يبدأ السوريون خلال هذه الأيام من شهر أيار، بإنتاج محصول “الفريكة”، المشهورة في الموائد السورية، وحتى العربية، والذي يظهر في طبخ “المناسف” التي تتمتع بتراث عربي بامتياز، ويسود جني المحصول أجواءً ريفية جميلةً تعتمد على الفطرة، وتوضح مدى التعاون الأسري بين الرجال والنساء، والترابط الاجتماعي، بين المجتمعات التي تعمل في جني المحصول، فضلًا عن تأمين فرص عمل لبعض العائلات الفقيرة لمدة محدودة، والتي تعود عليها بدخل جيد يؤمن الاحتياجات التي لا يستطيعون تأمينها في الأيام العادية بعد خروجهم من شتاءٍ قاسٍ.
الفريكة أو “الفريك”
تعتبر الفريكة إحدى المكوّنات التي يتم إنتاجها من حبوب القمح أو الحنطة الخضراء، قبيل جفافها، في وقت معين ضمن شهر أيار، الشهر الأخير من فصل الربيع، في كل عام، يتجه الفلاحون إلى حقولهم لمتابعة حجم حبة القمح ومدى الدرجة التي وصلت إليها في النمو للبدء في إنتاج محصول “الفريكة”.
وتحضر الفريكة في الموائد العربية بشكل متميز منذ زمن بعيد، وعلى وجه الخصوص في بلاد الشام والعراق ومصر والجزائر، وثم انتشرت في العالم بشكل واسع من خلال تنقل الخبرات العربية في إنتاج هذا المحصول، وطريقة الحصول عليه، وانتقال كيفية تحضيره إلى الموائد الأوروبية، وذلك بعد تعرفهم على القيمة الغذائية التي يحتويها هذا المنتج.
وتقول إحدى الروايات، بعضها محلية، أنه تم اكتشاف “الفريكة” وكيفية الحصول عليها عندما هجم “الأعداء” على الحقول الزراعية في الشرق الأوسط وحرقوها، عندها كان القمح غير ناضج ومكتسٍ باللون الأخضر، لذا أجبر الفلاحون على التخلص من السنابل الخارجية للقمح وتناول القمح المحروق.
وبحسب ما تؤكد الروايات من خلال ذلك تم اكتشاف “الفريكة”، وابتدأ الطباخون التفنن في طرق تحضيرها وطهيها مرفقة باللحوم الحمراء، وأحيانًا مع اللحوم البيضاء، كالدجاج، ولها أجواءها الخاصة. عادًة ما تقترن الفريكة بالعزائم، والولائم التي تقيمها العائلات للأقرباء والضيوف من الغرباء.
طريقة الانتاج
زار “نون بوست” حقول القمح في ريف حلب الشمالي على مقربةٍ من بلدة احتيملات، التي يعمل غالبية سكانها في إنتاج “الفريكة”، والتقى “نون بوست” خلال الزيارة عدة شخصيات تقوم بجني المحصول بطريقة بدائية، وخلال الحديث مع مدير المشروع الحاج محمود الحمدي 50 عامًا، قال: “تعتبر الفريكة إحدى المحاصيل الزراعية التي تعمل بها عائلتي في بلدة احتيملات، منذ عهد والدي ولأبنائي الآن مشاريعهم الخاصة”.
وأضاف: “خلال شهر أيار تنضج حبوب القمح، وقبيل جفافها نبدأ بتقصيل السنابل، عبر الحصادة المخصصة لذلك، ثم تفرغ الحصادة حمولتها في مكان من الأرض الزراعية”. ويبدأ العمال صباحًا في نشر السنابل التي أفرغتها الحصادة، على شكل خطوط، تسمى بـ “السرب” لتجفيفها عند ذروة ارتفاع درجات الحرارة ظهرًا، وتعرضها للرياح.
عملية حصاد الفريكة
وبعد تجفيف السنابل وتعرضها لحرارة الشمس وجفافها، يعود العمال إلى الحقل عصرًا، وتبدأ عملية حرق السنابل في “المنشر” أو الحقل، من خلال عمال وفلاحين يطلق عليهم بـ “الحراقين”، ويقود المعلم في الحرق “السرابة” ويكمن عمله في استمرار اشتعال النار وتتبعها، بينما يتجمع حوله عدد من العمال، يقومون بتحريك النيران لإحراق أكبر كمية ممكنة من قشور القمح في آلة زراعية تسمى بـ “المدراية”.
ويقع على عاتق النساء اللواتي يشاركن في عملية حرق “الفريكة” جمع السنابل التي حرقها العمال على شكل أكوام، أو ما يعرف بـ “البيدر”، وتقول خديجة لـ “نون بوست”: “هذا الجانب من إنتاج الفريكة يتطلب خبرة بسيطة لذلك توكل للنساء”، وتضيف: “نجمع قشور القمح المحروقة بـ “المشاطة”، ثم نقوم بوضعها على قطعة قماش كبيرة”، وبعد ذلك تأتي الفتيات الشابات بحملها ونقلها إلى “البيدر”.
النساء تشارك في عملية انتاج الفريكة
وبعد الانتهاء من حرق وجمع السنابل، يجتمع العاملون في الحقل رجالًا ونساء، وتبدأ عملية تنظيف “البيدر” من الشوائب وبقايا التراب، وذلك من خلال رفع قِدرٍ من السنابل في الهواء وإفراغه بشكل بسيط، وتدعى هذه العملية “التدراية”. ثم تأتي عملية فرز حبوب الفريكة عن القشور، بآلة يطلق عليها “الفرازة”، يقوم العاملون فيها بتعبئة المحصول في أكياس من “الخيش”، وفي حال عدم استطاعة الفرازة بعزل الشوائب تنقل إلى غرابيل كهربائية حديثة في ريف حلب.
تحديات.. وآمال
يواجه العاملون في إنتاج محصول الفريكة مشاكل وتحديات عديدة وعلى الرغم من ذلك فإنهم مستمرون في عملهم، ويقول الحاج محمود الحمدي لـ “نون بوست”: “تواجه مهنة إنتاج الفريكة معوقات عدة أدت إلى توقف الكثير من الفلاحين عن إنتاج هذا المحصول”، ويضيف: “العام الفائت خسرت عدة مشاريع نظرًا لقلة الأمطار وضعف حبة الفريكة مما أثر على انخفاض سعرها”.
وأوضح: “يتأثر الفلاح بشكل خاص في التغيرات الجوية لكن هذا العام الأمطار وفيرة جداً، مما سينعكس على محصول الفريكة والذي سيرفع من قيمته في حال لم نتعرض لاستغلال التجار”، وذكر الحمدي: “هناك عدة أنواع تمنح السعر للكيلوغرام من الفريكة، فمنها الممتاز ذات الحبوب الناصحة، ومنها الجيد والوسط ومنها الضعيف”. وسجل سعر الكيلو غرام من الفريكة 600 ليرة سورية العام الفائت من النوع الممتاز، ما يعادل دولارًا أمريكيًا، بينما ابتاع التجار من المزارعون بسعر قليل جدًا نظرًا لضعف النوع الإنتاجي.
ويتوقع الفلاحون في ريف حلب الشمالي محصولاً جيداً هذا العام، لكنهم يشتكون من قلة تصريف إنتاجهم نظراً لوقوعهم في منطقة ضيقة تمنعهم من التبادل التجاري والتصدير إلى المحافظات السورية الأخرى، التي تعتمد على إنتاج الشمال السوري الغني بزراعة الحبوب، وأهمها القمح.
وقال محمد الأحمد المشرف على العمال في الحقل الزراعي، لـ “نون بوست”: “إن الأجور غالية جدًا من ناحية العامل، وحتى من جانب الحصادة و “الفرازة”، بسبب ارتفاع أسعار المحروقات، التي تعتمد عليها بشكل رئيسي”، وعلى الرغم من التحديات استبشر الأحمد قائلًا: “الموسم جيد إن شاء الله سنتمكن من تحمل النفقات”.
ويأمل الفلاحون بإنتاج ممتاز لتغطية النفقات التي صرفت على الأرض الزراعية، ويتجه المزارعون إلى إنتاج الفريكة نظرًا لتحقيقها مرابح أفضل من حبوب القمح، في وقت موسمها. من جانبه قال مدير مكتب الزراعة التابع للمجلس المحلي في مدينة مارع المهندس علي النجار لـ “نون بوست”: “محصول الفريكة مهم، ويستخدم في موائد الطعام، ولكنه ليس رئيسيًا كالقمح الذي يستخدم لإنتاج الخبز، لذلك نحاول اقناع المزارعين بعدم انتاج الفريكة”، ويعتبر الخبز من العناصر الرئيسية التي تعتمد عليها الموائد في الشمال السوري.
فرصة عمل
يجلس في ظل “البيدر” في استراحة قصيرة، يتحدث فيها مع أصدقائه في العمل، يقول عمر العلي 32 عامًا، من بلدة احتيملات، خلال حديثه لـ “نون بوست”: “في الحقيقة أنه ليس لدي عمل دائم فأنا أعتمد على العمل الحر، وكثيرًا ما أجلس في المنزل دون عمل”، وأضاف: “لدي أسرة أربعة أطفال وزوجتي، لم أستطيع الدراسة لأحصل على وظيفة بسبب حياتنا الريفية باعتبار بلدتنا بعيدة عن مركز المدينة”.
وكان عمل عمر قبل سنوات في “العتالة” التي كانت تعود عليه بمردود جيد خلال المواسم الصيفية، وحتى خلال الشتاء لأنه كان يعمل مع أحد التجار، وعندما أصبحت المحاصيل الزراعية تنتج بشكل ضعيف، ترك العمل وجلس في المنزل، مما دفعه إلى انتظار المواسم الصيفية لتأمين قوت أطفاله.
وأوضح: “أعمل كمعلم في الحرق، وتقدر اليومية التي أحصل عليها 15 ألف ليرة سورية، بينما يحصل العامل العادي على 5 ألاف ليرة، خلال اليوم الواحد”، واعتبر عمر العلي أن العمل رغم مشقته فهو المصدر الوحيد، لرزقته في هذا الشهر، وتبسم قائلًا: “سأشتري لأبنائي ثياب العيد عندما أحصل على أجري من رب العمل”.
إلى الخلف قليلًا تقف أم أيمن 35 عامًا، من البلدة ذاتها تعمل في جمع سنابل الفريكة في الحقل، مع صديقات أخريات لها في العمل قالت لـ “نون بوست”: ” إنني أرملة ولدي سبعة أطفال صغار في المنزل، وأعمل هنا لأستطيع تأمين الطعام لهم”.
وأضافت: “زوجي قتل في قصف سابق للبلدة من قبل تنظيم “داعش”، والآن أصبحت المعيلة الوحيدة لأطفالي”. وتقضي أم أيمن مع صديقات لها أكثر من 10 ساعات في العمل لتحصل على أجر يقدر بـ 5 ألاف ليرة سورية في اليوم الواحد باعتبارها عاملة عادية، ما يعادل 10 دولار أمريكي.
وقدم موسم إنتاج “الفريكة” خلال هذا العام فرص عمل موسمية للعائلات الفقير والمحدودة الدخل، والذي سيمكنها من تدبر قوتها، لأيام قليلةٍ جدًا، وفي هذا الحقل الذي زاره “نون بوست” يعمل أكثر من خمسين شخصًا بينهم رجال ونساء، وحتى أطفال يافعين يعملون دون تردد للحصول على لقمة عيشهم، وتأمين الحاجات التي تنقص أسرهم، كما يقال: “بعرق جبهتهم”.