ترجمة وتحرير: نون بوست
دمّر مقاتلو تنظيم الدولة ونهبوا بعض المواقع التاريخية التي تكتسي أهمية كبرى في العراق عندما استولوا على مساحات شاسعة من البلاد سنة 2014. وحسب السلطات التي تقود معركة البلاد من أجل استعادة الآثار المسروقة، فإن الخسائر المسجلة ليست سوى جزء بسيط من السرقات التي لا تزال متواصلة داخل مواقع غير محصّنة. وقد استهدف تنظيم الدولة تراث ما قبل الإسلام، إذ نشر مقطع فيديو لمقاتلين محسوبين عليه يحملون مطارق ثقيلة يحطمون بها التماثيل التي لا تقدر بثمن في متحف الموصل.
أعربت المديرة العامة للمتحف الوطني العراقي في بغداد، لوما ياس، عن رفضها الكبير لهذا الفيديو باعتباره حيلة دعائية تهدف إلى صرف الانتباه عن خطط أكبر لهذه المجموعة الإرهابية، على غرار الاستفادة من بيع القطع الأثريّة في السوق السوداء. وأضافت ياس أن “هذه الدعاية خدعت الناس ليصدّقوا أن تنظيم الدولة هو من دمّر الآثار، ولكن في الواقع كانت هذه مجرد لقطات فيديو قصيرة توّثق تدميرهم لبعض القطع المزيفة على الأغلب. وبعد هذا التدمير العلني، يستطيع تنظيم الدولة أن ينهب بحرية هذه المعالم ليستغل عائداتها في تمويل أنشطته الإرهابية”.
أقدام تمثال شيدو لاموسو الذي دمره تنظيم الدولة في متحف الموصل سنة 2017، إلى جانب بقايا الصاروخ أسفل اليمين
أشارت ياس إلى أنه لم يتمّ العثور على شظايا من رؤوس لاموسو، وهي ثيران مجنحة من العصر الآشوري تحظى بتقدير كبير في تجارة الآثار، في أنقاض متحف الموصل أو في الموقع القريب من مدينة نمرود الآشورية التي يعود تاريخ أجزاء منها إلى أكثر من 3000 سنة. وأوضحت ياس أن “تنظيم الدولة لم يستطع نقل لاموسو بالكامل لثقله، لكنه يستطيع إزالة الرؤوس وبيعها في السوق السوداء”.
الدمار في النمرود والموصل
تبعد مدينة النمرود 20 ميلًا عن الموصل، وهي “عاصمة” الخلافة وأحد المواقع الأشورية المحفوظة بعناية في العراق، لكن تنظيم الدولة تركها مجرّد أرض قاحلة مدمرة باستثناء تمثالين منحوتين متشقّقين أحدهما يعود للجني المجنح، وهو كائن آشوري حامٍ. وحيال هذا الشأن، قال حارس الأمن في النمرود، عبد الله، بعد وقت قصير من تحرير الموقع من قبضة تنظيم الدولة سنة 2017، “لم يتبق شيء تقريبًا في الموقع، لكن تنظيم الدولة دمر القطع الكبيرة فقط”.
جندي من قوات العمليات الخاصة العراقية ينقذ اللوحة التي كانت من بين القطعتين اللتين سلِمتا من التلف في متحف الموصل في سنة 2017
ذكر عبد الله أن “أفضل القطع قد هُرّبت إلى أوروبا وبيعت هناك. وأخبرنا السكان المحليون أنهم مُنعوا من دخول الموقع بمجرّد وصول تنظيم الدولة، لكنهم شاهدوا مقاتلي التنظيم وهم يسرقون حمولات شاحنات من الآثار من الموقع”. وفي سنة 2017، صرّح السكان الذين يعيشون بالقرب من قبر يونس في الموصل لمراسل “ميدل إيست آي” بأنهم شاهدوا أفراد تنظيم الدولة وهم ينقلون الكنوز من الموقع قبل أن يملؤوا المكان بالمتفجرات ويدمروه.
جرّد تنظيم الدولة جدران متحف الموصل من كنوزها
تستمر القطع الأثرية، التي سرقها تنظيم الدولة، في الانتقال في السوق السوداء. ووفقًا لمصادر سرية، اشترى أحد مهربي البشر في اليونان مجموعة كبيرة من العملات الذهبية القديمة مقابل مليوني يورو من تنظيم الدولة خلال السنة الماضية. وفي كانون الثاني/ يناير، قدّم عراقي عمل مباشرة مع تنظيم الدولة منذ عدة سنوات لإنقاذ النساء والأطفال اليزيديين المستعبدين، لمراسل “ميدل إيست آي” بعض مقاطع الفيديو ورسائل الواتساب التي تظهر أكواما من العملات الذهبية والنصوص القديمة، مؤكدًا أن التنظيم عرض عليه شراء الغنيمة مقابل مبالغ مالية ضخمة.
استعادة كنوز العراق المفقودة
على الرغم من ضخامة السرقات التي تورّط فيها تنظيم الدولة، إلا أن السرقات التي حصلت في المنطقة الجنوبيّة من المتحف العراقي لا تمثّل سوى جزء بسيط من عمليات النهب الهائلة التي ابتلي بها العراق منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة سنة 2003، حسب ما صرّح به موظّفو المتحف. وتشمل الخسائر 15 ألف قطعة أثرية نُهبت من المتحف الوطني خلال أربعة أيام في أبريل/ نيسان 2003.
جنديان أمريكيان من الفرقة الأولى في المتحف الوطني العراقي في بغداد في أيلول/ سبتمبر 2003
يجلس المدير السابق لقسم استرداد الآثار والتراث في العراق، مثنى عبد داود، متصفّحًا الملفات الورقية السميكة التي تحتوي معلومات مفصّلة عن 200 كنز من كنوز العراق المفقودة التي يتم تداولها في أسواق الآثار العالمية. وأشار عبد داود إلى أن أحد أكثر الكنوز قيمة هو تمثال طوله ثمانية سنتيمترات يعود تاريخه لعصر البابلية ويسمى “لبوة غوينول” أو “لبوة الشيطان” كما هو معروف في العراق.
يمثّل هذا الكنز أحد الزوجين الذكر والأنثى المتطابقين اللذين يرجع تاريخهما إلى حوالي 3000 قبل الميلاد. وأورد عبد داود أن “هذه اللبوة اختفت من السوق في الوقت الحالي بعد بيعها سنة 2007 في دار سوذبي للمزادات، لكن القضيّة لم تغلق بعد”.
لبوة غوينول، تمثال يبلغ عمره خمسة آلاف سنة من حضارة بلاد الرافدين
أضاف عبد داود، “لا نعرف من قام بشراء هذه القطعة الأثرية تحديدا ولكن تلقينا معلومات تفيد بأن لورد بريطاني قد اقتناها مقابل 59.2 مليون دولار”، مع العلم أن المشتري أدرج على أنه من هواة جمع التحف. وحتى سنة 2010، ظل تمثال لبوة غوينول الأعلى سعرا على الإطلاق. وقال عبد داود إن الأساطير المرتبطة بهذه القطع الفنّية تتمثل في أن أي شخص يحمل تمثاليْ اللبؤة والأسد المتطابقين يمكنه أن يسيطر على العالم أجمع، وهو ما زاد من قيمتها. وأضاف عبد داود: “كان الملوك البابليون يتمتعون بقوى هائلة، وكان هناك لغز يحيط بمنبع هذه القوى. وبسبب الأسطورة، فإن هذه اللبوة تُعتبر قطعة نفيسة للغاية”.
في ظلّ الحكومة العراقية الجديدة، نُقل عبد داود إلى قسم مختلف، هو أمر اعتادت الحكومات المتعاقبة في العراق ممارسته والذي غالبا ما يؤدي إلى خسارة الخبرات القيّمة. وخلال توليه لهذا المنصب لمدة ثلاث سنوات، أشرف القسم على استعادة أكثر من خمسة آلاف قطعة أثرية من بينها ثماني قطع أُعيدت بمساعدة المتحف البريطاني، في حين استرجعت السلطات الأمريكية 3800 قطعة أثرية أخرى وقع نهبها ضمن غنيمة واحدة خلال فضيحة متاجر هوبي لوبي.
خلال السنة الماضية، بيع نقش النمرود الذي تعود جذوره إلى الحضارة الآشورية خلال عهد الملك آشور ناصربال الثاني (883-859 قبل الميلاد) بـ 31 مليون دولار في مزاد نظمته دار كريستيز
استوردت شركة الفنون والحرف الأمريكية، التي يملكها مسيحيون إنجيليون، قطعا أثرية بقيمة 1.6 مليون دولار بطريقة غير قانونية منذ سنة 2009، متجهة إلى متحف الكتاب المقدس على ملك القطاع الخاص. وفي سنة 2017، سلّطت المحاكم الأمريكية عقوبة قاضية بتغريم الشركة بثلاثة ملايين دولار وأصدرت تعليمات بإعادة القطع. وقد عُرض عدد من القطع الأثرية المُستعادة في المتحف الوطني العراقي. وظهرت مئة قطعة إضافية في متحف البصرة الذي افتتح في شهر آذار/ مارس في أحد قصور صدام حسين السابقة.
حيال هذا الشأن، قال عبد داود: “في الواقع، هذا يمثّل جزءا بسيطا جدا من القطع الأثرية التي وقع إخراجها من البلاد. نحن نكافح لاستعادة إرث العراق المنهوب. هناك 200 قضية يجري النظر فيها في الوقت الراهن، وهذا العدد يزداد بشكل يومي لأننا نراقب جميع المزادات الدولية”.
خلال السنة الماضية، بيع نقش النمرود الذي تعود جذوره إلى الحضارة الآشورية خلال عهد الملك آشور ناصربال الثاني (883-859 قبل الميلاد) بـ 31 مليون دولار في مزاد نظمته دار كريستيز، بيد أن السلطات العراقية فشلت في إيقاف عملية البيع مدعية أنه وقع التنقيب عن هذا النقش وإخراجه بشكل غير قانوني من البلاد خلال سبعينيات القرن الماضي. ومن جهتها، أكّدت دار كريستيز أن هذه القطعة الأثرية كانت ضمن مجموعة تحف أمريكية خاصة منذ القرن التاسع عشر.
نهب المواقع الأثرية
حتى في الوقت الذي تحاول فيه السلطات العراقية استعادة آثارها المنهوبة، تستمر عمليات الحفر والتنقيب والسرقات غير القانونية في المواقع الأثرية البعيدة دون رادع.
مثنى عبد داود، قسم استرداد الآثار والتراث في العراق
في شأن ذي صلة، بيّنت ياس أن “عمليات الحفر غير القانونية هي أكبر عقبة تعترضنا”، مضيفا أن “العراق يحتوي على 18 ألف موقع أثري منتشرة في جميع أنحاء البلاد. وهذه العمليات تنتشر في كل مكان ولكن لا يمكننا السيطرة على هذا الأمر. ولا توجد شرطة خاصة مكلفة بوضع حد لهذه الأنشطة غير القانونية. ويوجد ضابط واحد في كل موقع يحرس المكان، لذلك يُصعب عليه حماية الموقع برمّته”.
والجدير بالذكر أن أغلب المواقع الأثرية المعروفة والمتاحة محصّنة بشكل كاف. وبعد تحريرها من تنظيم الدولة، وقع تسييج مدينة النمرود من قبل منظمة اليونسكو، وتتلقى أموالا من حكومة اليابان، ومؤمّنة من قبل القوات المحلية. وأضافت ياس أن هناك خططا تمولها الحكومة الفرنسية لإعادة بناء الرفات من المقرّر أن تبدأ في وقت لاحق من هذه السنة. لكن ظلّت بعض المواقع الصحراوية النائية، التي لا يمكن الوصول إليها إلا باستخدام سيّارات الطرق الوعرة أو المروحيات، دون حراسة.
من جهة أخرى، نوّه عبد داود بأن العراقيين الذين يقومون بعمليات التنقيب غير القانونية يعملون مباشرة مع مهربين وجامعي التحف الأجانب. وعادة ما يقع تهريب الآثار المنهوبة خارج العراق عبر الحدود البرية أو على قوارب الصيد الصغيرة. وأورد عبد داود أن العديد من القطع الأثرية يقع تهريبها إلى الإمارات العربية المتحدة، التي أصبحت تعتبر مركزا إقليميا لتجارة الآثار غير القانونية
سُرق تمثال شلمنصر، حاكم آشوري، سنة 2003 وقد أعيد إلى البلاد بعد استعادته من الولايات المتحدة الأمريكية
ذكر عبد داود أن بعض اللاجئين متورّطون في تهريب القطع الأثرية إلى أوروبا. وفي الوقت الراهن، يعمل قسم استرداد الآثار والتراث في العراق مع الشرطة البلغارية التي صادرت 122 قطعة كانت بحوزة اللاجئين. وفي حديثه عن هذه المسألة، قال عبد داود: “لسنا متأكدين بعد مما إذا كانت كل هذه القطع مسروقة من العراق أم أن بعضها من سوريا، لكننا نعمل على اكتشاف ذلك”.
قد يكون من الصعب استعادة القطع الأثرية التي نُهبت خلال عمليات التنقيب غير القانونية، ذلك أنه على عكس القطع المسروقة من المتحف، غالبا ما تكون هذه القطع غير مصنفة. ومن بين أكبر الصعوبات التي يواجهها القسم هو إثبات أن الكنوز المتداولة في الأسواق الدولية هي بالفعل منهوبة من العراق. وأضاف عبد داود أن “القرارات الأخيرة التي اتخذتها منظمة اليونسكو والتي تهدف إلى حماية تراث العراق أثبتت جدواها، لكن مع ذلك لا تزال العديد من الدول تنتهك هذه اللوائح”.
علاوة على ذلك، قال عبد داود: “تطلب منا دور المزادات أن نثبت أن القطع الأثرية عراقية الأصل. وعلى الرغم من أن الجميع يعلمون أنها من العراق وغالبا ما يكونون على علم بالمكان المحدد التي تنتمي إليه، إلا أن القطع المستخرجة خلال عمليات الحفر غير القانوني ليست موثقة”. وأضاف عبد داود: “نخوض العديد من المعارك المتواصلة مع هواة جمع التحف ودور المزادات، إذ يستظهر هواة جمع التحف بالإيصالات، وعلى الرغم من أنها تكون في بعض الأحيان مزيفة، إلاّ أن هذه الدور تتظاهر بأنها حقيقية. كما تعيق البيروقراطية عملنا، ناهيك عن بطء العمليات، لذلك عادة ما تمضي المبيعات قدما رغم احتجاجاتنا وجهودنا لردعها”.
المصدر: ميدل إيست آي