منذ استعادة مدينة تكريت (مركز محافظة صلاح الدين) عام 2015، ما زالت الانتهاكات مستمرة في المحافظة من مجاميع مسلحة همها الوحيد استغلال ثروات وموارد المحافظة إلى أقصى ما يمكن، إذ وبعد أن التهمت الحرائق مساحات زراعية شاسعة في المحافظة كانت على وشك حصاد محاصيلها من الحنطة والشعير، تتكشف اليوم مشكلة أخرى للفصائل دور كبير فيها، وتتمثل بقطعان الجواميس المنتشرة على الطرق السريعة في المحافظة التي تسببت وما زالت بعشرات الحوادث المرورية، إضافة إلى أضرار مادية جسيمة بمممتلكات السكان ومزراعهم.
الأسطر التالية لـ”نون بوست” تسلط الضوء على ما يجري في محافظة صلاح الدين بعد قرابة أربعة أعوام على استعادتها من سيطرة تنظيم الدولة (داعش).
استغلال اقتصادي تحت نظر الأجهزة الأمنية
لم يسمح لهم بالعودة، إنهم نازحو محافظة صلاح الدين الذين تركوا ديارهم بسبب الحرب ضد تنظيم داعش، فعلى الرغم من مرور أكثر من عامين على تحرير آخر قرى محافظة صلاح الدين، فإن ميليشيات الحشد ما زالت تمنع نازحي بعض القرى والنواحي من العودة إلى ديارهم.
ووفقًا لما يؤكده شيوخ عشائر من صلاح الدين، فإن مواطني نواحي يثرب وعزيز بلد وبيجي والصينية ما زالوا ممنوعين من العودة إلى مناطقهم بأمر من مليشيات وفصائل تابعة للحشد الشعبي، ويأتي ذلك بحجة عدم دفع سكان تلك المناطق دية قتلى الحشد الذين سقطوا خلال المعارك مع تنظيم داعش، في الوقت الذي ما زال فيه قرابة الـ30% من نازحي صلاح الدين بعيدين عن ديارهم.
ومن خلال سيطرة الميليشيات على مناطق شاسعة في صلاح الدين إداريًا وعسكريًا، عمدت تلك الميليشيات إلى استغلال ثروات تلك المناطق بطرق شتى، ولعل أبرز ما تداولته وسائل الإعلام مؤخرًا قضية انتشار قطعان كبيرة من الجاموس في مناطق متعددة من المحافظة، وهو الأمر الذي أدى إلى مقتل عدة أشخاص نتيجة الحوادث المرورية.
إذ قتل قبل يومين طبيب مقيم في مستشفى سامراء بسبب اصطدام سيارته بـ”جاموس” سائب على الطريق الدولي السريع الرابط بين سامراء وتكريت، حيث أكدت مصادر أمنية أن هذا الحادث يعد الـ25 من نوعه بسبب قطعان الجواميس السائبة في المحافظة.
سيارة الطبيب الذي قتل بعد اصطدام جاموس بها
وعلى الرغم من غرابة وجود الجواميس في صلاح الدين، فإن الصحفي السامرائي عمر الجنابي يؤكد في حديثه لـ”نون بوست” أن عائلات من مربي الجواميس جاءت إلى المحافظة بعيد استعادتها من تنظيم داعش قبل قرابة الثلاث سنوات.
ويضيف الجنابي أن تلك الفترة كان العراق يعاني خلالها من أزمة مياه، ولكون أبناء هذه المناطق الممتدة من جنوب تكريت وصولاً إلى سامراء، كانوا نازحين في المخيمات ومناطق أخرى، فإن ذلك سهّل على الفصائل المسلحة التابعة للحشد الشعبي توطين مربي الجواميس في مناطق النازحين، لافتًا إلى أن أعدادهم تزايدت بشكل كبير وانتشروا في الأراضي القريبة من دجلة وصولاً إلى سدة سامراء، إذ اتخذوا من الأراضي التي نزح منها السكان مستقرًا لهم، بحسبه.
وعن سبب عدم حصر الجواميس ضمن حظائر خاصة، كشف الجنابي أن مربي الجواميس اعتادوا العيش في الأهوار، إذ يتركونها حرة طليقة كما أن مربيها اعتادوا تركها هائمة ترعى في الأرض على خلاف ما يفعله مزارعو صلاح الدين مع مواشيهم (الأبقار والأغنام والماعز)، ما أدى إلى تسبب تلك الجواميس بأضرار كبيرة في الممتلكات العامة والخاصة، فضلاً عن تسببها بحوادث مرورية مميتة بسبب قرب مناطق رعيها من الطريق السريع الرابط بين سامراء وتكريت.
وفي ختام حديثه لـ”نون بوست” أكد الجنابي أنه رغم الشكاوى المتكررة للسكان، فإن الإدارة المحلية في سامراء وتكريت عاجزة عن وقف المهزلة الحاصلة بسبب حماية فصائل مسلحة لمربي الجواميس الذي سماهم بـ”المعدان”، إذ عمدت تلك الفصائل والميليشيات إلى توطين مربي الجواميس في المزارع التي نزح عنها أهلها وباتوا يتصرفون بها وكأنها ملك لهم دون أي رادع.
أشارت جمعية الدفاع عن حرية الصحافة في العراق إلى أن الصحفيين تلقوا اتصالات من مجهولين يهددونهم بالتصفية الجسدية أو الاعتقال حال لم يتوقفوا عن نشر التقارير التي يطالب المواطنون فيها برحيلهم
ليس هذا فحسب، فأضرار تلك القطعان باتت تمتد إلى محافظات أخرى، إذ يشكو سائقو سيارات الأجرة بين بغداد والموصل من خطورة الطريق الذي يربط بين المحافظتين، إذ يعد طريق سامراء – تكريت جزءًا من طريق بغداد – الموصل، ويصل طوله إلى قرابة الـ90 كيلومترًا، بحسب سائق سيارة الأجرة “ليث غسان” الذي تحدث لـ”نون بوست” عن المشكلة.
ويؤكد غسان أن جميع سائقي سيارات الأجرة باتوا يخشون سلك الطريق ليلاً بسبب عدم وجود سياج على جانبي الطريق ما يؤدي إلى مفاجأة سيارات الأجرة بقطعان الجواميس التي تعبر الطريق فجأة، مبينًا أن ذلك أدى إلى طول الفترة التي يقضيها المواطنون في سفرهم، إذ لا يمكن القيادة في هذا الطريق بسرعة أكثر من 60 كيلومترًا في الساعة، بحسب غسان.
لم يقف الأمر عند ذلك، إذ وبعد أن نشر مجموعة من صحفيي مدينة سامراء تقارير إعلامية عن الأضرار التي تسببها قطعان الجاموس، تعرض هؤلاء الصحفيون لتهديدات بالتصفية، وقد أدانت النقابة الوطنية للصحفيين في العراق، ما تعرض له الصحفيون في سامراء من تهديد بالتصفية الجسدية على خلفية نشرهم تقارير فيها مطالب بترحيل مربي الجاموس إلى مناطقهم الأصلية.
فيما أشارت جمعية الدفاع عن حرية الصحافة في العراق إلى أن الصحفيين تلقوا اتصالات من مجهولين يهددونهم بالتصفية الجسدية أو الاعتقال حال لم يتوقفوا عن نشر التقارير التي يطالب المواطنون فيها برحيلهم.
حرق للمحاصيل الزراعية وصمت حكومي
مشاكل متعددة وأوجه أخرى للاستغلال الاقتصادي الذي تشهده محافظة صلاح الدين، إذ ومع بدء المزارعين في مختلف المحافظات العراقية حصد محصولي الحنطة والشعير، اندلعت حرائق متعددة ومتزامنة في المزارع، في الوقت الذي أكد فيه بعض نواب محافظة صلاح الدين أن إحراق المزارع تم بفعل فاعل.
واتهم النائب عن محافظة صلاح الدين أحمد الجبوري في حديثه لبرنامح “بالحرف الواحد” الذي تبثه قناة الشرقية جهات لم يسمها بالتسبب بافتعال تلك الحرائق، متهمًا بأن من لا يريد أن يحقق العراق اكتفاءً غذائيًا ذاتيًا هو من يقف وراء الحرائق، معتبرًا أن جميع مفاصل الدولة الصناعية والزراعية مستهدفة.
عثر مزارعون في مناطق شرقي تكريت وتحديدًا في ناحية العلم على أداة جريمة حرق حقول محصول القمح، إذ أكدوا أن مجهولين خبراء بصناعة المتفجرات وضعوا أجهزة تتسبب بحريق وسط حقول القمح ليمتد إلى أكبر رقعة مزروعة في المحافظة
أربعة أيام على بدء سلسلة الحرائق المفتعلة لمزارع الحنطة والشعير، التهمت النيران خلالها مئات الهكتارات (الهكتار يساوي 10 آلاف متر مربع) من الأراضي المزروعة بالقمح والشعير في مناطق متفرقة من محافظتي صلاح الدين وديالى.
وعثر مزارعون في مناطق شرقي تكريت وتحديدًا في ناحية العلم على أداة جريمة حرق حقول محصول القمح، إذ أكدوا أن مجهولين خبراء بصناعة المتفجرات وضعوا أجهزة تتسبب بحريق وسط حقول القمح ليمتد إلى أكبر رقعة مزروعة في المحافظة، في الوقت الذي أكدوا فيه أن الجهاز يتم التحكم به عن بعد من خلال هاتف نقال يتم الاتصال به لتنطلق شرارة تحرق المحاصيل.
من جهته يقول الخبير الزراعي عمار عبد المجيد في حديثه لـ”نون بوست” إن الحرائق مفتعلة من خلال المناطق التي اندلعت فيها، إذ إن جميع المزارع التي تعرضت للحرق تقع في المدن والمحافظات التي كانت محتلة من تنظيم داعش، وبات مسيطرًا عليها من فصائل ميليشاوية تتبع الحشد الشعبي.
واستبعد عبد المجيد أن تكون درجات الحرارة المتسببة بالحرائق، مضيفًا بالقول: “لو كانت الحرائق السبب، لكانت مزارع الجنوب قد احترقت أيضًا، فدرجات الحرارة في جنوب البلاد أعلى بكثير من محافظتي صلاح الدين وديالى” بحسبه.
وأضاف عبد المجيد أنه رغم هول الكارثة، فإن أي مسؤول حكومي لم يخرج علانية ويشرح ما حدث، بل اكتفى بعضهم بتوجيه التهم لداعش، لافتًا إلى أن سبب الحريق المفتعل معروف للجميع، فدولة إقليمية لا تريد للزراعة في العراق أن تنمو، إضافة إلى احتمالية رفض المزارعين دفع الإتاوة المفروضة عليهم من فصائل الحشد، وهو ما اعتادت المناطق المحررة مواجهته خلال المدة التي أعقبت تحرير المدن من قبضة تنظيم داعش، بحسبه.