالحصول على تراخيص من الجهة الإدارية المختصة بمزاولة هذا النشاط، ما ترتب عليه زوال مصلحة الطاعنين من المنافسين التقليدين الذين يواجهون الآن شبح التحلل والانقراض أمام مثل هذه الشركات، وخاصة في العاصمة القاهرة، التي يتخطى عدد سكانها نحو 20 مليون نسمة، تستحوذ “Uber” وحدها على 4 ملايين عميل، وتسعى لاستثمار 100 مليون دولار خلال خمس سنوات في البلاد، قبل أن تستحوذ على شركة كريم التي استثمرت نحو 30 مليون دولار في مصر، والبقية تأتي.