الكهرباء الغائب الحاضر الذي يزداد وهجه كل يوم، يعيش معها المصريون هذه الأيام سنوات عجاف بعد إعلان قرار حكومي جديد برفع أسعار شرائح استهلاكها للمرة الخامسة خلال 5 سنوات، مع توجه لرفع الدعم نهائيًا عن هذا القطاع في أفق ما لا يقل عن 3 سنوات، لتجد فئات واسعة من الشعب المصري نفسها وجهًا لوجه مع مزيد من الضغوط المعيشية التي ترهقهم أصلاً.
قفزة جديدة نحو رفع الدعم نهائيًا
على طريقتها الخاصة تقدم الحكومة المصرية لمواطنيها تهنئة شهر رمضان وعيد الفطر، فقد أعلن وزير الكهرباء المصري محمد شاكر مؤخرًا حزمة زيادات جديدة في أسعار استهلاك الكهرباء بنسبة 14.9% في المتوسط، ويبدأ تطبيقها مطلع يوليو/تموز المقبل تزامنًا مع العام المالي الجديد 2019/2020، وتحصيلها على فاتورة شهر أغسطس/آب، مؤكدًا أن الدولة ستخَّفض دعم الكهرباء مرة أخرى في غضون العامين المقبلين.
اختلفت نسب الزيادة باختلاف شرائح الاستهلاك، وكالعادة كانت الفئات الأقل استهلاكًا هي الأكثر تضررًا بالأسعار الجديدة بنسب زيادة وصلت إلى 37%
جاء هذا الإعلان كمرحلة خامسة ضمن خطة خمسية بدأت مع تولي السيسي مقاليد الحكم، كما جاء بعد إقرار الحكومة تلك الزيادات وموافقتها على دعم قطاع الكهرباء بـ16 مليار جنيه من موازنة العام الجديد، حيث تهدف الوزارة من خلاله كما تقول إلى خفض دعم الكهرباء من 49 مليار جنيه إلى 22 مليون جينه، وتسديد مديونياتها لوزارة البترول.
وفي آخر حلقات ارتفاع أسعار الكهرباء، اختلفت نسب الزيادة باختلاف شرائح الاستهلاك، وكالعادة كانت الفئات الأقل استهلاكًا هي الأكثر تضررًا بالأسعار الجديدة بنسب زيادة وصلت إلى 37%، وبحسب الأسعار الجديدة للاستهلاك المنزلي والتجاري ستتكبد الشرائح التي تستهلك أقل من 50 كيلووات شهريًا زيادات يتجاوز متوسطها نسبة 36.3%، التي تستهلك بين 51 و100 كيلووات ستزيد أسعارها بنسبة 33.3% في حين الشريحة التي تستهلك بين 101 و200 كيلووات فستتخطى أسعارها نسبة 38.3%.
في المقابل، ينخفض مقدار الزيادة لشرائح الاستهلاك العليا لما متوسطه 10%، فمثلاً الشريحة التي تستهلك بين 201 و350 كيلووات تبلغ نسبة الزيادة بالنسبة لها 17% مقابل نسبة زيادة 3% فقط لمن يستهلكون ما بين 651 وألف كيلووات شهريًا.
وحسب وزارة الكهرباء فإن متوسط رسوم زيادة الجهد الفائق الذي يستخدم عادةً في المصانع سيبلغ 10% في السنة المالية المقبلة، بينما زاد متوسط الجهد المنخفض المستخدم في المنازل والمتاجر والمشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر نحو 19%.
فلسفة الحكومة المصرية في ذلك تعود لخطواتها المتسارعة لرفع الدعم عن الخدمات الأساسية كالكهرباء في الحالة الراهنة، التي يُزمع وفق وزير الكهرباء رفع الدعم عنها نهائيًا بنهاية السنة المالية 2021/2022، ليبدأ السعر في التغير وفقًا لسعر الصرف، بعدها سيكون على المصريين جميعًا سداد فاتورة تزيد على ضعفيّ سعر الفاتورة التي كان يدفعها قبل رفع الدعم، دون أن يصاحب ذلك خطوات موازية لرفع مستوى الدخل في ذات الفترة.
زيادة أسعار استهلاك الكهرباء لا مفر منها كما يقول المسؤولون، فأي تأخير في تعديل أسعار الكهرباء للعام المالي الحاليّ سيخلِّف عجزًا يجاوز 33 مليار جنيه بحسب وزير الكهرباء، لكن المواطن مطالب بتحمل تبعات الإصلاح الاقتصادي تحت وطأة الغلاء الذي يحاصره.
بينما تسارع الحكومة المصرية في تطبيق تلك الشروط، لا ينظر المسؤولون للانعكاسات العاجلة للارتفاعات المتواصلة في أسعار السلع والخدمات الأساسية على الطبقات الفقيرة من المجتمع
نار الغلاء تزاحم حرارة الطقس
مع إعلان وزير الكهرباء الزيادات الجديدة لفواتير الاستهلاك، أثار هذا الإجراء جدلاً واسعًا عن مدى قدرة المصريين على تجاوزه في ظل اتساعِ الهوة بين الرواتب والأسعار المتصاعدة أصلاً على وقع تحرير سعر صرف الجنيه منذ أواخر عام 2016.
خلال تلك الخطوات المتسارعة التي هي في الأصل استجابة لشروط صندوق النقد الدولي مقابل قرض بـ12 مليار دولار، تجد الحكومة المصرية نفسها ملزمة بزيادة معاناة المواطن أمام شروط الصندوق التي تشمل إعادة هيكلة أسعار الخدمات ومنها الكهرباء والمياه والصرف الصحي بالإضافة إلى خفض الدعم عن مواد الوقود.
تشير التوقعات إلى أن هذه الزيادة ستضع أثقالاً إضافية على كاهل المواطن العادي، خاصة أن الزيادة تمس الشرائح كافة بشكل مباشر
وبينما تسارع الحكومة المصرية في تطبيق تلك الشروط، لا ينظر المسؤولون للانعكاسات العاجلة للارتفاعات المتواصلة في أسعار السلع والخدمات الأساسية على الطبقات الفقيرة من المجتمع التي داهمتها الزيادات الأخيرة في قلب مواسم ترهق جيوبها بما يكفي، وعلى مشارف صيف يبدو من بشائره أنه سيكون أكثر قسوة مما أعلنته هيئة الأرصاد من التهاب الأجواء في مصر وارتفاع درجات الحرارة إلى نحو 40 درجة مئوية، وهو ما دفع البعض للربط بين تزامن زيادة الأسعار وارتفاع درجات الحرارة.
رغم ذلك، لم يكن ارتفاع أسعار الكهرباء مفاجأة بالنسبة للشارع المصري الذي يتخوف من أن تجر هذه الزيادة وراءها ارتفاعًا في أسعار السلع والخدمات الأخرى من مياه وغاز، لكن القرار أثار تساؤلات عن المدى الذي ستذهب إليه الحكومة في مسألة خفض الدعم، وحدود انعكاس الإصلاحات على الاقتصاد والمواطن والوضع الاجتماعي.
#الكهرباء
مقدمة لزياد البنزين والغاز وبالتالي ارتفاع في جميع الأسعار…
ولسه من يبرر ويقول نتحمل (بقالنا خمس سنين بقول نتحمل)— فارس القلم (@fareselqalm) May 21, 2019
ومما لا شك فيه أن هذه المخاوف ستتحقق عاجلاً أو آجلاً، حيث تشير التوقعات إلى أن هذه الزيادة ستضع أثقالاً إضافية على كاهل المواطن العادي، خاصة أن الزيادة تمس الشرائح كافة بشكل مباشر، وبالتالي فإن ارتداداتها ستمسّه على شكل ارتفاع سلع وخدمات أساسية مختلفة.
تفاصيل زيادة أسعار الكهرباء – المصدر: الجريدة الرسمية
وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، المتنفس الوحيد للمصريين في ظل القبضة الأمنية، أثار القرار أيضًا حالة من الرفض، إذ تداول المصريون المعلومات التفصيلية للزيادات الجديدة، معبِّرين عن غضبهم المكتوم من ارتفاع تكاليف المعيشة وعدم مراعاة الحكومة لأوضاعهم المتدهورة، وفسَّر البعض قرارات زيادة الأسعار المستمرة في سياق خطة محكمة لإنهاك الشعب وجعله لا يفكر إلا في لقمة عيشه وقوت يومه فقط.
الي بيحصل من غلاء اسعار ل #الكهرباء وغيرها خطه دقيقه ممنهجه ومحسوبه لتكفير وانهاك الشعب المصري وعدم اعطاءه اي فرصه للتفكير في شيئ بعيد قوت يومه
— ahmed ibrahim (@inotme93) May 21, 2019
وعود السلطات تفارق المصداقية
“حاسين كلنا بالأزمة والكل مقدرين، عشان عيون السيسي الناس مستحملين”، هذه بعض كلمات من أغنية للمطرب شعبان عبد الرحيم، تصف الحال في مصر، وترسم صورة تعبر عن واقع أليم لا يسير إلا بمسكنات تؤجل النهاية ولا توقفها، وتسعى للتغطية على نوايا رفع الدعم عن السلع والخدمات التي لم تكن خافية في برامج العهد الجديد، بل وحتى في تصريحات قياداته.
على هذا الأساس تمضي الحكومة المصرية في خطة الدعم التي بشَّر بها عبد الفتاح السيسي حتى قبل انقلابه العسكري عام 2013، وأظهرت تسريبات مكتبه رسوخ الفكرة في عقلية نظام الثالث من يوليو، وكشفت قناعة الرئيس بضرورة رفع الدعم لمواجهة عجز الموازنة، وضرورة حصول المواطن على السلع بسعرها الحقيقي.
لا يكف السيسي ووزراء حكوماته المتعاقبة على الحث على الصبر انتظارًا لجني ثمار ما يصفونها بالإصلاحات الاقتصادية، في حين لا يجد المواطن الفقير أو محدود الدخل بديلاً عن الصبر بحكم السياسيات الأمنية وانسداد أفق التعبير
ومنذ تولّي السيسي رئاسة البلاد لأول مرة رسميًا، تتواصل إجراءات خفض دعم الطاقة في إطار محاولات لترشيد الاستهلاك وخفض عجز الموازنة كما تقول الحكومة، وهي السياسة ذاتها التي يزكيها صندوق النقد الدولي ويبشر بآثار إيجابية مرتقبة لها.
لكن مبرّرات المسؤولين بضرورة تعديل أسعار الخدمات الأساسية – ومنها الكهرباء – يراها المواطنون غير واقعية بسبب اتساع الفجوة بين الرواتب والإنفاق اليومي على المعيشة، بينما تشير مؤشرات اقتصادية إلى الصعوبات المتزايدة التي يرزح تحتها الاقتصاد المصري، واضعةً وعود السلطات بالرفاهية لشعبها على محك المصداقية.
مفيش رحمة أبدا بالمصريين
كل يوم زيادات في #الكهرباء والبنزين وأسعار الخضروات والفواكه واللحمة والسمك، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.— حسين ابو العلا (@sehessehes13) May 21, 2019
ويراهن خطاب النظام المصري على تفهم المصريين للإجراءات القاسية، ففي لقاء شبابي عام 2016، ظهر ذلك جليًا في حديث السيسي الذي اعتبر التحدي ليس في الإجراءات بل في قبول الناس لها، وقال حينها :”اوعوا تفتكروا إن المصريين مش محبين لوطنهم بالشكل إلي يتحملوا بيه التحدي والصعاب”.
بعد هذا الخطاب بأيام توقعت صحيفة “إيكونومست” البريطانية كما توقع غيرها من قبل أن تقود سياسات الرئيس المصري إلى تخريب مصر، وهي توقعات تشكك كثيرًا في صلاحية الرهان الطويل على تحمل المصريين.
وفي سياق متصل، لا يكف السيسي ووزراء حكوماته المتعاقبة على الحث على الصبر انتظارًا لجني ثمار ما يصفونها بالإصلاحات الاقتصادية، في حين لا يجد المواطن الفقير أو محدود الدخل بديلاً عن الصبر بحكم السياسيات الأمنية وانسداد أفق التعبير.
لكن بالمقابل تُظهر بيانات رسمية أن الاقتصاد المصري لا يتجه نحو التعافي، بل تتعاظم مثلاً معدلات الدَّين بشكل غير مسبوق، ففي أحدث بيانات البنك المركزي المصري ارتفع إجمالي الدَّين العام المحلي للبلاد بأكثر من 20% على أساس سنوي، ليصل إلى 241.9 مليار دولار في نهاية ديسمبر/كانون الأولي الماضي، وزاد الدَّين الخارجي في الفترة ذاتها أكثر من 16% ليصل إلى 96.612 مليار دولار.
تتواصل تلك السياسية في تحميل كاهل المواطنين تكاليف التنمية وإصلاح البنى التحتية دون التفات برأيهم لرفع مستوى دخله لتحمل هذه الأعباء المتزايدة
وبحسب بيانات اقتصادية، تلتهم الديون نحو 83% من الإيرادات العامة للدولة بعد أن قفزت الديون التراكيمة إلى 3 أضعافها من خلال 7 سنوات (2011-2018)، وصعد الدين العام لأكثر إلى أكثر من 125% من الناتج المحلي، ومن المتوقع أن تصل أقساط وفوائد الديون إلى 990 مليار جنيه.
ويحذّر اقتصاديون من سنوات عصيبة مقبلة بسبب جداول سداد الديون الخارجية التي لا يتوقف الرئيس المصري عن التوقيع على اتفاقاتها بمعدلات متسارعة، ففي فبراير/شباط الماضي حصلت مصر على قرض بقيمة ملياري دولار من صندوق النقد الدولي و4 مليارات دولار عبر طرح سندات دولية، ومليار دولار آخر عبر طرح البنك المركزي لأذون خزانة دولارية.
ولا يُعرف في ظل كل ذلك كيف يتسنى للطبقات الفقيرة في مصر ترقب التحسن الذي يعد به المسؤولون، في حين تتواصل تلك السياسية في تحميل كاهل المواطنين تكاليف التنمية وإصلاح البنى التحتية دون التفات برأيهم لرفع مستوى دخله لتحمل هذه الأعباء المتزايدة.