يدخل هجوم قائد القوات الموالية لبرلمان طبرق (شرق) خليفة حفتر، على الحكومة المعترف بها دوليًا ومقرها طرابلس، أسبوعه الـ6، ولا حل سياسي يلوح في الأفق، رغم الدعوات الأممية للاحتكام إلى طاولة الحوار والبحث عن حل سلمي للأزمة يجنب البلاد الانزلاق نحو فوضى قد تتجاوز العاصمة إلى مناطق أخرى.
وبات جليا أن الدعوات الدولية “الباهتة” لن تلق آذانًا صاغية لدى اللواء المتقاعد الذي جرب تقريبًا كل التكتيكات الحربية واستعمل ما يملكه وما لا يملكه من عتاد وأسلحة (ثقيلة وطيران) من أجل اختراق تحصينات القوات الحكومية، فأشعل كل محاور القتال على مشارف طرابلس، شمالاً وجنوبًا، غربًا وشرقًا، ولكن تحركاته الأخيرة باءت جميعها بالفشل ولم تُسفر عمليًا إلا عن مزيد من القتلى والمهجرين.
أصوات خافتة
لم تتخذ الدول الغربية وخاصة منها المعنية مباشرة بالأزمة (فرنسا وإيطاليا)، موقفًا واضحًا وصريحًا من الحرب الدائرة واكتفت بدعوات “لينة” للعودة إلى طاولة الحوار وضرورة إيجاد مخرج سياسي، وخيّرت بذلك الانتظار لمن ستؤول إليه كفة الصراع لتبني سياستها الجديدة وفق مبدأ من يملك الأرض (القوة) يملك الشرعية، فمصالحها الاقتصادية المتمثلة في النفط والغاز وأمنها العميق (الهجرة والإرهاب) يأتيان في المرتبة الأولى، ولن تتحرك إلا إذا أحست بتهديدات حقيقية، إضافة إلى أن تنافس الدولتين الأوروبيتين على أحقية “الوصاية” على البلد الإفريقي صعّب عليهما الدفع بكل ثقلهما في الأزمة.
من المستبعد جدًا أن توقف الدول الفاعلة على المستويين الإقليمي والدولي سعيها لتمكين حلفائها في الداخل، من خلال الدعم الدبلوماسي أو اللوجستي أو المادي
وبخلاف أوروبا، تعمل بعض الدول العربية ومنها مصر والإمارات على دعم عمليات اللواء خليفة حفتر سياسيًا ولوجستيًا (المال والعتاد)، متعللة بمساندة الأخير في حربه على الإرهاب، دون أن تنفي أيضًا محاربة تيار الإسلام السياسي والعمل على تحجيم نفوذ “الإخوان”، فيما تعمل دول أخرى (تركيا وقطر) على دعم الشرعية المتمثلة في حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، ولكنها تسعى بدورها جاهدة لتأمين وجودها على الساحة والحفاظ على عقودها ومشاريعها في هذا البلد.
لذلك، من المستبعد جدًا أن توقف الدول الفاعلة على المستويين الإقليمي والدولي سعيها لتمكين حلفائها في الداخل، من خلال الدعم الدبلوماسي أو اللوجستي أو المادي، ولكن المطلوب أن يعمل الليبيون على ألا يخرج هذا الدعم عن سياق الاتفاق السياسي الذي ترعاه الأمم المتحدة أو المبادرات الإقليمية (دول الجوار) والمحلية المتمثل في المؤتمر الوطني الجامع (مدينة غدامس).
الأزمة ليبية
حالة الجمود التي رافقت الأزمة الليبية وتسبب فيها تدخل القوى الإقليمية والدولية، وتعدد المبادرات “المبتورة” الفاقدة للدعم والاحتكام إلى القوة لحل النزاعات والصراعات منذ ثورة 17 فبراير، أحدثث فراغًا على الصعيد الفعل السياسي المحلي، فغابت جميع الأحزاب باختلاف أيديولوجياتها في كل الاستحقاقات والأحداث المفصلية التي عاشتها ليبيا مؤخرًا، واكتفت في كثير من الأحيان بإصدار، على استحياء، بيانات مقتضبة و”جافة”، مخيرة الوقوف على خط التماس أو التموقع في “ظل” الكتائب والمليشيات.
الحل لن يكون إلا ليبيًا خالصًا، يقوم على تنازل الأطراف المتصارعة في إطار مصالحة وطنية شاملة، ووفق خريطة طريق تُعجل بالتوجه لانتخابات رئاسية وبرلمانية
عجز الأحزاب الليبية بعد الثورة عن “استصلاح” الحياة السياسية وتحمل مسؤولياتها وغياب تأثيرها في الواقع، يدفع أيضًا للتساؤل عن دور النخب والطبقة المثقفة في قيادة سفينة البلاد للرسو على شاطئ الأمان، هذا الفراغ شمل الشخصيات الوطنية ووزراء سابقون يحظون بقبول واحترام لدى عامة الشعب ومعروفون بنظافة اليد.
الغياب الطوعي أو التغييب القسري لهذه الفئة القادرة على قيادة أي مرحلة حساسة ودقيقة، زادت الوضع سوءًا وفتحت الأبواب على مصراعيها لكلمة الرصاص والاحتكام للقوة كبديل لحل الخلافات وفصل النزاعات، وفسحت المجال أمام التيارات القبلية والجهوية لسلب سلطة الدولة ومهام مؤسساتها.
وصحيح أن الأزمة في ليبيا لا تتحملها الأحزاب وحدها، بالنظر إلى العوامل الإقليمية والدولية، زد على ذلك انتشار السلاح والجريمة العابرة للقارات (إرهاب واتجار بالبشر) بعد الثورة، بسبب استحالة مراقبة الحدود الشاسعة في ظل غياب جيش موحد ومؤسسات الدولة وتغول الميليشيات المسلحة على حساب الأجهزة الرسمية، واستشراء ظاهرة “السلطة والغنيمة”، إلا أن الحل لن يكون إلا ليبيًا خالصًا، يقوم على تنازل الأطراف المتصارعة في إطار مصالحة وطنية شاملة، ووفق خريطة طريق تُعجل بالتوجه لانتخابات رئاسية وبرلمانية، وتُمهد لإرساء المؤسسات الدستورية.
استمرار الفترة الانتقالية لـ7 سنوات متواصلة (منذ 2012)، سيعزز مفهوم غياب الدولة، وبالتالي سيفسح المجال أمام المليشيات والكيانات الخارجة عن سلطة المؤسسات لتصدر المشهد
الحل ليبي
من المؤكد أن الحالة الليبية تختلف عن نظيرتها في تونس ومصر وممن شملتهم رياح التغيير “الربيع العربي”، فهي شديدة التعقيد والتشابك، يتداخل فيها العامل القبلي بالجهوي والعقائدي بالسياسي، لذلك أخذ الصراع في هذا البلد عدة أشكال منها الديني (داعش والقاعدة وأنصار الشريعة والتيار السلفي والمدخلي)، ومنها جهوي مناطقي (الزنتان ومصراتة والتبو والطوارق)، وبعد سياسي أو مصالح شخصية، إلا أن الخروج من نفق الانقسام والاحتراب ليس عسيرًا أو مستحيلاً.
جرب الليبيون الحرب بأنواعها واكتووا بلهيبها، ومسهم منها أنكى ما يكون من الحيف والظلم، قتل وتهجير ودمار بنى تحتية وغلاء أسعار، فترسخت لديهم قناعة بأن تكلفة الحرب ستكون مجحفة جدًا بخلاف الحل السياسي القائم على التعايش والحوار ونبذ العنف، بمعنى أن الأزمة الاقتصادية في البلاد وتململ الشارع سيحفزان الأطراف المتنازعة عاجلاً أم آجلاً إلى التوجه للخيارات السلمية في أول مبادرة تُطرح أمامهما.
فقوات (الشرق) لن تقوى على دخول طرابلس” فاتحة” كما يزعم حفتر، نظرًا لتقارب موازين القوى العسكرية، إضافة إلى غياب الحاضنة الشعبية للواء في المناطق الغربية وخاصة العاصمة ومصراتة، لأسباب جهوية مناطقية، وأخرى سياسية (أطماع حفتر في إحياء أوليغارشيا جديدة في ليبيا)، في المقابل فإن حكومة الوفاق الشرعية لا تملك هي الأخرى القدرة على بسط سيطرتها على كل البلاد من شمالها لجنوبها (قرابة 1.8 مليون كيلومتر مربع)، ولا تحظى أيضًا بمباركة بعض القبائل في الشرق الليبي.
على الليبيين الإدراك جيدًا أن الدعم الدولي والتدخل الأجنبي ليس بالضرورة مسلكًا صائبًا لحل أزمتهم، فتقاطع مصالح تلك الدول وتعارضها أحيانًا قد يطيل عمرها
من جهة أخرى، فإن استمرار الفترة الانتقالية لـ7 سنوات متواصلة (منذ 2012)، سيعزز مفهوم غياب الدولة، وبالتالي سيفسح المجال أمام الميليشيات والكيانات الخارجة عن سلطة المؤسسات لتصدر المشهد، وستحاول بكل الوسائل الدفع نحو عدم الإخلال بالأوضاع القائمة وتعزيز ما اكتسبته من نفوذ ومكانة، وستمنع أي توافق يُهدد مراكز نفوذها وبقائها على الساحة، ما يعني أن الأزمة مرجحة للاستمرار مستقبلاً حتى إن وضعت الحرب أوزارها هذه المرة، ولا يمكن مجابهة هذه القوى إلا عن طريق مؤسسات قوية شرعية تمتلك سلطة تنفيذ القانون.
على الليبيين الإدراك جيدًا أن الدعم الدولي والتدخل الأجنبي ليس بالضرورة مسلكًا صائبًا لحل أزمتهم، فتقاطع مصالح تلك الدول وتعارضها أحيانًا قد يطيل عمرها ويزيد تعقيدها (فرنسا وإيطاليا)، وإن أوجدت حلولاً فلن تكون حتمًا في مستوى تطلعات الشعب وطموحاته.
وعليه، فإن تحريك المياه الراكدة وتفعيل المبادرات المحلية وتشريك الشخصيات الوطنية والأحزاب في بلورة ميثاق وطني يجمع الفرقاء السياسيين على مائدة الحوار ويضمن الحد الأدنى من التوافق ويُحدد الخطوط العريضة والمسارات القابلة للتطبيق تراعي العوامل الاجتماعية والاقتصادية لكل أطياف الشعب، ستمهد لدستور يحتكمون إليه، يفرض سيادة القانون وهيبة الدولة، ومن ثم التوجه إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية، يقول فيها المواطن كلمة الفصل ويختار عبر صناديق الاقتراع حكام ليبيا الجدد بطريقة إرادية ودون الاحتكام إلى صوت البندقية.