على أكثر من محور اشتباك تتواصل الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في نسق تصاعدي طال في واحد من بين آخر فصوله الشركة الصينية “هواوي”، التي لم تعد في نظر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فقط واحدة من المتنافسين في عالم الاتصالات والهواتف الجوالة، لتصبح في نظره خطرًا على الأمن القومي الأمريكي قرر تسخيط عقوبات لردعه في حملة مناهضة “للمارد الصيني” الصاعد.
بعد القرار الأمريكي المفاجئ، كان السؤال الأهم على صعيد مستخدمي هواتف “هواوي” الذين يبلغ عددهم أكثر من نصف مليار شخص من نحو 170 دولة بحسب بيانات الشركة: “هل سيلحقنا الضرر من حظر تطبيقات جوجل”؟ لكن أيًا تكن الإجابة فإن الأكيد أن الصراع بين “هواوي” و”جوجل” وأخواتها ليس سوى جزء في حرب تجارية كبرى ستعيد رسم موازين القوة الاقتصادية والسياسية على الخارطة الدولية لعقود مقبلة.
هل تفتح أمريكا جبهات جديدة في الحرب التجارية؟
أمضت الصين ما يقرب من عقدين من الزمن في بناء جدار رقمي بينها وبين بقية العالم، وهو حاجز أحادي الاتجاه مصمم لإبعاد الشركات الأجنبية مثل “فيس بوك” و”جوجل” مع السماح للخصوم الصينيين بمغادرة بلادهم والتوسع في جميع أنحاء العالم. الآن الرئيس ترامب عمل على سد هذا الجدار من الجانب الآخر.
ولم تعد مجرد نذر حرب تجارية تحذر منها المؤسسات الدولية، بل هي الحرب التجارية عينها بين أكبر اقتصادين في العالم (الولايات المتحدة والصين)، وما سياسة فرض الرسوم الجمركية سوى طلقات نارية متبادلة بين البلدين، فالرئيس الأمريكي وحتى قبل اعتلائه سُدة الحكم كان ينطر إلى أن الخطر الداهم على الولايات المتحدة هو “التنين الصيني النهم”، والذي حوَّل بشكل مريع الميزان التجاري لصالح بكين بعد اقتحامه الأسواق الأمريكية وإطاحته بمنتجاتها حول العالم.
ويراهن البيت الأبيض على أن الصين سترضخ بفعل الرسوم الجمركية، بينما تراهن بكين أن قدرتها على تحمل الألم والرد بالمثل سيكسبها معركة مفصلية، فغداة رفع واشنطن التعريفة الجمركية على سلع صينية بقيمة 200 مليار دولار، جاء الرد الصيني الانتقامي بفرض رسوم على سلع أمريكية قيمتها 60 مليار دولار بداية من يونيو/حزيران المقبل.
مثل هذه الخطوة ستصعد التوترات التي تصاعدت مع تجدد حرب الرئيس ترامب التجارية مع القادة الصينيين، وتثير تساؤلات حول ما إذا كانت الولايات المتحدة تلاحق المزيد من أبطال التكنولوجيا في البلاد
وفي خضم الأفعال الأمريكية وردودها الصينية قد تعمق الحظات القادمة المخاوف بشأن الاحتكاكات التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم، فقد كشفت تقارير صحفية أن الولايات المتحدة تخطط لإدراج شركات صينية تعمل في مجال تصنيع كاميرات المراقبة إلى القائمة السوداء، ويعني ذلك حظرها من الوصول إلى المكونات الأمريكية أو أنظمة “السوفت ووير” التي توفرها الشركات في الولايات المتحدة.
وبحسب ما نقلت صحيفة “نيويوزك تايمز” عن أشخاص مجهولي الهوية على دراية بهذه المسألة، فإن إدارة ترامب تدرس حدود قدرة شركة “هيكفيجن” (Hikvision)، عملاق مراقبة الفيديو الصيني، على شراء التكنولوجيا الأمريكية كما فعلت مع شركة “هواوي”، وهي أحدث محاولة لمواجهة طموحات بكين الاقتصادية العالمية.
هذه الخطوة من شأنها أن تضع فعليًا أكبر الشركات المصنعة في العالم لمنتجات المراقبة بالفيديو على قائمة الولايات المتحدة السوداء، وربما يتعين على الشركات الأمريكية الحصول على موافقة الحكومة الأمريكية للوصول إلى التكنولوجيا التي تساعد على تشغيل معداتها، كما ستكون هذه أيضًا المرة الأولى التي تعاقب فيها إدارة ترامب شركة صينية لدورها في المراقبة والاعتقال الجماعي والقمع بحق أقلية الإويغور المسلمة، الذين اتهموا الحكومة الصينية بالتمييز ضد ثقافتهم ودينهم.
وتأتي خطورة القرار النهائي الذي قد يتخذه البيت الأبيض في الأسابيع المقبلة من كون شركة “هيكفيجن” واحدة من الشركات الأساسية لطموحات الصين لتكون أكبر مصدر عالمي لأنظمة المراقبة، وهي أحد مكونات مؤشر “إم إس سي آي” للأسواق الناشئة، ومن بين أسهم شنجن التي يملكها معظم المستثمرين الأجانب، وبالتالي فإن مثل هذه الخطوة ستصعد التوترات التي تصاعدت مع تجدد حرب الرئيس ترامب التجارية مع القادة الصينيين، وتثير تساؤلات حول ما إذا كانت الولايات المتحدة تلاحق المزيد من أبطال التكنولوجيا في البلاد.
وعلى إثر التقرير الذي نشرته “نيويورك تايمز”، تراجعت شركة “هيكفيجن” الرقمية للتكنولوجيا، وانخفضت أسهمها بنسبة 9.6٪ قبل أن يتعافى ليصبح أقل بنسبة 6.2٪ في منطقة شنجن، بحسب ما ذكرت وكالة “بلومبرج” الأمريكية.
ونمت “هيكفيجن” لتصبح عملاق مراقبة، تبيع كاميراتها في جميع أنحاء العالم بعد الاستفادة من هوس الصين بمراقبة مواطنيها، وتستخدم أجهزتها الذكاء الاصطناعي، مما يتيح لها إجراء التعرف على الوجه على نطاق واسع، وقد ساعد ذلك في بناء مركز مهيمن في سوق بلغت قيمته 32 مليار دولار في عام 2017، وسوف ينمو بنسبة 16 ٪ سنويًا بحلول عام 2023، بحسب بيانات ““BIS للبحوث.
معركة تجاوزت حدود الاقتصاد
ليس من الواضح على الفور تأثير الحظر الذي تفرضه الولايات المتحدة على أعمال “هيكفيجن”، لكن الشركة تتمتع بحضور دولي متزايد، وتقول الشركة إن لديها أكثر من 34 ألف موظف عالمي وعشرات الأقسام في جميع أنحاء العالم، وقد قدمت منتجات إلى أولمبياد بكين وكأس العالم في البرازيل ومطار لينيت في ميلانو، وحاولت التوسع في أمريكا الشمالية في السنوات الأخيرة، وتوظيف مئات العمال في الولايات المتحدة وكندا وإنشاء مكاتب في ولاية كاليفورنيا وبناء فريق البحث والتطوير في أمريكا الشمالية ومقرها في مونتريال.
هذا أكثر من مجرد نزاع حول التعريفات الجمركية، حيث تتنافس الصين والولايات المتحدة على الهيمنة العالمية على تقنيات المستقبل: الذكاء الاصطناعي والروبوتات وشبكات الهاتف المحمول عالية السرعة
وليس لدى شركة “هيكفيجن” منافس عالمي قريب من حجمها، في حين أن شركة “تشجيانغ داهوا” المحدودة أقرب منافسيها الصينيين، وتبلغ سدس حجمها، وتتميز الشركة التي تراجعت بنسبة 9.2٪ اليوم الأربعاء، بالمعيار الإقليمي المتبع على نطاق واسع، وهي أيضًا واحدة من الشركات المهددة بالإدراج في القائمة السوادء الأمريكية.
وتنبع الحملة المحتملة من اعتقاد إدارة ترامب بأن الصين تشكل تهديدًا اقتصاديًا وتكنولوجيًا وجيوسياسيًا لا يمكن تركه دون ردع، وما يزيد من هذه المخاوف الآثار العالمية لحقوق الإنسان على صناعة المراقبة الواسعة في الصين، وتصدير هذه التكنولوجيا إلى الدول التي تسعى إلى مراقبة أدق لمواطنيها، بما في ذلك الإكوادور وزيمبابوي وأوزبكستان وباكستان والإمارات العربية المتحدة.
من هذا المنطلق الأمني قد تلجأ إدارة ترامب أيضًا إلى فرض عقوبات على مسؤولين صينيين محددين معروفين بأدوارهم الحاسمة في نظام المراقبة والاحتجاز في شينجيانغ، وسيتم فرض هذه العقوبات بموجب قانون “ماغنيتسكي” العالمي، وعلى رأس هؤلاء المسؤولين الذين يُنظر في سجلهم لهذا النوع من العقوبات المستهدفة هو تشين تشوانغو، عضو المكتب السياسي للحزب الحاكم ورئيس إقليم شينجيانغ منذ أغسطس 2016، ومهندس حملة القمع على مسلمي الإيغور.
الصين تراقب مسلمي الإيغور بتقنيات سرية تفحص الوجوه
إذًا هذا أكثر من مجرد نزاع حول التعريفات الجمركية، حيث تتنافس الصين والولايات المتحدة على الهيمنة العالمية على تقنيات المستقبل: الذكاء الاصطناعي والروبوتات وشبكات الهاتف المحمول عالية السرعة.
ويمكن أن تكون الأمور على وشك أن تصبح أكثر شرًا، وفقًا لصحيفة “جلوبال تايمز” ذات النزعة القومية، ففي مقال في عدد يوم الخميس الماضي تشير الصحيفة الموالية للحكومة إلى أن الصين لديها سلاحان، يتمثل الأول في الدَّين، حيث تمتلك الصين أكثر من تريليون دولار من سندات الخزينة الأمريكية، وتتمثل البطاقة الثانية في إمكانية فرض حظر تام على تصدير المعادن الأرضية النادرة إلى الولايات المتحدة، وتحتكر الصينهذه المعادن التي تعتبر أساسية في صناعات متطورة عديدة مثل الهواتف الذكية والرقائق الإلكترونية.
الحرب التجارية ظاهرها اقتصادي وباطنها سياسي
حسب تقديرات جمعية موزعي وبائعي الأحذية الأمريكيين (FDRA)، فإن الحرب التجارية قد تصل إلى الأحذية إذا أصر الرئيس الأمريكي على فرض المزيد من التعريفات على الواردات الصينية التي كانت إلى الآن قد استثنيت في الحرب التجارية القائمة بين البلدين، وفي حال الإعلان عنها، ستؤثر التعريفات الجديدة على ما قيمته 325 مليار دولار من الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة بما فيها سلع استهلاكية متنوعة.
في ضوء هذه التوقعات، لا يُظهر الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين أي إشارة إلى التراجع في أي وقت قريب، فثمة جبهة أخرى في هذه الحرب التجارية فتحتها واشنطن مع شركة “هواوي” العملاقة الصينية، وهي واحدة من أكبر شركات الاتصالات ومصنعي الهواتف في العالم، فقد أعلنت شركة “جوجل” في قرار مفاجئ عن منع “هواوي” من الحصول بعض التحديثات لنظام تشعيل أندرويد ومتجر تطبيقات “جوجل” والبريد الإلكتروني “جي ميل”.
تصور وسائط التواصل الصينية الحرب التجارية على أنها حرب فعلية
وكانت وكالة “بلومبرج” الأمريكية كشفت قبل أيام أن الرئيس دونالد ترامب قد خسر معركته ضد شركة “هواوي” بعدما رفضت أوروبا والعديد من الدول دعوته لاستبعاد الشركة الصينية العملاقة.
هنا يُطرح السؤال: هل هجوم إدارة ترامب على شركة “هواوي” دافعه اقتصادي أم إن وراء ذلك أبعادًا سياسية؟ الواضح أن اعتقال ابنة مؤسس الشركة ومسؤولها المالي في كندا نهاية العام الماضي بناءً على مذكرة تسليم صدرت عن الولايات المتحدة يعطي الخلاف غطاءًا سياسيًا بعد ان طالبت الولايات المتحدة بتسلمها بحجة انتهاك العقوبات الأمريكية على إيران.
ومن خلال استبعاد الصين من الدراية الغربية، أوضحت إدارة ترامب أن المعركة الحقيقية تدور حول أي من القوتين العظميين الاقتصاديين لهما الميزة التكنولوجية للعقدين المقبلين، كما يمكن اعتباره كفاح من جانب الولايات المتحدة لكبح ما يسميه البعض قدرة بكين على استخدام التكنولوجيا لتحقيق التفوق الجيوسياسي.
عجَّلت الحرب الأمريكية على “هواوي” أيضًا بتصميم الصين على التحكم في مصيرها من خلال تقليل اعتمادها على التكنولوجيا الأمريكية،
كما تتهم واشنطن الشركة أن بإمكانها بإمكانها بناء قنوات خليفة، ما يتيح للحكومة إمكانية التجسسن وهو يشكل خطرًا أمنيًا على شبكات الجيل الخامس للهواتف المحمولة التي ستصل لمليارات الأجهزة بدءًا من السيارات ذاتية القيادة إلى الربوتات والثلاجات المنزلية.
ويوضح نزاع شركة “هواوي” بحسب تقرير لصحيفة “الجارديان” البريطانية، كيف تسعى واشنطن لمواجهة استخدام بكين للتكنولوجيا لاكتساب التفوق الجغرافي السياسي، ويمكن أن يمثل ذلك النزاع النقطة التي تصبح فيها الحرب التجارية الهادئة بين الولايات المتحدة والصين حربًا باردة للتكنولوجيا.
وللنزاع بعد إنساني أيضًا، مثل الكنديين اللذين اعتقلتهما بكين رسميًا خلال ساعات من أمر ترامب التنفيذي. تم احتجاز رجل الأعمال مايكل سبافور الذى كان يعمل مع كوريا الشمالية والدبلوماسي السابق مايكل كوفريج بمعزل عن العالم الخارجي منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي، أي بعد أيام قليلة من اعتقال منغ وانزو.
وبغض النظر عن طول مدة عمل “هواوي” في القائمة السوداء، تجبر هذه الاضطرابات بالفعل شركة “آبل” وغيرها من الشركات الأمريكية الكبرى على إعادة تقييم تعاقداتها الخارجية مترامية الاطراف، كما عجَّلت الحرب الأمريكية على “هواوي” أيضًا بتصميم الصين على التحكم في مصيرها من خلال تقليل اعتمادها على التكنولوجيا الأمريكية، والإنفاق على تطوير قطاعات مثل أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي، ومطالبة شركات مثل “هواوي” بتصنيع المزيد من مكوناتها أو الحصول عليها من الموردين الصينيين بدلاً من الاعتماد على الشركات الأمريكية.