ترجمة وتحرير: نون بوست
يوجد مبنى كبير وبارز بأبراجه الأسطوانية، فوق التلة الحادة في ميرتولا، وهي مدينة في جنوب البرتغال على ضفاف نهر غواديانا، غير بعيد عن الحدود الإسبانية. فهل هذا المبنى هو كنيسة أم محراب؟ هل هو مسجد وضع فوقه الصليب؟
هذا المبنى المغطى باللون الأبيض والمميز بأقواسه التي تشبه في شكلها حدوة الحصان، معروف باسم كنيسة نوسا سينهورا دي أسينسياساو. وأولئك الذين يأتون لزيارة معالمه الهامة يقال لهم إنه المسجد الأكثر احتفاظًا بمعالمه ومميزاته في البرتغال، منذ العصور الوسطى.
داخل هذه الكنيسة التي كانت في ما مضى مسجدا، لا يزال المسيحيون يصلون وهم متجهون نحو مدينة مكة
ويقول جيرمانو فاز، وهو من أبناء مدينة ميرتولا ويعيش قرب المسجد: “إن هذا المبنى هو خليط من عدة أشياء. فقد تم بناؤه فوق معبد روماني. وقد كان في الماضي مسجدًا وهو الآن كنيسة. ونحن فخورون جدًا بهذا التنوع الديني والثقافي”.
وداخل هذه الكنيسة التي كانت في ما مضى مسجدًا، لا يزال المسيحيون يصلون وهم متجهون نحو مدينة مكة. إذ أن المحراب، وهو تجويف نصف دائري في الجدار، يوجد مباشرة وراء المذبح الرئيسي.
كما أن برج الجرس يقف في المكان الذي كان قبل أقل من ألف سنة مئذنة تتم من خلالها الدعوة لصلاة المسلمين.
هندسة معمارية إسلامية لا تزال على حالها داخل الكنيسة
ويذكر أنه خلال الفترة من القرن الثامن إلى القرن الثالث عشر، كانت أغلب أجزاء ما يعرف الآن بالبرتغال وإسبانيا تخضع لسيطرة المسلمين. هذه المنطقة المعروفة باسم الأندلس، أصبحت مركزًا للتبادل الثقافي، ازدهرت فيه العلوم والعمارة والفنون.
وما داموا يعترفون بهذا الحكم الإسلامي، كان المسيحيون واليهود في أغلب الأوقات يحظون بالحماية والتسامح. وكانت الأديان الثلاثة تتعايش بشكل سلمي نسبيًا في جنوب البرتغال، وهي المنطقة المعروفة بغرب الأندلس.
ولا تزال البرتغال إلى الآن غنية بآثار ماضيها الإسلامي، من العمارة إلى التأثيرات العربية على اللغة والموسيقى البرتغالية.
العيش المشترك ممكن
في منتصف شهر مايو/ آيار، أمكن مجددًا سماع صوت الأذان والدعوة للعبادة في شوارع مدينة ميرتولا. هذا الصوت لم يأت من البرج الذي عوض المئذنة التي كانت قائمة في القرون الوسطى، بل من مكبرات صوت وضعت في أنحاء المدينة خلال الدورة العاشرة للمهرجان الإسلامي في ميرتولا.
ويقول مانويل ماركيس، مدير مكتب ميرتولا للثقافة والتراث: “من خلال هذا المهرجان نريد أن نظهر أنه لا تزال هنالك نقاط اشتراك بين الناس في مختلف مناطق البحر الأبيض المتوسط.”
الكثير من الفنون والحرف اليدوية والأدوات التقليدية يمكن إيجادها في السوق.
ويضيف مانويل ماركيس: “في ظل تصاعد موجات التطرف وعدم التسامح في أنحاء العالم، نريد أن نظهر أن العيش المشترك ممكن. إن ميرتولا كانت مثالا رائعا للتعايش، وقد سكنت مجموعات مختلفة من الناس في هذه المدينة.”
ويشار إلى أن المسلمين وصلوا هنا في القرن الثامن، وحكموا المنطقة لمدة 500 سنة، ولا تزال معالم المدينة القديمة تحمل صبغة إسلامية.
كما يقول ماركيس: “إن ميرتولا تحتفي بتراثها الإسلامي بكل فخر. نريد أن نظهر الاحترام للإسلام ولميراثنا المشترك. إن هذه المدينة كانت دائما مكانا لتلاقي الثقافات المتعددة والتواصل بين جنوب البرتغال وبقية أرجاء المتوسط”.
في فترة العصور الوسطى، أصبحت ميرتولا بفضل مينائها وثرائها بالمعادن مركزا إقليميا مهما.
وقد دأب هذا المهرجان على الاحتفاء بالتراث الإسلامي في البرتغال، من خلال إقامة فعاليات الموسيقى والفن والحرف اليدوية وورشات عمل والمعارض منذ 2001.
الحفاظ على التراث الإسلامي
ويقول خورخي ريفيز، الذي شارك في تنظيم النسخة الأولى من هذا المهرجان: “نريد استكشاف نقاط التشابه بين البرتغال ومنطقة شمال إفريقيا.”
ويشار إلى أن ريفيز الذي يشغل الآن منصب رئيس جمعية الدفاع عن تراث ميرتولا، عمل سابقا مع جمعيات مغربية للحفاظ على التراث الثقافي في الأندلس.
الأقواس هي أبرز مثال على فن العمارة الإسلامي
وفي فترة العصور الوسطى، أصبحت ميرتولا بفضل مينائها وثرائها بالمعادن مركزًا إقليميًا مهمًا. وبعد فترة من التراجع، استعادت المدينة حيويتها بعد اكتشاف قطع أثرية إسلامية في سبعينات القرن الماضي. والآن تفتخر المدينة بأنها تضم أهم مجموعة من قطع الفن الإسلامي في البرتغال.
وفي أمسية يوم الجمعة، اجتمعت حشود من الناس قرب النهر للاستماع إلى الفرقة الفلسطينية البريطانية، 47soul، التي تغني بالعربية والإنجليزية، وتجمع بين الموسيقى المشرقية التقليدية والأنماط الحديثة لخلق موسيقى يسمونها “shamstep“.
وقد حضر موسيقيون من الجزائر وتونس والنيجر، وجمعوا أناسًا من مختلف الخلفيات لقضاء الأمسية والاستمتاع بالرقص، وصدحت خلالها أصوات العود التقليدي، إلى جانب الغيتار الكهربائي وآلات أخرى حديثة، في ضفاف نهر غواديانا.
فهم الماضي الإسلامي واليهودي
في العام 1496، أصدر مانويل الأول ملك البرتغال مرسوما يقضي بطرد كل اليهود والمسلمين من مملكته. وقد بدا أن التعايش المشترك والتعاون في الأندلس أصبح من الماضي.
واليوم يشكل المسلمون أقل من 0.5 بالمائة من السكان البالغ عددهم 11 مليون. وعلى مدى عقود ظل التراث الإسلامي في البرتغال منسيا.
ليلى وعلى وجهها ابتسامة عريضة أثناء بيع السلع التقليدية في السوق
وتقول عالمة الأنثروبولوجيا ماريا كارديرا دا سيلفا، الأستاذة في جامعة نوفا في لشبونة، والمهتمة بالدراسات العربية والإسلامية: “أثناء فترة الدكتاتورية تم محو التاريخ الإسلامي”.
إذ أن الدكتاتورية القومية المسيحية التي حكمت البرتغال من 1933 إلى 1974 سعت لتصوير المسلمين، المعروفين بتسمية المور أو المغاربة، على أنهم “العدو”. وبعد نهاية الدكتاتورية شهدت البرتغال فترة اهتمام بمنطقة الأندلس، وهو ما ساعد على إعادة تثمين الماضي الإسلامي.
البحر الأبيض المتوسط المشترك
وتقول ماريا كارديرا دا سيلفا: “إن أعمال التنقيب الأثري التي تم إنجازها في ميرتولا مثلت تحديا لفكرة أن المسلمين يمثلون الآخر. وأظهرت لنا أن تاريخنا مكون من عدة طبقات مختلفة ومترابطة فيما بينها، وأن الطبقة الإسلامية هي جزء منه، وهي تدخل ضمن هويتنا”.
الإسلام وصل إلى البرتغال بشكل تدريجي عبر التجارة، ولم يتم فرضه في المعارك التي تم توثيقها من قبل المؤرخين.
ويشار إلى أن الأعمال الرائدة التي أنجزها عالم الآثار كلاوديو توريس، هي التي ساهمت في دحض الأكاذيب بشأن” الغزاة العرب المسلمين” التي تم الترويج لها عبر التاريخ.
هذه الأبحاث التي قام بها كلاوديو توريس في المجال الأثري في ميرتولا”، أثبتت حالة الاستمرارية الحضارية التي شهدها البحر الأبيض المتوسط. وقد أكد هذا الباحث أنه خلافا لما هو شائع من اعتقاد، فإن الإسلام وصل إلى البرتغال بشكل تدريجي عبر التجارة، ولم يتم فرضه في المعارك التي تم توثيقها من قبل المؤرخين.
وفي نفس السياق يقول عالم الآثار فيرجيليو لوبيس، الذي عمل في مدينة ميرتولا لأكثر من 30 سنة: “إن علم الآثار يساعدنا على التركيز على الاستمرارية التاريخية، في التواصل والتفاعل بين الشعوب في مختلف ضفاف البحر الأبيض المتوسط”.
عالم الآثار فيرجيليو لوبيس يؤمن بالماضي المشترك
ويؤمن علماء الآثار في ميرتولا بأن الإسلام انتشر في جنوب البرتغال عبر موانئها، وأنه توسع بسرعة كبيرة بفضل اعتناق هذا الدين وليس بسبب الغزوات العنيفة.
وهكذا فإن نظرية كون الإسلام جاء عبر التجارة والاعتناق الطوعي، وأعمال علماء الآثار التي ركزت على الاستمرارية والتواصل بين مختلف ضفاف المتوسط، كلها ساهمت في التشكيك في الرواية التاريخية القومية التي كانت سائدة، والتي صورت المسلمين على أنهم يمثلون “الآخر”.
وفي هذا السياق يقول لوبيس: “إن علم الآثار يظهر لنا أن الآخر أقرب إلينا مما كنا نعتقد. إن ما يجمع بيننا هو ماض مشترك والكثير من الجوانب الثقافية. نحن قريبون من شمال أفريقيا أكثر من شمال أوروبا.”
وعلى الرغم من أنها لم تدرس أبدا علم الآثار، فإن ليلى علي التي تزور مدينة ميرتولا في فترة المهرجان، توافق على هذا الطرح. هذه السيدة التي تنحدر من مصر، تعيش في البرتغال منذ 12 سنة.
وهي تقول مبتسمة: “لقد عشت في ألمانيا قبل الانتقال إلى البرتغال، ولكنها لم تعجبني. لقد كانت باردة والناس أيضا باردون. أما في البرتغال فإن الناس مثل العرب، إنهم دافئون وودودون.”
وتحضر ليلى علي إلى المهرجان منذ العام 2011، ولكنها تقول لموقع ميدل إيست آي إن نسخة هذه السنة التي تدور بين 16 و19 مايو/ آيار، كانت أصعب لأنها تزامنت مع شهر رمضان. إذ أنه يصعب الجمع بين فعاليات المهرجان والصيام.
حسين بدار هو أيضا من الزوار المنتظمين، حيث أنه يحضر إلى ميرتولا منذ 15 عاما، وهو ينحدر من الجزائر ويعيش في مدريد منذ 35 عاما. ورغم أنه أصابه التعب من الحر والصيام، فإنه يقضي اليوم في توزيع الشاي على الضيوف وبيع الحلوى العربية في السوق.
الكثير من العائلات حضرت الحفل الافتتاحي
ويقول حسين: “أنا لا أمانع من تقديم الشاي أثناء الصيام. إذ أن ميرتولا هي مدينة مميزة وأنا أحب التواجد هنا”.
إلا ان الكثيرين يعبرون عن أسفهم لأن السكان المحليين المسلمين لم يتم إشراكهم في التخطيط للمهرجان. وهنالك آخرون يخشون من أنه على الرغم من النوايا الحسنة، فإن المهرجان الإسلامي في البرتغال قد يزيد من تعميق بعض الأوهام الاستشراقية السائدة ويحيي بعض التعابير المبتذلة حول الإسلام.
حيث تحذر ماريا كارديرا دا سيلفا، من أن هنالك خطرًا بأن يتحول المهرجان إلى نوع من الفولكلور، والذي قد يتسبب هو أيضًا في خلق فجوة. لذلك يجب أن يكون الهدف هو مجابهة مشكلة الابتعاد عن الآخر. يجب أن تظهر مدينة ميرتولا أن الآخر هو جزء منا”.
المصدر: ميدل إيست آي