لم تستمر حالة التفاؤل التي خيمت على أجواء المشهد السوداني عقب استئناف المسار التفاوضي بين المجلس العسكري والمعارضة طويلاً، فسرعان ما تغيرت الأحوال كما هي العادة، ليصاب السودانيون بخيبة أمل جديدة في الساعات الأولى من صباح الثلاثاء حين أعلن الجانبان الفشل في التوصل إلى اتفاق.
تمسك العسكري بحظوظه في إدارة المشهد عبر الأغلبية في مقابل إصرار المحتجين على تسليم السلطة كاملة إلى مدنيين بعّد بشكل كبير فرص الوقوف على أرضية مشتركة فيما يتعلق بالنقاط الخلافية محل الجدل بين الطرفين، وهي ذاتها التي كانت سببًا في تعليق عملية التفاوض قبل أيام بجانب المناوشات الأخرى المتعلقة بمحاولات فض الاعتصام بالقوة.
حالة من الترقب تفرض نفسها على الشارع السوداني عقب دعوات التصعيد التي طالبت بها قوى الحرية والتغيير عبر التلويح بورقة الإضراب والعصيان المدني في مواجهة تعنت المجلس العسكري الواقع تحت ضغوط الجيش بعدم ترك الساحة للتيار المدني، الأمر الذي ربما يجعل كل الخيارات مفتوحة وسط تحذيرات من عودة الأمور إلى المربع صفر مرة أخرى.
الرئاسة والنسب
تصدر الفشل في التوصّل إلى اتفاق بشأن منصب رئيس المجلس السيادي المقترح تشكيله ونسب مشاركة العسكريين والمدنيين فيه قائمة النقاط الخلافية بين الطرفين، منذ بداية المفاوضات في 13 من أبريل/نيسان الماضي، التي دشّنت بعد يومين فقط من عزل نظام الرئيس عمر البشير، إذ يسعى كل جانب إلى تعزيز مكانته عبر رئاسته للمجلس وحصوله على الأغلبية.
العسكري يتمسك برئاسة السيادي وأغلبية الأعضاء، فيما يترك المجلس التشريعي للمدنيين، وفي حين تتمسّك قوى إعلان الحرية والتغيير بأن تكون الغلبة العددية لصالح المدنيين، والمداورة في رئاسة المجلس بين المدنيين والعسكريين، وهو ما لم يتم التوصل لاتفاق بشأنه حتى أمس.
وكالة الأنباء الألمانية في تقرير لها من الخرطوم قالت: “قوى الحرية والتغيير تقدمت بمقترح تعلن فيه قبولها برئاسة المجلس من أحد أعضاء المجلس العسكري في نهاية جلسة التفاوض الإثنين على أن تتألف عضوية المجلس من ستة مدنيين وخمسة عسكريين”.
لكن مصدرًا مسؤولًا بالقوى المعارضة نفى هذا الخبر بعد ساعات قليلة من بثه، مشيرًا أنه عارٍ تمامًا من الصحة ولم يتم تقديم أي مقترحات بهذا الصدد للمجلس العسكري وفق ما نقلته “سودان تريبيون“.
الصحيفة السودانية نقلت عن المصدر قوله “بالمقابل صحيح أن بعض قوى التحالف مثل نداء السودان والحركة الاتحادية لا اعتراض لها على رئاسة مجلس السيادة من البرهان مقابل أن تكون لها الأغلبية بينما تعارض قوى الإجماع الوطني والحزب الشيوعي على وجه الخصوص ذلك”، مضيفًا “أما فيما يتعلق بتجمع المهنيين السودانيين فموقفه متأرجح ولم يتنازل عن المطالبة بالرئاسة الدورية وربّما يعود ذلك للضغط الذي يتعرضون له في ساحة الاعتصام”.
بعض القوى المشاركة في الاعتصام وعلى رأسها الحزب الشيوعي ترفض بشكل قاطع وجود العسكر في المرحلة الانتقالية، سواء كان عبر المجلس السيادي أم الوزاري أم التشريعي
وأكد الحزب الشيوعي مجددًا في بيان له أمس تمسّكه بالرفض القاطع لرئاسة أي عسكري للمجلس السيادي، قائلًا: “المجلس العسكري هو امتداد للنظام المدحور بدليل أنه أبقى على رموز النظام في مواقعهم القيادية في جهاز الدولة وعلى المليشيات والمنظمات التابعة للنظام حتى يسهل عودة النظام تدريجيًا ووفق خطة معدة سلفًا يساهم فيها المجتمع الإقليمي والدولي”.
يذكر أن العسكري والمعارضة الأسبوع الماضي كانا قد أعلنا اتفاقًا بشأن طبيعة المرحلة الانتقالية التي تم الاتفاق على أن تكون 3 سنوات، هذا بجانب التوافق على منح قوى إعلان الحرية والتغيير حق تشكيل مجلس الوزراء، وكذلك حق تسمية ثلثي أعضاء البرلمان الانتقالي، فيما يترك الثلث الأخير للقوى السياسية الأخرى، التي لم تكن جزءًا من نظام عمر البشير.
فشل المفاوضات بين العسكري وقوى الحرية والتغيير
انقسام لا يفتت الوحدة
“حالة من تباين وجهات النظر داخل ساحات الاعتصام بشأن تولي العسكري زمام الأمور خلال المرحلة المقبلة، فهناك فريق يرى إمكانية ذلك على أن تكون الأغلبية للمدنيين، فيما يرفض آخرون وجود أي عسكري في المجلس خشية من إعادة إنتاج نظام البشير مرة أخرى”.. بهذه الكلمات علقت أميرة ناصر الكاتبة المتخصصة في الملف السوداني.
ناصر لـ”نون بوست” نقلت عن بعض المشاركين في الاعتصام تخوفاتهم بشأن الانقلاب على إرادة السودانيين عبر تسليم الأمور للمجلس العسكري خلال الفترة الانتقالية والمقدرة بثلاث سنوات، ما يعني إعطاءهم المدة المناسبة لإعادة ترتيب أوراقهم مرة أخرى، والتخلص من المعارضين رويدًا رويدًا، لافتة إلى إمكانية استنساخ النموذج المصري مجددًا.
وأضافت أن بعض القوى المشاركة في الاعتصام وعلى رأسها الحزب الشيوعي ترفض بشكل قاطع وجود العسكر في المرحلة الانتقالية، سواء كان عبر المجلس السيادي أم الوزاري أم التشريعي، مؤكدة أن موقف الحزب وبعض التيارات المدنية الأخرى واضح في هذا الشأن ولا يوجد مساومات على ذلك.
أعربت بعض التيارات العمالية عن تنظيمها وقفات احتجاجية تنديدًا بتعنت المجلس العسكري، من بينها العاملون بوزارة الثروة الحيوانية الاتحادية الذين أعلنوا تنظيم وقفة احتجاجية أمام مباني رئاسة الوزارة بالخرطوم اليوم الأربعاء
كما أوضحت أن قوى الحرية والتغيير ليس لديهم مانع بشأن تولي عسكري رئاسة المجلس إلا أن الضغوط الواقعة عليهم من جانب المعتصمين هي التي تقف حائلًا دون إعلان ذلك، هذا في مقابل بعض القوى الإسلامية لا سيما السلفية التي تمثّل ورقة ضغط مهمة ربما تعيد رسم الخريطة السياسية للمرحلة الانتقالية حال الاستعانة بهم.
البعض ربما ينظر لهذا التباين على أنه معول هدم من الممكن أن يفتت وحدة الثوار، لكنه في الحقيقة يجافي ذلك بصورة كبيرة، فطالما ظل الشارع بقبضة المعتصمين فلا يمكن لأحد أن يفرض رأيه على المجموع، خاصة أن هناك يقينًا لدى الجميع أن الُلحمة والتكاتف هي سبب ما تحقق من مكتسبات حتى الآن، وهي حرس الحدود الحقيقي أمام أي مساومات أو مفاوضات غير مباشرة لا تلتزم بالثوابت الوطنية المعلنة منذ اليوم الأول.. هكذا أكملت الصحفية المتخصصة في الشأن السوداني حديثها.
تصميم من الثوار على مواصلة الاعتصام
بين الإضراب والتعنت
في أول رد فعل على فشل مفاوضات الأمس أعلن تجمع المهنيين السودانيين عبر بيان له نشره على صفحته الرسمية على فيسبوك أن “الجولة الجديدة من التفاوض انتهت يوم الثلاثاء، والمجلس العسكري لا يزال يضع عربة المجلس السيادي أمام حصان الثورة، ويصر على إفراغها من جوهرها وتبديد أهداف إعلان الحرية والتغيير وتحوير مبناه ومعناه”.
البيان أكد تمسك القوى بمطالب الثوار التي تدور حول الحيلولة دون تبديل سلطة عسكرية قديمة بسلطة عسكرية جديدة، فالسلطة المدنية وفق ما ذكره “تعني أن تكون هياكلها مدنية بالكامل، وبأغلبية مدنية في جميع مفاصلها، بما في ذلك الشق السيادي فيها، على أن تقوم القوات المسلحة بحراستها وحمايتها كواجب عليها”.
وعليه فتح ما سمّاه دفتر الحضور الثوري للإضراب السياسي العام، داعيًا كل الجهات والمكونات للتواصل مع قيادات الإضراب في القطاعات المهنية والحرفية والخدمية كافة، التي أعلنت بدورها جاهزيتها للتواصل من أجل التنسيق، في انتظار تحديد ساعة الصفر للبدء في العصيان المدني الشامل.
وعلى الفور أبدت العديد من الكيانات العمالية والوظيفية استعدادها التام للمشاركة في الإضراب، إذ أعلن مهنيو شركة “بترو إنرجي” بحقل كيي، نيتهم في المشاركة، في حين أصدرت السكرتارية التمهيدية لنادي أعضاء النيابة العامة بيانًا قالت فيه إنها وضعت الإضراب الشامل قيد الدراسة.
كما أكدت لجنة أطباء السودان المركزية في بيان لها أن “الأطباء على أهبة الاستعداد لتنفيذ كل أشكال الإضراب، والتفرغ تمامًا للعيادات الميدانية لمعالجة الجرحى والمصابين، وتحويل المرضى للعلاج في عيادات مؤقتة خارج مستشفيات وزارة الصحة، وذلك حتى الانتصار الكامل غير المنقوص لثورتنا الظافرة”.
هذا في الوقت الذي خرجت فيه بعض البنوك معلنة تأييدها لهذه الخطوة منها “البنك الفرنسي” الذين حمل موظفوه لافتات كتب عليها عبارة “الإضراب العام”، كذلك أعلن تجمع التشكيليين السودانيين، في بيان، تسجيل نفسه لحضور كامل للإضراب الشامل، متى ما أعلنه تجمع المهنيين السودانيين.
علاوة على ذلك أعربت بعض التيارات العمالية تنظيمها وقفات احتجاجية تنديدًا بتعنت المجلس العسكري، من بينها العاملون بوزارة الثروة الحيوانية الاتحادية الذي أعلنوا تنظيم وقفة احتجاجية أمام مباني رئاسة الوزارة بالخرطوم اليوم الأربعاء، فيما انضمت لهم بعض التجمعات الأخرى.
موقف متأزم
في رأي البعض فإن الموقف الآن في صورته الراهنة لا يخدم أي من طرفي الأزمة، المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير، فإن لم يقدم كليهما على تقديم تنازلات سريعة ربما تسير الأمور عكس اتجاه مصالحهما معًا، فالعسكري الواقع تحت ضغوط الجيش الرافض لتولي أي مدني رتب رفيعة في المجلس السيادي يصطدم بشكل كبير بضغوط الشارع التي تمارس على المعارضة، هذا الشارع الذي يرفض تمامًا أن يرى عسكريًا جديدًا في منصب رئيس الدولة ولو كان لفترة انتقالية.
ورغم محاولة كل طرف الحفاظ على شعرة معاوية في مواقفه تجاه الآخر المتمثلة في حرص كليهما على عدم الوصول إلى طريق مسدود، في ظل تأكيد استمرار جولات جديدة من المفاوضات لعلها تكسر حالة الجمود الذي وصلت إليه الجولات الماضية، إلا أن الوضع لن يدوم كثيرًا على هذا المنوال.
آخرون ذهبوا إلى أنه في حال تمترس كل طرف عند مواقفه دون رغبة في التزحزح أو تقديم تنازلات فإن الأمور ربما تأخذ منحًا آخر، فأمام التصعيد المتوقع من المعارضة واللجوء إلى خيار العصيان المدني والإضراب الشامل استجابة لرأي الشارع، ربما يجد المجلس العسكري نفسه مضطرًا لإجراء انتخابات مبكرّه.
وفي المجمل، تبقى الأوضاع داخل المشهد السوداني مشتعلة لحين إشعار آخر، على أمل أن تصل لجان الوساطة المشكّلة لتقريب وجهات النظر بين الطرفين إلى أرضية مشتركة يمكن الوقوف عليها انطلاقًا نحو رسم خريطة المرحلة الانتقالية، وفي ظل سياسة النفس الطويل التي من الواضح إجادتها من الجانبين، يتوقع ألا يسدل الستار قريبًا على تلك المسرحية التي ما إن ينتهي فصل حتى يبدأ آخر أكثر دارماتيكية.