يبدو أن ملف الجاسوسية في تونس وما يحفه من مكاره ترفض السلطات كشفها للرأي العام المحتار في أمن بلاده، لن يكتب له نهاية واضحة في القريب العاجل، ما دامت الرواية الرسمية للأحداث مبهمة وغير منسجمة مع نهايتها السعيدة للمتهمين والمحرجة للجهات المسؤولة في البلاد، آخرها ما حدث في ملف الخبير الأممي التونسي المتهم بالجاسوسية منصف قرطاس، عندما قرر القضاء التونسي الإفراج عنه يوم الثلاثاء 22 من مايو الحاليّ، لحين استكمال التحقيق في ملفه، بعد نحو شهرين من الإيقاف على خلفية ملف جاسوسية من الحجم الثقيل وفق ما تؤكد وزارة الداخلية والنيابة العامة.
قضية الخبير الأممي التونسي الذي أوقف نهاية شهر مارس الماضي فور وصوله البلاد، ولم يسمع بها التونسيون إلا بعد صدور بيان الأمم المتحدة الذي يطالب السلطات التونسية بمعرفة مصير “قرطاس”، هزت الرأي العام المحلي على إثر مسارعة وزارة الداخلية بالرد على البيان الأممي من خلال تأكيدها أن الإيقاف جاء على خلفية اتهامه رسميًا بالتجسس رفقة شخص آخر، وهي الرواية التي تبنتها وسائل الإعلام التونسية، خاصة بعد تأكيد الناطق باسم النيابة العامة سفيان السليطي، ثبوت التهمة على الموقوفين بعد عمل فني واستخباراتي دقيق منذ أواسط العام 2018.
الإفراج غير المتوقع عن “قرطاس” رغم خطورة الاتهامات الموجهة إليه والضغط الأممي الهائل الذي وصل حد التهديد المبطن لتونس إذا تواصل إيقافه، طرح أكثر من نقطة استفهام لم ينبرِ الإعلام المحلي للإجابة عنها، يبقى أخطرها النشاط الرهيب لشبكات الجاسوسية الدولية في البلاد منذ انتفاضة 14 يناير 2011، التي كشفت خللاً رهيبًا في المنظومة الأمنية الاستعلامية فيما يتعلق بمكافحة الجاسوسية في تونس.
المؤكد أن تونس أصبحت تعيش اليوم على وقع تنامي نفوذ شبكات التجسس الدولية في البلاد، في ظل الوضع السياسي والاجتماعي الملتهب الذي تعيشه
قد لا يعجب هذا الكلام عددا لا بأس به من قارئي المقال وبعض المسؤولين الساهرين على الوقوف عند كل كلمة ناقدة لهم في مجال أدائهم لعملهم، لكن المؤكد أن تونس أصبحت تعيش اليوم على وقع تنامي نفوذ شبكات التجسس الدولية في البلاد، في ظل الوضع السياسي والاجتماعي الملتهب الذي تعيشه، ناهيك عن وجودها في منطقة مشتعلة، زادتها الحرب الأهلية المتواصلة في ليبيا لهيبًا.
تهديدات الأمم المتحدة لتونس، ومطالبتها المستمرة بالإفراج عن منصف قرطاس، وتأكيد وزير الداخلية هشام الفوراتي المطلع على التفاصيل الدقيقة للملف والمشرف المباشر على تطورات القضية الخطيرة وتبعاتها، يضعنا أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن يكون الملف فارغًا مثلما تروج لذلك هيئة الدفاع، أو أن يكون من الحجم الثقيل والحكومة التونسية عاجزة عن مواصلة التحقيق في القضية بفعل الضغوطات الأممية والدولية، وهذا الاحتمال قد يكون الأرجح بالنظر لتسلسل الأحداث وتمسك الطرف الأمني والقضائي في طوره التحقيقي بصحة روايتهما وعدم تراجعهما عنها قيد أنملة رغم كل ما حدث.
مهما كانت نتائج القضية التي يواصل القضاء التونسي النظر فيها رغم الإفراج المؤقت عن المتهم، إلا أننا نواجه حقيقة ثابتة نُفِض الغبار عنها منذ 15 من ديسمبر 2016، عندما اغتيل مسلحون منتمون لجهاز الموساد الإسرائيلي، المهندس القسامي التونسي محمد الزواري أمام منزله بمحافظة صفاقس جنوبًا، وسط النهار، قبل أن يحتفل الصحفي الإسرائيلي معاذ فاردي بنجاح عملية الاغتيال من أمام منزل الشهيد ومقر وزارة الداخلية بالتحديد، في رسالة واضحة للجهات المسؤولة على أن عملاء المخابرات الإسرائيلية يرتعون في تونس أمام أعين الجميع.
السلطة التنفيذية لم تستطع إلى اليوم كسب ثقة الشعب بالنظر إلى حجم المغالطات التي تختلقها في مخاطبتها للشعب رغم خطورة الوضع
اغتيال الزواري الذي خلف صدمة لدى الرأي العام المحلي ودعوات لإقالة وزير الداخلية الأسبق الهادي مجدوب، طرحت تساؤلاً مشروعًا عن مدى قدرة الدولة التونسية على مكافحة التجسس في البلاد، وسط تأكيد غير رسمي من أطراف متعددة أن نشاط شبكات الجاسوسية الدولية والعربية، أصبح أمرًا مفضوحًا وغير خاف على الجميع.
خلاصة القول إن الأمور لا تطمئن في تونس بسبب ضبابية المشهد وعدم وضوحه، فالسلطة التنفيذية لم تستطع إلى اليوم كسب ثقة الشعب بالنظر إلى حجم المغالطات التي تختلقها في مخاطبتها للشعب رغم خطورة الوضع، حتى إن كثيرًا من التونسيين أصبحوا يشككون بتهم “الجاسوسية” و”التآمر على أمن الدولة”، متى استمعوا إليها أو قرؤوها في وسائل الإعلام، خاصة بعد نقض القضاء مرتين متتاليتين ملفين من هذا النوع وجهت فيهما التهمة لكل من رجل الأعمال التونسي شفيق جراية والخبير الأممي منصف قرطاس.