أحيا الشعب التركي، هذا الأسبوع، الذكرى الـ100 لحرب الاستقلال التي بدأت مع رسو السفينة باندرما على شواطئ مدينة سامسون في 19 من مايو 1919، حاملة مصطفى كمال باشا الذي عمل على تنظيم وتأطير نخب الشعب التركي في الأناضول بالتعاون مع ما تبقى من وحدات الجيش التركي.
سطر سكان الأناضول بمختلف مكوناتهم الإثنية والعرقية ملحمة بطولية كان للمرأة التركية دور ريادي في محطاتها كافة. فكثرة الحروب التي خاضتها شعوب الدولة العثمانية بدءًا من حروب البلقان وصولاً إلى الحرب العالمية الأولى انعكست على التركيبة السكانية والأدوار الاجتماعية، فقسم كبير من الذكور تعرض للأسر أو القتل أو الإصابة، الأمر الذي ترك مساحات شاغرة استطاعت المرأة ملئها، فتنوعت أدوار المرأة الأناضولية في الحرب من تصنيع الأسلحة ومستلزمات الحرب، إلى نقلها للجبهات وميادين المعارك، بالإضافة إلى المشاركة في الاحتجاجات وتنظيمها وليس انتهاءً بالمشاركة في المعارك القتالية.
ونحكي في هذا التقرير قصص أربع نساء مثلت نضالاتهن بصمة في تاريخ بلاد الأناضول.
صورة لمجموعة من النساء في أثناء نقل الأسلحة والعتاد إلى جبهات القتال
خالدة أديب أديوار
تعد خالدة أديب من أهم الشخصيات النسوية التركية التي شاركت في حرب الاستقلال إلى جوار زوجها البروفيسور عدنان أديوار، نشطت خالدة أديب في مدينة إسطنبول بعد الاحتلال اليوناني لمدينة إزمير حيث كانت على رأس جموع الشعب التركي التي خرجت في العاصمة إسطنبول لأول مرة في 19 من مايو 1919 خلال لقاء جماهيري نظمه اتحاد المرأة العصري في منطقة الفاتح تلاه لقاء آخر في منطقة إسكودار في 20 من مايو، لتعود خالدة لتخطب في حشد آخر في منطقة كاديكوي في 22 من مايو.
أما اللقاء الأهم فكان في منطقة السلطان أحمد حين هاجمت خالدة أديب الحكومة العثمانية في إسطنبول قائلة: “الشعب صديقنا والحكومة عدوتنا”، ومع دخول القوات الإنجليزية لمدينة إسطنبول في مارس 1920 تصدرت خالدة أديب وزوجها قائمة المحكومين بالإعدام لتتوجه وزوجها إلى الأناضول حيث تجمعت الحركة الوطنية التركية.
خالدة أديب في أثناء المظاهرة الاحتجاجية في ميدان السلطان أحمد وسط حضور آلاف الأتراك
ما إن وصلت خالدة أديب وزوجها مدينة أنقرة حتى بدأت العمل في مقر القيادة العامة، حيث اقترحت على مصطفى كمال إنشاء وكالة خاصة بالحركة الوطنية حملت لاحقًا اسم “الأناضول”، كما أشرفت خالدة أديب على تعريف وتقديم الحركة الوطنية التركية وخاصة زعيمها مصطفى كمال أتاتورك للإعلام الأجنبي، فأشرفت على تنظيم عدد من اللقاءات والمقابلات الصحفية مع كبار الكتاب والمراسلين، كما شغلت خالدة أديب منصب رئيس جمعية الهلال الأحمر في مدينة أنقرة، ومع اشتداد المعارك مع اليونانيين التحقت خالدة أديب بالجبهة الغربية وكرمت بعد الحرب بوسام الاستقلال.
خالدة أديب إلى جوار مصطفى كمال أتاتورك والمشير فوزي تشاكماك
وبعد تأسيس الجمهورية والانتصار بحرب الاستقلال دخلت خالدة أديب وزوجها البروفيسور عدنان أديوار في خلاف حاد مع مصطفى كمال أتاتورك أدى لخروجهم من البلاد والعيش في المنفى إلى أن توفي مصطفى كمال لتعود الى تركيا عام 1939، وتعمل في التدريس إلى أن توفيت في مدينة إسطنبول عام 1964 عن عمر يناهز 80 عامًا.
كارا فاطمة (فاطمة السوداء)
ولدت كارا فاطمة في مدينة أرضروم شمال شرق تركيا عام 1888، استشهد زوجها في معركة ساريقاميش التي دارت بين القوات الروسية والتركية 1915.
التحقت كارا فاطمة بمؤتمر أرضروم 1919 وتوجهت من هناك إلى سيفاس لمقابلة مصطفى كمال الذي منحها الإذن للالتحاق بالعمليات القتالية فكانت على رأس ميليشيا مكونة من مئات المقاتلين لتساهم في عمليات الجيش التركي على الجبهة الغربية، فشاركت في عمليات تهريب الأسلحة من مدينة إسطنبول، كما شاركت في معارك سكاريا وإينونو الثانية ودوملوبينار بالإضافة إلى الهجوم الكبير وتحرير مدينتي بورصة وأزمير، تعرضت كارا فاطمة خلال مشوارها القتالي للأسر على يد القوات اليونانية لكنها تمكنت من الفرار لتقوم لاحقًا بأسر أكثر من 25 ضابطًا يونانيًا.
كارا فاطمة على رأس وحدتها القتالي
الجدير بالذكر أن الاسم الحقيقي لكارا فاطمة هو فاطمة سحر رفعت، أما كلمة كارا فهي تعني باللغة التركية “الأسود” حيث لقبها مصطفى كمال أتاتورك بهذا اللقب الذي يحمله المقاتلون الشجعان ومرهوبو الجانب.
تقاعدت كارا فاطمة من الجيش برتبة نقيب وتبرعت بمعاشها التقاعدي للهلال الأحمر التركي معللة ذلك بأنها لم تقاتل من أجل المال، منحت كارا فاطمة وسام الاستقلال وتوفيت في إسطنبول عام 1955.
شريفة باجي
تعد شريفة باجي من أهم الرموز والشخصيات التي تمثلت فيها تضحيات الأم التركية خلال حرب الاستقلال، فلم يمنعها استشهاد زوجها في معركة جناق قلعة من الالتحاق بصفوف المتطوعين لنقل الإمدادات إلى مقاتلي الحركة الوطنية التركية المنتشرين على طول الجبهة الغربية، فعملت شريفة ذات الـ20 عامًا إلى جوار المئات من نساء الأناضول بوسائل بدائية ومن خلال طرق وعرة وتحت ظروف جوية بالغة القسوة على نقل الأسلحة والعتاد من شواطئ البحر الأسود التي شكلت المصدر الأساس لإمدادات الجيش التركي القادمة من البلاشفة ومدينة إسطنبول إلى جبهات القتال المختلفة.
يروي حسين رؤوف أورباي – أول رئيس وزراء بعد قيام الجمهورية – شهادته عن عمليات نقل السلاح من ساحل البحر الأسود إلى مدن الأناضول الداخلية قائلاً: “ما نسبته 90% من المتطوعين لنقل السلاح كن من النساء، ولم يكن نساء عاديات فقد كان خلف كل واحدة منهن مجموعة من الأطفال، لقد كانت تضحياتهن مصدر خجل للرجال الآخرين”.
نصب تذكاري شيد بواسطة بلدية أنيبولو لشريفة باجي في الطريق الذي كانت تسلكه في أثناء عمليات تهريب الأسلحة
وفي شتاء عام 1921 ومع اشتداد المعارك على طول الجبهة الغربية زادت حاجات المقاتلين الأتراك للأسلحة والعتاد، وفي يوم شديد البرودة خرجت شريفة تحمل طفلتها إلى جوارها لنقل مجموعة من الذخائر والأسلحة وخوفًا عليها من العطب قامت شريفة بلف هذه الأسلحة ببعض من ملابسها، لتوجد لاحقًا وقد توفيت من شدة البرد والجوع فيما نجت طفلتها بأعجوبة.
حليمة تشاويش
ولدت حليمة تشاويش (كوجابايك) في مدينة كاستامونو عام 1898، شاركت في معارك حرب الاستقلال على الجبهة الغربية رغم معارضة عائلتها، فتنكرت حليمة بزي الرجال ونزلت من مدينة أنيبولو إلى مدينة أنقرة ثم إلى سكاريا حيث اشتركت في المعركة المفصلية التي دارت هناك.
ومما يروى عن حليمة أنها خلال رباطها في خنادق سكاريا مر عليها مصطفى كمال الذي كان في جولة تفقدية للقوات، فأثار انتباهه تغطيتها للأسلحة بسترها رغم برودة الجو فسألها:
– لماذا تغطين الرصاص بسترك، ألا تشعرين بالبرد؟
– ماذا سوف يضر بردي، هذه الذخائر تحمي آلاف المقاتلين على طول خط الجبهة فهي أهم.
وبحلول صيف 1921 انتقلت حليمة للخدمة على ساحل البحر الأسود حيث تعرض مكمنها لقصف سفينة يونانية مما أدى إلى إصابتها بساقها مما سبب لها إعاقة دائمة، وبعد انتهاء حرب الاستقلال حلت حليمة ضيفة عند مصطفى كمال أتاتورك في أنقرة لمدة 15 يومًا، منحت خلالها وسام الاستقلال وحصلت على رتبة شاويش – من هنا جاء اسم كنيتها -، لم تتزوج حليمة طيلة حياتها وتوفيت عام 1976 عن عمر يناهز 75 عامًا.