في منتصف شهر آذار/ مارس 2019، كانت رائدتا الفضاء آن ماكلاين وكريستينا كوش تستعدان لتصنعا التاريخ في أول مهمّة من نوعها. وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، كان من المقرر أن تقوم رائدتا الفضاء بأول رحلة نسائيّة للسير في الفضاء على الإطلاق، من خلال الخروج من محطة الفضاء الدولية لتركيب بطاريات جديدة على المصفوفات الشمسية للمركبة. لكن لم تخطو ماكلاين أبدا خارج محطة الفضاء الدولية، وإنما أخذ مكانها زميلها من روّاد الفضاء التابعين لناسا، نيك هيغ، بعد أن اتضح أنه لا يمكن تجهيز بدلة فضاء بالحجم المناسب لها، وفي الوقت المناسب للسير في الفضاء.
في الواقع، صُنعت البدلات الفضائيّة لأوّل مرّة في سنة 1978 ولم يتم تحديثها منذ ذلك الحين، وذلك في وقت كان فيه معظم رواد الفضاء من الرجال. لقد توقّف صنع الأحجام الصغيرة من البدلات في التسعينيات، لتعوّضها اليوم البدلات من الحجم المتوسط، حيث لا يوجد سوى بدلة واحدة جاهزة للطيران في المحطة الفضائية. في البداية، تدرّبت ماكلاين في بدلة كبيرة واعتقدت أنها مناسبة، إلى أن وصلت إلى الفضاء وأدركت أن الحجم المتوسّط يناسبها أكثر. وبالتالي، لو سُمح للمزيد من النساء بالمشاركة منذ البداية، لربما توفّر عدد أكثر من بدلات الفضاء الأصغر حجمًا.
من الواضح أن رائدات الفضاء لم يكنّ على رأس أولويات ناسا على الإطلاق، لكن في الآونة الأخيرة يبدو أن وكالة الفضاء أصبحت حريصة على تعويض أخطائها السابقة. وفي الأسبوع الماضي، أعلنت ناسا عن خططها لإنزال أول امرأة على سطح القمر بحلول سنة 2024، كما جمعت 1.6 مليار دولار إضافية (1.26 مليار جنيه إسترليني) للمساعدة في إكمال المهمة.
على الرغم من السماح للنساء بالانضمام إلى برنامج الفضاء على أرض الواقع، إلا أنه يتعين عليهن التعامل مع البدلات الفضائية المصممة للرجال
من أجل تحقيق مثل هذه الخطط، سيتعين على ناسا أن تبدأ بالتخلّص من نصف قرن من الفشل في استيعابها للنساء ضمن برنامج الفضاء. وقد تسبّبت هذه العقود من إغفال دور النساء في نقص البيانات المتعلّقة برائدات الفضاء، مما يعني أننا لا نفهم تمامًا تأثير الفضاء على أجساد النساء، مما يجبر النساء اللاتي يعملن في الفضاء على التعامل مع المعدات المخصّصة للرجال.
يعود سبب تجاهل ناسا للمرأة إلى أسسها الأولى، إذ تأسست الوكالة سنة 1958 بعد أن أرسلت روسيا قمرين صناعيين إلى المدار وأرادت الولايات المتحدة التقدم في سباق الفضاء. وفي وقت لاحق من تلك السنة، انطلق أول برنامج لبعثات الفضاء البشريّة، والذي يدعى مشروع “ميركوري”.
في ذلك الحين، قرر الرئيس الأمريكي أيزنهاور وقيادة ناسا، لعدد من الأسباب، أن مجموعة رواد فضاء ميركوري يجب أن يكونوا من طياري الاختبار العسكريين. وأشار كيفين روسناك، وهو مؤرخ في مختبر أبحاث القوات الجوية بالولايات المتحدة وموظّف سابق في وكالة ناسا، إلى أن “هذا الخيار يضم رواد الفضاء من مجال الهندسة وأصحاب الخبرة في قيادة الطائرات التجريبية، بما في ذلك تشخيص وحل مشكلات الطيران المهدّد للحياة”.
من هذا المنطلق، أدّت مثل هذه الاختيارات إلى استبعاد النساء، كما أن النساء في الجيش لم يسمح لهنّ بأن يصبحن طيارين في المقام الأول، ولا حتى طياري اختبار عسكريين. وأضاف روسناك أنه “بسبب برنامج أبولو التدريبي اللاحق، أصبح الأمر أكثر تعقيدًا لأنه يُسمح الآن للرجال الذين ليس لديهم هذه الخبرة بالانضمام إلى البرنامج”. فعلى سبيل المثال، على الرغم من أن بز ألدرن لم يكن طيار اختبار، إلا أنه قُبل ضمن المجموعة الثالثة من رواد الفضاء التي اختارتها ناسا سنة 1963.
دعت ورقة بحثية صادرة سنة 2014 إلى إجراء المزيد من البحوث شريطة أن يكون هناك المزيد من رائدات الفضاء اللاتي يمثلن 58 فقط من أصل 562 شخصًا أرسلوا لاستكشاف الفضاء.
على الرغم من السماح للنساء بالانضمام إلى برنامج الفضاء على أرض الواقع، إلا أنه يتعين عليهن التعامل مع البدلات الفضائية المصممة للرجال. وفي هذا الإطار، أورد روسناك أنه “من الناحية الوظيفية، فقد فات الأوان لإعادة تصميم معدات أبولو لملاءمة رائدات الفضاء”. علاوة على ذلك، لم يكن المسكن على متن مركبة الفضاء أبولو مناسبا لطاقم مختلط من كلا الجنسين، كما أنهم لم يحظو لا بالخصوصية الكافيّة ولا بمكان لقضاء حاجتهم، وكذلك صمّمت أنظمة التخلّص من البول بشكل يناسب الرجال فقط.
مع أن أنظمة التخلص من البول قد تحسنت كثيرًا منذ ذلك الحين، إلا أن الأمور لا تزال غير مريحة تمامًا للنساء. فقد صمّمت المراحيض الموجودة على متن المحطة الفضائية الدولية لاستخلاص المياه من خلال إعادة تدوير البول، ولكنها لن تعيد تدوير أي ماء في حال وجود أي مادّة أخرى، وهذا يعني أن المياه المعاد تدويرها لا يجب أن تحتوي على آثار البراز. بالنسبة للرجال، فهم معتادون بطبيعتهم على التبول والتغوّط بشكل منفصل، كما يستطيعون التبول في أنبوب على المرحاض.
في المقابل، يتعين على رائدات الفضاء تدريب أنفسهن على التغوّط والتبول بشكل منفصل، وإلا ستنخفض إمدادات المياه الخاصّة بهن. إلى جانب ذلك، من شأن دم الحيض أن يسبب بعض المشاكل، ونتيجة لذلك سيتوجّب على معظم رائدات الفضاء أن يستخدمن وسائل منع الحمل لإيقاف الدورة الشهريّة. وبناء على ما سبق، هناك نقص واضح في فهم كيفية تأثّر الدورة الشهريّة في الفضاء.
مما نعرفه حتى الآن، فإن الجاذبية الصغرى ليس لها تأثير يذكر على دورات الحيض، ولكن البيانات لا تزال منقوصة. وكذلك هو الحال بالنسبة للخصائص الأخرى التي يتميز بها جسم المرأة إن انتقلت إلى الفضاء. ففي الواقع، تختلف قابلية النساء إلى التعرض للإشعاع الذي يسبب السرطان وطرق استجابة جهازهن المناعي على سطح الأرض، الأمر الذي قد يكون أكثر صعوبة وتعقيدا في الفضاء.
انطلقت سالي رايد إلى الفضاء لتصبح أول رائدة فضاء في ناسا سنة 1983. لكن الرجال الذين يخططون للبعثة لم يكونوا مستعدين لمرافقة أنثى.
حسب مديرة معهد البحوث الانتقالية لصحة الفضاء التابع لوكالة ناسا والأستاذة في طب الفضاء في كلية بايلور للطب، دوريت دونوفيل فإن “النساء معرضات أكثر للإصابة بالسرطان جراء تعرضهن للإشعاعات ومن المرجح أن يحدّ هذا العامل من طول المدة التي يمكن أن تقضيها المرأة في الفضاء أثناء مشاركتها في مهمة استكشافية”. وقد شاركت دونوفيل في كتابة ورقة بحثية سنة 2014 تلخص نتائج الأبحاث التي أجريت إلى حد الآن حول كيفية تأثر النساء والرجال بصورة مختلفة بالعوامل المحيطة بهم في الفضاء. وفي نفس السياق، تطرقت ست ورقات بحثية إلى الاختلافات على مستوى السلوك والآثار النفسية والفسيولوجية منذ دخول المرأة غمار الرحلات الاستكشافية في الفضاء.
كانت بعض هذه الاختلافات بسيطة، حيث عانت بعض النساء من دوار الحركة أكثر من الرجال في حين أن فقدان بعض الرجال لحاسة السمع في الأذن اليسرى على وجه الخصوص قد دام لفترة طويلة. ولازلنا نجهل الكثير حول أشياء أخرى متعلقة بالصحة الإنجابية. وقد دعت ورقة بحثية صادرة سنة 2014 إلى إجراء المزيد من البحوث شريطة أن يكون هناك المزيد من رائدات الفضاء اللاتي يمثلن 58 فقط من أصل 562 شخصًا أرسلوا لاستكشاف الفضاء.
كان يوري غاغارين أول إنسان يستكشف الفضاء ويدور حول الأرض سنة 1961، ونسجت فالنتينا تيريشكوفا على منواله في سنة 1963 وحلقت في الفضاء على متن فوستوك 6 الروسي. وتصدر الروس السجل بإرسال أول رجل وامرأة إلى الفضاء، وأرسلوا بعد 19 سنة امرأة أخرى تدعى سفيتلانا سافيتسكايا.
فتحت ناسا أبوابها أمام النساء إثر إطلاق برنامج مكوك الفضاء في السبعينيات استجابة للضغوط التي مارستها مجموعة تعرف باسم ماركوري 13، تتكون من الطيارين النساء اللاتي خضعن لنفس الاختبارات البدنية التي خضع لها الرجال وأثبتن قدرتهن على الانطلاق إلى الفضاء مثل الذكور.
أعلنت ناسا عن البعثة الأولى التابعة لهذا البرنامج التي تضمنت ست نساء سنة 1978. ومثّل هذا الإعلان لحظة تاريخية لرائدات الفضاء، فقد فتح المجال أمام المساواة بين الجنسين أخيرا. وبعد مضي خمس سنوات، انطلقت سالي رايد إلى الفضاء لتصبح أول رائدة فضاء في ناسا سنة 1983. لكن الرجال الذين يخططون للبعثة لم يكونوا مستعدين لمرافقة أنثى.
ليس الجميع على يقين من أن خطة ناسا ستتطرق إلى معضلة التمييز بين الجنسين المستمرة على مر التاريخ.
في هذا السياق، صرحت رايد سنة 2002 بأن “الحكمة اللامتناهية لمهندسي ناسا دفعتهم للظن بأن رائدات الفضاء قد يرغبن في استخدام المكياج، ولهذا السبب قرروا تصميم عُدّة تضم أدوات ماكياج. ويمكنك فقط تخيل النقاشات التي دارت بين المهندسين الذكور حول أدوات الماكياج التي يجب أن تتضمنها هذه العدّة”. لقد تضمنت هذه العدّة أماكن لتخزين الماسكارا ومزيل الماكياج وحتى أحمر الشفاه. والمثير للدهشة أنها لم تصل إلى الفضاء حتى. كما قدم موظفو ناسا الذين كانوا يجهلون طريقة إدارة شؤون رائدة فضاء أثناء فترة حيضها، 100 سدادة قطنية من أجل رحلة استغرقت أسبوعًا واحدًا فقط.
إلى جانب ذلك، كتبت مارغريت ريا سيدون، إحدى رائدات الفضاء الست التي شاركت في ثلاث بعثات سنة 1985 و1991 و1993، في سيرتها الذاتية عن التمييز الجنسي الذي تعرضت له كرائدة فضاء وعن التساؤلات التي طرحت حول ما إذا كانت ستتخلى عن هذه الوظيفة إذا قابلت الرجل المثالي وما إذا كانت قد تعرضت لاعتداء جنسي.
لقد تغيرت الأمور كثيرًا في السنوات التي تلت ذلك، لكن الخطة الجديدة التي أطلقتها ناسا والمتعلقة بالقمر تشير إلى أن مبدأ الرمزية يلوح في الأفق ويمكن أن يعود إلى الوكالة. وينص الإعلان على اعتزام ناسا إرسال “أول امرأة والرجل التالي” للجزء الجنوبي للقمر، ومن الواضح أنها تستبعد احتمال أن يكون رواد الفضاء في هذه البعثة من الإناث فقط.
حيال هذا الشأن، قال متحدث باسم ناسا: “نتطلع إلى مشاركة اللحظة التاريخية التي تخطو فيها المرأة الأولى على سطح القمر مع بلادنا والعالم. ومن المحتمل أن تشمل بعثات أرتيميس المبكرة إلى سطح القمر اثنين من رواد الفضاء. ومع ذلك، فإن تفاصيل تكوين الطاقم لم تحدد بعد”. لكن ليس الجميع على يقين من أن خطة ناسا ستتطرق إلى معضلة التمييز بين الجنسين المستمرة على مر التاريخ.
في هذا الإطار، أفادت عالمة الكواكب في جامعة براون، أدين دانتون: “أعتقد أن هذا الهدف في حد ذاته جيد والخطوة التالية المتوقعة بعيدة عن السياق الاجتماعي والقومي. ومع ذلك، أظن أن خططهم الحالية التي وضعوها تولي أهمية إلى الرمزية أكثر من التقدم، على الرغم من النوايا الحسنة المحتملة التي تقف وراءها”.
في سياق متصل، أضافت دانتون “يمكن أن نفهم الخطاب الحالي بسهولة ألا وهو أن ناسا سترسل المرأة الوحيدة والأخيرة، ونأمل ألا يكون هذا القصد منه. ومثل الكثير من النساء العاملات في مجال استكشاف الفضاء وحوله، أود أن تشعر كل المجموعات التي لا تلقى تمثيلا كافيا وعادلا بما في ذلك النساء، أنها تمتلك مكانة في استكشاف الفضاء وأن النساء سيلعبن دورا حاسما في مواصلة دفع اكتشافات البشر إلى الأمام”.
المصدر: وايرد