بعد الاحتلال الإسرائيلي لبقية الأراضي الفلسطينية وأجزاء من الأراضي العربية عام 1967، بدأت سلطات الاحتلال بتطبيق مخططها الهادف لنشر المستوطنات على بقية التراب الفلسطيني، تحديدًا في الأغوار والقدس لاعتبارات أمنية وأخرى سياسية، متعلقة بكون القدس مشروعًا للعاصمة.
لم يخطط الاحتلال في البداية للاستيطان في مدن الضفة المحتلة باستثناء الأغوار والقدس، إلا أن المشكلة الاجتماعية التي نشأت بفعل احتجاجات حركة الفهود السود والمتمثلة في المطالبة بامتيازات تساوي بين اليهود الشرقيين والغربيين، قادت الاحتلال لحل هذه الأزمة عبر التوسع الاستيطاني بالضفة الغربية المحتلة ومنح المستوطنيين فيها امتيازات غير مسبوقة وهو ما يعني أن الاحتلال حاول معالجة هذه الأزمة المجتمعية بشكل سياسي على حساب الفلسطينيين.
وبعد قدوم رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي وحزب الليكود مناحم بيغن بعد عام 1977، جعلا الضفة الغربية جميعها بيئة خصبة للاستيطان ذات أفضلية قومية، من خلال التسهيلات التي عمل عليها الاحتلال لمستوطني الضفة عبر استثناءات تمنح للخريجين منهم، إلى جانب منح مواصلات وإعفاءات ضريبية وقروض ومنح مجانية.
ثم جاء رئيس دائرة الاستيطان في المنظمة الصهيونية متتياهو دروبلس، وذلك عام 1978، ليطرح رؤية “مليون مستوطن” في الضفة الغربية المحتلة، وتبدأ مرحلة جديدة من التوسع الاستيطاني في مختلف المناطق، حيث سارت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على استكمال هذه الرؤية، سواء كانت من الليكود أم حكومات الوحدة أم اليسار.
الاحتلال يفصل مستوطني الضفة عن مستوطنات القدس.
وهدفَ المشروع إلى إقامة نحو 70 مستوطنة مجتمعية مدنية في الضفة الغربية خلال 13 عامًا (1979-1993) وبمعدل 12-15 مستوطنة سنويًّا، وبالوقت نفسه زيادة وتكثيف المستوطنات القائمة، بحيث يصل عدد المستوطنين إلى 120-150 ألفًا، ويقوم المشروع على عدد من المبادئ، منها أن الاستيطان في مختلف أنحاء “أرض إسرائيل” هو من أجل الأمن وحق لليهود.
بالإضافة إلى ذلك، يتم توزيع المستوطنات على كتل استيطانية مترابطة لتطوير وسائل إنتاج وخدمات مشتركة، وعدم الاقتصار على توزيع المستوطنات حول الأقليات السكانية الفلسطينية بل بينها أيضًا.
وكانت أهم الكتل التي تحدثت عنها خطة دروبلس كتلة ريحان – غربي جنين، وكتلة شومرون – شمالي نابلس، وكتلة كدوميم – شرقي قلقيلية، وكتلة كرني شومرون – غربي نابلس، وكتلة أرئيل – جوار مدينة سلفيت، وكتلة مودعين – اللطرو، وكتلة عتصيون – بيت لحم، وكتلة عاموس – شمال الخليل، وكتلة أدوميم – شرقي القدس، وكتلة بيت أيل – شمال مدينة رام الله.
وقدّم دروبلس أيضًا خطة تطوير القدس الكبرى عام 1984، التي تهدف إلى مضاعفة عدد السكان اليهود في منطقة القدس الكبرى خلال 25 عامًا، برفعه إلى 700-750 ألفًا عن طريق الاستيطان.
قفزة نوعية.. مشروع المليون مستوطن
مدير عام التوثيق والنشر في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، أمير داوود، يقول إن رؤية المليون مستوطن باتت متبنّاة من مجلس المستوطنات بالضفة الغربية المحتلة، فهناك 750 ألف مستوطن حاليًّا، إلا أن الاحتلال يفصل مستوطني الضفة عن مستوطنات القدس.
ويضيف داوود لـ”نون بوست” أن أعداد مستوطني الضفة الغربية قرابة 500 ألف مستوطن فقط، في حين أن مخطط المليون يشمل مستوطنات الضفة، ولا يشمل في تخططيه مستوطني مستوطنات القدس المحتلة البالغ عددهم 250 ألف مستوطن.
ويشير إلى وجود صراع كبير فيما يتعلق بأرقام المشاريع الاستيطانية داخل الاحتلال، فهناك أرقام الإحصاء الإسرائيلي الذي يقدّم معلومات عن مستوطنات الضفة، فقد قال تقرير صادر عن هذا الجهاز عام 2021 إن هناك زيادة طفيفة أو تراجعًا بنسبة تتراوح ما بين 2 إلى 5% في أعداد المستوطنين، أما مجلس المستوطنات فطعن في التقرير وركّز على الزيادة الحاصلة في البناء الاستيطاني.
ووفق تحليل داوود، فإن تدخل مجلس المستوطنات بهذه الطريقة يعكس رغبته في إيصال رسالة سياسية، مفاداها أنه لا يمكن تفكيك أي من هذه المستوطنات، وهم يحاولون تقديم مؤشرات مضخّمة من أجل إبلاغ السياسيين بأن الوضع الديموغرافي في الضفة بحاجة إلى زيادة.
وتماشيًا مع طرح مدير عام التوثيق والنشر في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، فإن محلل خرائط إسرائيلي يُدعى شاؤول أرائيلي، وهو عضو وفد تفاوضي سابق، ذكرَ أن بيانات مجلس المستوطنات هي بيانات انتقائية، وفيها تزوير للواقع الديموغرافي في الضفة الغربية.
خريطة أولويات.. تشجيع الاستيطان بالضفة
طرحت الحكومة الإسرائيلية عام 2018 مشروعًا يحمل اسم “خريطة أولويات”، يشمل تقسيم التمويل للتجمعات السكنية الاستيطانية بالضفة الغربية، اعتبرت فيه الحكومة أن جميع المستوطنات تحصل على نسب تمويل عالية وامتيازات مرتفعة جدًّا.
الخطة التي تمَّ إقرارها بداية عام 2018 انتهت عام 2022، ثم تمَّ تجديدها نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني من بداية العام قبل أن تنتهي ويتم تجديدها خلال العام الحالي 2023، وبالتالي إن 95% من مستوطنات الضفة الغربية المحتلة تخضع لامتيازات خريطة الأولويات.
يعتبر الاحتلال أن هذا الطريق الالتفافي الجديد الذي تمَّ إقراره عام 2020 بمثابة تسهيل جديد سيسهّل ربط مستوطنات الضفة الغربية بمستوطنات الأراضي المحتلة عام 1948.
تعتبر “خريطة الأولويات” بمثابة خريطة الأفضلية الوطنية بالنسبة إلى “إسرائيل”، فوفق هذه الخريطة منحت وزارة البناء والإسكان الإسرائيلية تسهيلات تشمل التخطيط والبناء للمباني الجديدة وزيادة القروض للمستحقين وتقليل نسب الفائدة، وتمّت تغطية ما نسبته 20 إلى 70%.
وتتضمن هذه الخريطة مساعدة 586 تجمعًا سكانيًّا إسرائيليًّا غالبيتها مستوطنات بإجمالي مئوي يصل إلى 80%، وهي تجمعات أخذت تصنيف أولوية عليا بنسبة دعم تصل ما بين 50 إلى 80%، وهو أمر له علاقة بزيادة البناء في مستوطنات الضفة الغربية.
ويمنح الاحتلال في الخريطة الأفضلية للتجمعات الريفية وليس الحضرية، بالإضافة إلى البيوت المنفصلة وليس البيوت متعددة الطوابق، إضافة إلى شرط آخر يتمثل في المناطق الأكثر انحدارًا، بالإضافة إلى إنشاء الطرق الالتفافية الرامية إلى زيادة أعداد المستوطنين بالضفة.
ويعدّ طريق حوارة الالتفافي الذي يصل منطقة زعترة الواقعة إلى الجنوب الشرقي لمدينة بيت لحم بمستوطنات شمال الضفة الغربية، مشروعًا استراتيجيًا بالنسبة إلى خطة “المليون”، إذ يرى مجلس المستوطنات أن إنشاء هذا الطريق كفيل بتزويد المستوطنات بـ 250 ألف مستوطن جديد.
ويعتبر الاحتلال أن هذا الطريق الالتفافي الجديد الذي تمَّ إقراره عام 2020 بمثابة تسهيل جديد سيسهّل ربط مستوطنات الضفة الغربية بمستوطنات والأراضي المحتلة عام 1948، وهو ما سيسهّل تدفق المستوطنين خلال السنوات العشرة المقبلة من خلال هذا الشارع فقط.
هل اقترب “حلم المليون مستوطن”؟
يشكّك مدير عام التوثيق والنشر في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، أمير داوود، في أن يصل الاحتلال الإسرائيلي إلى هذا الأمر بحلول عام 2030، كونه أمرًا غير سهل رغم التسهيلات التي وُضعت أمام المستوطنين للقدوم إلى مستوطنات الضفة.
ويؤكد داوود أن الكثير من المستوطنات والمباني في الضفة فارغة رغم كل التسهيلات، ولحتى اللحظة لم تصل الحالة إلى مرحلة أن تصبح هذه التجمعات الاستيطانية جاذبة للمستوطنين من الأراضي المحتلة عام 1948، رغم خضوع ما نسبته 40% من الأراضي المحتلة عام 1967 لإجراءات احتلالية.
وقد يأخذ الأمر مزيدًا من الوقت بالنسبة إلى الإسرائيليين فيما يتعلق بالوصول إلى مرحلة المليون مستوطن في الضفة الغربية، إلا أن وصول الأحزاب الدينية إلى سدّة الحكم قد يقلب المشهد الديموغرافي، في ظل تولي شخصيات مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريش مناصب وزارية متقدمة في المشهد السياسي الإسرائيلي.
هذا الشارع سيُعزز مشروع الاستيطان في الضفة.
بدأ العمل على تطوير الشوارع لخدمة مستوطنات الضفة الغربية في تسعينيات القرن الماضي، وتوسّع أكثر بعد توقيع اتفاقية “أوسلو”، في محاولة لتوفير بدائل للمستوطنين عن الشوارع التي تمرّ في قلب التجمّعات الفلسطينية، إلا أن الاهتمام بتطوير بنية الاستيطان التحتية في الضفة وصلَ ذروته في السنوات الأخيرة.
وبالعودة إلى الوراء قليلًا، فإنه ومنذ العام 2015 تقريبًا تصاعدت الضغوط من قبل قادة مجالس المستوطنات في الضفة، للدفع قدمًا نحو شقّ المزيد من الشوارع أو تطوير الشوارع القائمة، وشملت تلك الضغوط لقاءات متكررة مع أصحاب القرار في الجهات المعنية، وكذلك اعتصامًا أمام مكتب رئيس الحكومة عام 2017 شمل إضرابًا عن الطعام.
كما شملت الضغوط دعاية مكثفة حول غياب الأمان لدى المستوطنين المسافرين عبر الشوارع المارّة بالقرب من المناطق الفلسطينية، وحول أزمات المرور التي تعيق الوصول إلى القدس أو تل أبيب، حيث مراكز العمل.
تلاقى هذا التحرُّك من قادة المستوطنات مع من يسانده، وذلك عندما عُيّن بتسلئيل سموتريش (عن حزب الصهيونية الدينية) وزيرًا للمواصلات في حكومة الاحتلال الـ 34، ما بين عامَي 2019 و2020.
وفي الحكومة التي تلتها (35)، ما بين عامَي 2020 و2021، عُيّنت ميري ريجيف (عن حزب الليكود) كوزيرة للمواصلات، ويُعرف كلا الوزيرَين بتوجهاتهما الاستيطانية، ولطالما تفاخرا في خطاباتهما بالجهد الذي بذله كلّ واحد منهما في سبيل شقّ الشوارع الجديدة في الضفّة.
ينسب سموتريش إلى نفسه العمل على الدفع نحو المصادقة على ميزانية شارع التفافي حوارة جنوب نابلس، وقد وقف على رأس بداية الأعمال في 27 فبراير/ شباط 2020، وقال: “هذا الشارع سيُعزز مشروع الاستيطان في الضفة”، وأسهب بوضوح أكثر: “إن من يريد أن يجلب مليون مستوطن هنا يجب عليه أن يمدَّ شبكة شوارع ومواصلات”.
السلطة الفلسطينية.. أوسلو جزء من النكبات
عند الحديث عن البناء الاستيطاني ومشروع المليون مستوطن، يجب الإشارة إلى اتفاقية أوسلو المبرمة بين منظمة التحرير والاحتلال عام 1993، وما تلاها من اتفاقيات أسهمت في تقسيم الضفة الغربية إلى مناطق “أ” و”ب” و”ج”، فضلًا عن قضم بعض الأراضي.
تشير بعض الإحصائيات الفلسطينية إلى أن أعداد المستوطنين عند توقيع اتفاقية أوسلو لم يكن يتجاوز 250 ألف مستوطن في مختلف مستوطنات الضفة، قبل أن يرتفع اليوم ليصل إلى 726 ألفًا في الضفة الغربية والقدس المحتلة متوزعين على 159 مستوطنة، عدا عن مئات البؤر الاستيطانية الأخرى.
وأمام حالة التجاهل في البناء الاستيطاني، لا يتوقف قادة السلطة عن خطاباتهم المتكررة في التلويح بـ”الذهاب إلى محكمة العدل العليا” أو الجنائية الدولية، أو تطبيق قرارات أقرّها المجلسان المركزي والوطني لمنظمة التحرير، التي تستخدمها السلطة كأداة ضغط على المجتمع الدولي.
في المقابل، لا تقدم السلطة الفلسطينية أي تسهيلات للفلسطينيين عبر حكوماتها المتعاقبة، سواء إعادة بناء ما دمّره الاحتلال أو تقديم رعاية مالية خاصة لمواجهة الاستيطان وهجمات المستوطنين، وهو ما يتضح في الهجمات التي تعرّضت لها كل من عوريف وحوارة وترمسعيا وغيرها من المناطق الفلسطينية.
علاوة على ذلك، تكتفي الجهات الرسمية فقط بحالة التوثيق والتنديد، دون أن تعمل على إعادة تشكيل مجموعات الحماية الشعبية أو تفعيل القيادة العليا للمقاومة الشعبية، التي سبق وأن اتفقت عليها الفصائل الفلسطينية خلال جولات المصالحة المتكررة.
أمام هذه السيناريوهات، لا يمنع الواقع الحالي بأي حال من الأحوال وصول الاحتلال إلى مشروع مليون مستوطن، من خلال ما يقدمه من امتيازات لخريجي مستوطنات الضفة وإغراءات مالية وإعفاءات جمركية وضريبية وشق للطرق، وغيرها من القرارات اليومية التي تستهدف ضمّ الضفة.