ما إن سقط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول الجاري على يد فصائل المعارضة وعلى رأسها هيئة تحرير الشام، حتى أعلنت “إسرائيل” بدء عمليات عسكرية تحت مسمّى “سهم باشان”، وُصفت بأنها “الأكبر والأشمل” منذ عقود في سوريا، وخاصة في المنطقة العازلة على الحدود بين البلدين، والمقامة بموجب اتفاق فض الاشتباك عام 1974.
التوغلات الإسرائيلية طالت جبل الشيخ الاستراتيجي بالكامل، ما يعني كشف كامل المنطقة بين سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، بنطاق يتجاوز 70 كيلومترًا من جميع الاتجاهات، كما طال التوغل أيضًا المنطقة العازلة مع سوريا التي تقدَّر مساحتها بـ 235 كيلومترًا، إضافة إلى العديد من القرى والبلدات في القنيطرة جنوب البلاد، حتى وصلت الدبابات الإسرائيلية على بُعد 20 كيلومترًا من العاصمة دمشق.
وترافقت التوغلات الإسرائيلية مع غارات جوية عنيفة شملت معظم الأراضي السورية، لا سيما في الساحل السوري وريف دمشق، أسفرت عن تدمير الأسلحة والذخائر والمواقع العسكرية، ومستودعات صواريخ أرض-أرض ودفاعات جوية.
واستهدف الطيران الإسرائيلي مواقع عسكرية ومستودع أسلحة في قرية ملكة بطرطوس، بالإضافة إلى نقطة دفاع جوي في منطقة الخريبات طرطوس، واللواء 23 (دفاع جوي) ومقر اللواء قرب قرية حريصون، وكتيبة اسقبلة وضهر البلوطية بريف بانياس، ومنطقة الخراب وصولًا إلى ريف طرطوس، ومرسحين وملكة.
ووفقًا لوسائل الإعلام الإسرائيلية، فإن القصف دمر ما يقارب 70% إلى 80% من القدرات الاستراتيجية للجيش السوري، بعدما شُنت أكثر من 350 غارة جوية أصابت حوالي 320 هدفًا استراتيجيًا.
وأعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي في بيان له أن القصف دمر صواريخ سكود صواريخ كروز صواريخ أرض-بحر صواريخ أرض-جو صواريخ أرض-أرض طائرات مسيّرة بدون طيار طائرات مقاتلة ومروحيات هجومية رادارات ودبابات حظائر طائرات عشرات صواريخ بحر-بحر، يبلغ مداها ما بين 80 و190 كيلومترا.
توغل بري ومطالبات
ترافقت عمليات التوغل البري للجيش الإسرائيلي المدعوم بالدبابات والآليات الثقيلة في قرى ومناطق محافظة القنيطرة، بمطالبات الجيش الأهالي بتسليم أسلحتهم، إضافة إلى القيام بعمليات تفتيش واسعة لمنازل المدنيين، يرافقها إطلاق نار عشوائي، ما أدّى إلى بثّ الرعب بين الأهالي.
وفي تطور هو الأخطر، انتقلت عمليات التوغل إلى محافظة درعا وتحديدًا في الريف الغربي، حيث سيطرت قوات الاحتلال على نقطة الجزيرة المعروفة بـ”نقطة الصفر”، وتقدمت أيضًا إلى حاجز شفى بالقرب من منازل قرية معرية بحوض اليرموك، والتي يعاني سكانها من اعتداءات إسرائيلية متكررة تشمل إطلاق النار في الهواء على المزارعين الذين يحاولون الوصول إلى أراضيهم.
وقطعت القوات الإسرائيلية أحد الطرق عند الحدود الإدارية بين القنيطرة ودرعا قرب الجولان، إذ شهدت قرية المعلقة عند الحدود الإدارية بين القنيطرة ودرعا تصعيدًا ميدانيًا بعد دخول مجموعات من القوات الإسرائيلية إلى المنطقة، وقيامها بقطع الطريق الواصل بين القرية وبلدة صيدا (درعا) قرب الجولان السورية المحتلة.
وحسب شبكات إعلامية، جرى لقاء بين وجهاء من ريف درعا الغربي وضباط من جيش الاحتلال الإسرائيلي، حيث طلب الضباط إنهاء جميع المظاهر المسلحة في بلدة كويا التابعة لحوض اليرموك، كما تمّ إبلاغ الوجهاء أن القوات الإسرائيلية سوف تدخل البلدة خلال الساعات المقبلة.
ومع التحركات الإسرائيلية هذه، يمكن القول إن جميع القرى والبلدات مع القنيطرة المهدمة الواقعة ضمن المنطقة العازلة وصولًا إلى خان أرنبة، أي ريف القنيطرة الجنوبي وحتى قرى حوض اليرموك بريف درعا الغربي، وهي معربة عابدين وأم باطنة وكويا وجملة وصيدا الجولان والمعلقة، باتت تحت العين الإسرائيلية.
الأهداف المعلنة الإسرائيلية
ضمن تصريحاتها العسكرية والإعلامية، تبرّر “إسرائيل” تلك العمليات العسكرية برغبتها في تحييد الأسلحة المتقدمة، ومنع التهديدات المحتملة في حال وقوعها في يد المعارضة بعد سقوط النظام، وهو ما بدا واضحًا في تدمير البنية التحتية العسكرية بمشاركة السفن الحربية وتدمير المنشآت التي تحتوي على أسلحة متقدمة، تشمل صواريخ طويلة ومتوسطة المدى، ومراكز بحوث ودراسات عسكرية، ومنظومات دفاع جوي وذخائر للطيران، إضافة إلى ميناء اللاذقية ومنظومات رادار.
أما التوغلات البرية التي وصلت إلى نحو 25 كيلومترًا من الجنوب الغربي للعاصمة دمشق، تتجه “إسرائيل” إلى تعزيز وجودها العسكري في المنطقة الحدودية الحسّاسة، وفي تشكيل خط دفاعي متقدم داخل الأراضي السورية، بغرض التمكن من السيطرة النيرانية على كامل المنطقة، ومنع أي طرف داخل الأراضي السورية من كشف المواقع الإسرائيلية، مثلما كان الوضع بعد اتفاق فضّ الاشتباك.
حسب تقدير موقف للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فإن “إسرائيل” تركز في عملياتها العسكرية، سواء المباشرة أو عبر الضربات الجوية، على تدمير منشآت الدفاع الجوي، ومخازن الأسلحة، وقواعد الصواريخ، من أجل تحويل سوريا إلى دولة منزوعة السلاح، وحرمان الجيش السوري المستقبلي من القدرة على إعادة التنظيم بوصفه قوةً مركزيةً، واستعادة أراضيه المحتلة أو ردع “إسرائيل” عن الاعتداء عليها، إضافة إلى جرّ السلطات الجديدة في دمشق إلى التفاوض معها، وتبيين نياتها بشأنها، بحيث تكون دولة الاحتلال في موقع الإملاء على سوريا.
وكان بنيامين نتنياهو دخل الأراضي السورية، أمس الثلاثاء، وأجرى تقييما ميدانيا للوضع في “جبل الشيخ” السوري المحتل، رفقة عدد من كبار قادة الجيش والأجهزة الأمنية.
وقال نتنياهو إن “مرتفعات الجولان ستظل إلى الأبد جزءا لا يتجزأ من دولة إسرائيل، مشيرا إلى أنه “لا تزال أمام إسرائيل تحديات، لكنها تعمل على ترسيخ مكانتها كمركز قوة في المنطقة”.
أما وزير الدفاع يسرائيل كاتس اعتبر أن قمة جبل الشيخ “هي عيون إسرائيل لكشف التهديدات القريبة والبعيدة”، مضيفاً: “من هنا نشاهد حزب الله في لبنان يمينا، ومن الشمال نشاهد دمشق وإسرائيل أمامنا”.
توسيع الاستيطان
في تطور لافت، وافقت الحكومة الإسرائيلية على خطة لرفع عدد المستوطنين في الجولان السوري المحتل بعد سقوط نظام بشار الأسد.
ونقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية، عن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الأحد 15 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، قوله “إن الحكومة وافقت بالإجماع على خطة بقيمة 40 مليون شيكل (11 مليون دولار) للتنمية الديموغرافية للجولان، في ضوء الحرب والجبهة الجديدة في سوريا، والرغبة في مضاعفة عدد المستوطنين”.
مضيفًا أن القرار يعزز مستوطنات الجولان، عبر دعم مشاريع التعليم والطاقة المتجددة، وإنشاء قرية طلابية والتطوير التنظيمي، التي ستساعد المجلس الإقليمي في الجولان على استيعاب المستوطنين الجدد الذين سيصلون.
في مقابل ذلك، وكخطوة تتماشى مع السياسات الإسرائيلية التي تسعى إلى توسيع الأنشطة الإسرائيلية على الأراضي السورية، انتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو ظهر فيه حاخامات يؤدّون مع أطفالهم صلواتهم من داخل الأراضي السورية التي توغّلت فيها القوات الإسرائيلية.
وذكر موقع Chabadinfo العبري، إنه وفي سابقة تاريخية قامت “مجموعة من حاباد الحاسيديم (حركة دينية يهودية) بتلاوة سفر هتانيا لأول مرة على الأراضي السورية، وذلك بالقرب من قاعدة جبل الشيخ، التي قام الجيش الإسرائيلي بتأمينها مؤخرًا بعد انهيار النظام السوري”.
وتزعم “إسرائيل” أن احتلاها البري “دفاعي ومؤقت”، إلا أن خطّ توغلها وما يرافقه من تصريحات الحكومة بدعم التنمية الديموغرافية في الجولان يوحي بعكس ذلك، فالتوغل الإسرائيلي يركز على مناطق حوض اليرموك، والتي تشمل قسم من هضبة الجولان والجزء الغربي لسهل حوران، على مثلث الحدود السورية الأردنية مع الجولان المحتل، وتتميز مساحته بكونها المصبّ الرئيسي لمياه الأنهار والأودية، ما يجعلها الأغنى بالثروة المائية على الإطلاق، إضافة إلى وجود العديد من السدود المائية والعيون المتفجرة.
فيما ترفد نهر اليرموك النابع من بحيرة مزيريب بدرعا، والذي يستمد الحوض اسمه منه، مجموعة من المجاري المائية الموسمية، أهمها وادي الزيدي والذهب والهرير والعلان والرقاد، وتصبّ كلها في نهر اليرموك الدائم الجريان.
وتشير الدراسات إلى أن الينابيع في حوران جنوب سوريا تتوزع في المنطقة الغربية المحاذية للجولان، ومعظمها في حوض اليرموك، حيث هناك سلسلة ينابيع وادي الأشعري، ومنها نبع بحيرة المزيريب، ونبع زيزون، ونبع بحيرة العجمي، وهي ينابيع تنتهي في وادي اليرموك الذي يعتبر مصدرًا رئيسيًا لتغذية سدّ الوحدة الكبير، الذي تمّ بناؤه في مشروع مشترك بين الأردن وسوريا عام 2004.
حسب حديث الباحث الاستراتيجي العميد عبد الله الأسعد، فإن الغاية من التوغل الإسرائيلي هو احتلال المنابع المائية في ريف القنيطرة، وريف درعا الغربي الذي يوجد فيه 6 سدود، حيث تجاوزت القوات الإسرائيلية عشرات المنابع المائية في القنيطرة وسدود رويحينة وغدير البساتين وعابدين بريف درعا الغربي، وأصبحت على مقربة من سد الرقاد القريب من صيدا، وسد سحم الجولان أحد أضخم السدود بالجنوب السوري، والهدف من ذلك كله تشكيل بنية تحتية تضمن توسع المستوطنات الموجود في الجولان.
وأضاف الأسعد لـ”نون بوست” أن التوسع يعتمد على بناء المستوطنات، والتي تحتاج بدورها إلى المصدر الرئيسي للحياة وهو المياه، ولعلّ نقل لواء مظلات من المنطقة الشمالية الإسرائيلية إلى منطقة الجولان وتعزيز تلك المنطقة بألوية مشاة هو خير دليل على ذلك، لأن التوغل لن يتوقف عن هذه المناطق، إنما هناك نية للاستمرار في التوسع.
وكان موقع “نون بوست” قد نشر تقريرًا أشار فيه إلى أن استراتيجية “إسرائيل” الدائمة ضد خصومها تكمن في تهديد مصادر المياه العربية، خاصة أن مسألة المياه شكّلت أهمية كبيرة في فكر الحركة الصهيونية، حيث ذكر مؤسس الحركة الصهيونية تيودر هيرتزل، في كتابه “الأرض الجديدة.. الأرض القديمة”، الذي تدور أحداثه في المستقبل الممكن: “إن وجود إسرائيل متوقف على وجود الموارد المائية، وإنشاء إسرائيل يحتاج إلى خطط مائية توفر الكميات اللازمة للزراعة والصناعة ومياه الشرب، لذا وضع مخططو إنشاء إسرائيل أنهار الأردن واليرموك والليطاني نصب أعينهم”.