تتسارع خلال الساعات الأخيرة وتيرة الأخبار والمعلومات المتداولة عن قرب التوصل إلى اتفاق تبادل أسرى ووقف إطلاق النار في قطاع غزة، وسط أجواء وصفتها جميع الأطراف، حماس وحكومة الاحتلال والوسطاء، بالإيجابية، فيما يُمني الفلسطينيون والإسرائيليون أنفسهم باتفاق يُنهي تلك المعاناة المستمرة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
من الدوحة إلى القاهرة مرورًا بتل أبيب وواشنطن، حراك دبلوماسي مكثف يبذله الوسيطان المصري والقطري برعاية أمريكية، من أجل فرض التهدئة وإنهاء الحرب التي دخلت يومها الـ 439، قبل تسلم الرئيس الأمريكي الفائز، دونالد ترامب، السلطة رسميًا في 20 يناير/ كانون الثاني المقبل.
ورغم تلك الأجواء الإيجابية التي يعتبرها البعض هي الأفضل منذ بداية الحرب، والمدفوعة بحزمة من المحفزات والمخاوف، إلا أن التعويل عليها للتوصل إلى اتفاق نهائي مسألة غير محسومة، في ظل وجود شخصية مثل بنيامين نتنياهو على رأس الحكومة التي يسيطر عليها اليمين المتطرف، الذي اعتاد عرقلة مثل تلك التحركات بإشهار ورقة الانسحاب من الائتلاف الحكومي في وجه رئيس الوزراء المأزوم.
حراك دبلوماسي مكثّف
شهدت الساعات الـ 48 الأخيرة حراكًا دبلوماسيًا مكثفًا في مسار التوصل لاتفاق لإنهاء القتال في غزة، ووقف إطلاق النار وتبادل الأسرى لدى المقاومة وفي سجون الاحتلال:
– يتوجه مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية “سي آي إيه” وليام بيرنز، إلى الدوحة الأربعاء 18 ديسمبر/ كانون الأول 2024، حيث يلتقي رئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في محاولة لحلّ النقاط العالقة بمفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، حسبما ذكرت وكالة “رويترز”، التي نقلت عن مصدر خاص بها أن المسؤولَين سيناقشان سبل إحراز تقدم بشأن الاتفاق.
– أجرى ترامب محادثة هاتفية مع نتنياهو، مساء الاثنين 16 ديسمبر/ كانون الأول 2024، جرى خلالها بحث وقف الحرب على غزة واستعادة الأسرى الإسرائيليين، فيما وصف المحادثة بأنها “جيدة للغاية”، في حين قال متحدث باسم نتنياهو إن الرئيس الأمريكي المنتخب أبلغ رئيس الوزراء الإسرائيلي بأنه يريد أن يرى الحرب تصل إلى نهايتها.
جهود دبلوماسية مكثفة بوساطة مصرية قطرية تركية تحيي مفاوضات #الهدنة بين إسرائيل وحماس. تقارير #أميركية تكشف عن احتمالات اتفاق يشمل إطلاق سراح الرهائن ونقل قادة حماس خارج #غزة. فما هي كواليس هذه المفاوضات؟ وما البنود المحتملة لهذا الاتفاق؟ pic.twitter.com/JN1lsdNVG0
— DW عربية (@dw_arabic) December 10, 2024
– تشير التوقعات إلى زيارة وفد من حركة حماس للقاهرة خلال الساعات المقبلة لاستكمال المناقشات حول النقاط العالقة في الاتفاق، وهو ما يتزامن كذلك مع زيارة الوفد الإسرائيلي، علمًا أن الوفدَين كانا في العاصمة المصرية قبل أيام، في إطار اجتماعات تقليل الجفوة التي تقودها القاهرة إلى جانب الدولة لتذليل الخلافات بين الطرفين.
– تعددت التقارير التي تشير إلى عقد لقاءات وإجراء اتصالات بين مسؤولين مصريين وإسرائيليين وقطريين وأمريكيين خلال الساعات الماضية، لبحث النقاط الخلافية، فيما تفتح القاهرة خط اتصال مستمرًّا مع قيادات حماس والجهاد لتقريب وجهات النظر، فيما أبدى الجميع تفاؤلًا بشأن مسار المفاوضات هذه المرة مقارنة بالمرّات السابقة.
تفاؤل حذر
– قالت حماس على لسان قياديها، إن الاجتماعات التي استضافتها الدوحة والقاهرة مؤخرًا كانت بنّاءة، وأن الأجواء أكثر إيجابية ممّا كانت عليه سابقًا، لافتة إلى أن مشاركة الحركة في تلك الجولة تتميز بالمرونة والتعاطي بنظرة أوسع لإنهاء الحرب.
فيما قالت حماس في بيان نشرته على منصة تيليغرام يوم الثلاثاء 17 ديسمبر/ كانون الأول 2024، إنها تؤكد “في ظل ما تشهده الدوحة اليوم من مباحثات جادة وإيجابية برعاية الإخوة الوسطاء (في البلدين) القطري والمصري، فإن الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى ممكن إذا توقف الاحتلال عن وضع شروط جديدة”.
– تقارير عبرية عديدة نقلت عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إن هناك تقدمًا كبيرًا وأجواء إيجابية في محادثات وقف إطلاق النار في غزة وتبادل الأسرى، وأن المزاج العام الراهن في تل أبيب، سياسيًا وشعبيًا، يميل إلى إبرام صفقة تبادل في ظل الضغوط المستمرة من عائلات الأسرى من جانب وضغوط الإدارة الأمريكية من جانب آخر، فضلًا عن تطورات المشهد الميداني في ظل إصرار المقاومة على تحويل المعركة لحرب استنزاف طويلة الأمد.
– الوسطاء في القاهرة والدوحة يشيرون إلى إيجابية المفاوضات والاقتراب من التوصل لاتفاق في ظل جهود تذليل الفجوة بين الطرفين، فيما نقلت شبكة “سي إن إن” عن مسؤول أمريكي قوله: “نعتقد أن صفقة التبادل أقرب من ذي قبل، لكن هناك نقاط خلاف قائمة بين إسرائيل” وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، أما المتحدث باسم الخارجية الأميركية فعلّق قائلًا: “وصلنا إلى نقطة ينبغي أن نتمكن خلالها من التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة” مضيفًا: “تم تضييق الخلافات بشأن اتفاق وقف إطلاق النار، وينبغي أن نتجاوز ما تبقى منها”.
ملامح الصفقة المرتقبة
عدة تسريبات كشفتها وسائل إعلام عبرية حول تفاصيل الاتفاق المقترح والمطروح على طاولة النقاش حاليًا، وهي التسريبات المبنية على المصادر الخاصة المطّلعة على عملية التفاوض، وعليه ليس هناك أي مؤكد حتى كتابة تلك السطور.
ومن أبرزها ما نشره موقع “واينت” العبري، الذي أشار إلى أن الاتفاق يتضمن 3 مراحل، الأولى ستشمل وقف إطلاق نار في غزة لمدة 7 أسابيع، وخلال هذه الفترة ستجري مفاوضات حول المرحلة الثانية، التي سيتم فيها إطلاق سراح جميع الرجال والجنود وإعادة جثامين المحتجزين الإسرائيليين في القطاع، أما في الثالثة فسيتمّ إطلاق سراح عدد كبير جدًّا من الأسرى الفلسطينيين، دون تحديد العدد بشكل دقيق.
أما المراسل السياسي للقناة العبرية (i24news) غاي عزرئيل، فاستعرض التفاصيل الكاملة للصفقة التي تتشكل والفجوات المتبقية، والتي تنقسم إلى 3 مراحل:
المرحلة الأولى: تمتد لحوالي 6 أسابيع يتم خلالها الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين المدنيين والمجندات الأحياء والأموات، في المقابل ستُفرج حكومة الاحتلال عن مئات الأسرى الفلسطينيين، وستشرع فورًا بإدخال المساعدات لقطاع غزة، وستسحب قواتها من محور فيلادلفيا، على أن تبقى بعض القوات في المنطقة الشرقية لمعبر رفح، مع انسحاب جزئي من محور نتساريم، وتدريجي من داخل المخيمات والمدن بالقطاع، بجانب السماح بعودة النازحين إلى شمال قطاع غزة مع وجود آليه رقابه إسرائيلية، لضمان عدم عودة نشطاء الفصائل أو مسلحين إلى شمال القطاع.
المرحلة الثانية: سيتمّ خلالها تبادل جميع الأسرى الإسرائيليين العسكريين الأموات والأحياء، مقابل إفراج “إسرائيل” عن عدد “لم يتم التوافق عليه بعد” من الأسرى الفلسطينيين، من بينهم 100-150 أسير من ذوي الأحكام المؤبدة، ولن يكون منهم قادة بارزين مثل مروان البرغوثي وأحمد سعدات ونائل البرغوثي، فيما لا يزال النقاش جاريًا حول مصير الأسرى المفرج عنهم، في ظل مطالبة “إسرائيل” بترحيلهم إلى دوله ثالثة، وخلال هذه المرحلة سيستكمل جيش الاحتلال انسحابه من مناطق قطاع غزة، ليبقى فقط في المناطق الحدودية شرق وشمال القطاع.
المرحلة الثالثة: سيتمّ خلالها الإعلان عن انتهاء الحرب والبدء بإجراءات رفع الحصار عن غزة وفتح المعابر، مع الشروع بإعادة تأهيل وبناء القطاع، بما في ذلك الترتيب لمؤتمر دولي للمانحين لإعمار غزة بشكل كامل، ويتوقع أن يستغرق هذا الأمر فترة زمنية طويلة.
مصادر فلسطينية مطلعة على سير المفاوضات لـ"الشرق": المرحلة الأولى من اتفاق وقف النار تستمر 6 أسابيع يتم خلالها إطلاق سراح رهائن إسرائيليين وبدء إدخال المساعدات الإنسانية للقطاع
#الشرق_للأخبار pic.twitter.com/VKFsvelWCN— Asharq News الشرق للأخبار (@AsharqNews) December 17, 2024
نتنياهو.. ما زال العقبة الأبرز
رغم الأجواء الإيجابية التي تخيّم على المفاوضات والحديث عن انفراجة وشيكة بشأن التوصل لاتفاق وصفقة تبادل، بلُغة هي الأولى من نوعها منذ بداية الحرب من حيث مستوى الأمل والتفاؤل، إلا أن الحذر يفرض نفسه على تصريحات المسؤولين في حماس والوسطاء، بما فيهم الولايات المتحدة التي تتخوف من عرقلة نتنياهو ويمينه المتطرف لهذا التقدم والعودة للمربع صفر مرة أخرى.
وتمارس كل من إدارتَي بايدن الحالية وترامب القادمة ضغوطًا على حكومة نتنياهو لإنهاء هذا الملف، الذي بات يشكل صداعًا مدويًا في رأس الولايات المتحدة، التي لم تتخلَّ يومًا عن دعمها للكيان المحتل في تلك الحرب الإجرامية، فيما قدمت المقاومة عدة تنازلات وأبدت مرونة غير مسبوقة، من أجل وقف نزيف معاناة الفلسطينيين المستمر لأكثر من 14 شهرًا.
وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، وفي تعليقه على جولة المفاوضات الحالية والحديث عن اقتراب التوصل لاتفاق، قال إن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو “يعرف تمامًا خطوطنا الحمر”، مضيفًا في تصريحات لصحيفة “إسرائيل اليوم” أن صفقة التبادل المطروحة حاليًا لا تخدم أمن إسرائيل، مشددًا على أن الوقت ليس لمنح “حركة حماس طوق نجاة”، بل يجب مواصلة الضغط عليها “وسحقها” حتى تقوم بإعادة المحتجزين، على حد وصفه.
ويمارس سموتريتش ورفيقه المتطرف وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ضغوطًا قاسية على نتنياهو لإثنائه عن أي خطوة في مسار إنهاء الحرب وإبرام صفقة تبادل، شاهريَن في وجهه سلاح الانسحاب وإسقاط الائتلاف الحكومي، بما يعرّض مستقبل رئيس الحكومة الملاحق قضائيًا للخطر، وهو السلاح الذي ساهم بشكل كبير في إفشال جهود الحل السياسي في غزة حتى اليوم.
تصعيد في الشمال والمقاومة تلجأ لحرب الاستنزاف
بينما يبلغ مسار المفاوضات مستويات متقدمة، يواصل جيش الاحتلال حرب الإبادة والتهجير والتجويع بحقّ عشرات الآلاف من الفلسطينيين في شمال القطاع، لليوم الـ 75 على التوالي، حيث محاصرة سكان جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا منذ 5 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ما أدى إلى ارتقاء 4 آلاف شهيد وإصابة 12 ألف آخرين، فضلًا عن اعتقال أكثر من 1750 فلسطينيًا.
ويسابق المحتل الزمن لتنفيذ مخطط التهجير القسري لسكان الشمال، تمهيدًا لتحويلها إلى منطقة أمنية عازلة مفصولة عن بقية القطاع فيما يعرف بـ”خطة الجنرالات”، مقابل إصرار واستبسال من الفلسطينيين المتشبّثين بمنازلهم، والرافضين للخروج منها رغم آلة التدمير والقتل الإجرامية، الأمر الذي أبطأ وعرقل المخطط الإسرائيلي طيلة الـ 14 شهرًا الماضية.
وركّز الاحتلال على استهداف كافة مقومات الحياة شمال القطاع، فقصف المدارس ودمّر الطرقات وأجبر الأهالي على التقوقع داخل منازلهم وعدم الخروج للشوارع، وفي الجهة الأخرى فرض عليهم حرب تجويع ممنهجة، فمنع دخول المساعدات واستهداف المخابز، وفي الأخير قضى على كل احتمالات العلاج والتداوي، ففجّر مستشفى العودة وواجهات وأقسام مستشفى كمال عدوان.
بالتوازي مع ذلك، بدأت المقاومة الفلسطينية في التصعيد من عملياتها النوعية ضد قوات الاحتلال شمال وجنوب القطاع، لتحول الوضع إلى حرب استنزاف كاملة تكبّد خلالها جيش المحتل الخسائر تلو الأخرى، حيث تنوعت تلك العمليات ما بين قنص وتفخيخ مسبق واشتباك من المسافة صفر، في إعداد مختلف لمسرح العمليات مع الجيش الإسرائيلي بأدوات وتكتيكات تراعي التطورات الميدانية، وتعوض المقاومة من خلالها حجم الفارق الكبير في موازين القوى بينها وبين جيش الاحتلال.
في الأخير، يحبس الفلسطينيون والإسرائيليون أنفاسهم ترقبًا لاحتمالية إبرام صفقة تبادل تُنهي تلك المعاناة الأطول في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وسط تكثيف للجهود الدبلوماسية المبذولة لإنهاء القتال قبل تولي ترامب السلطة رسميًا في يناير/ كانون الثاني المقبل، فيما يظل نتنياهو ومن خلفه اليمين المتطرف العقبة الوحيدة في مواجهة إتمام الاتفاق، فهل تكون للضغوط والتطورات الميدانية والسياسية الأخيرة دور هذه المرة، أم ينجح سموتريتش وبن غفير كالعادة في سحب رئيس الحكومة إلى طاولتهما مجددًا؟