قد يستغرب البعض من وجود عنوان يربط علم النفس بالأدب خاصًة أن الأدب هو فن ونوع قائم بذاته وله أنواع عدة، بينما علم النفس هو أحد العلوم المعرفية المستقلة التي تبحث في جوهر الإنسان وعلاقته بنفسه وسلوكه مع المحيط؛ ولكن سيزول الاندهاش والاستغراب إن وضحنا أن الأدب هو وسيلة للتعبير عن حياة الإنسان ومشكلاته ودوافعه وصراعاته، حتى لو كان ذلك صنيع بشر بشكل تلقائي أو غير مخطط له أن يحمل الجوانب النفسية للإنسان، أي أن حياة الإنسان المعقدة هي التي عكست ذلك في الكتابات، بينما علم النفس يحلل وجود البشر وسلوكهم ودوافعهم ليفسر الظواهر والتعاملات بين البشر وغيرهم، ومن هنا نجد أن بين الأدب وعلم النفس رابط جوهري وهو سلوك الإنسان ودواخله، فيندمجان سويًا ليحاولا تفسير المظاهر الغريبة للأفراد وتصرفاتهم.
في البدء كان الأدب النفسي نوعًا من التنفيس عن النفس
من الصعب أن نقول أن هناك أدباء بعينهم درسوا علم النفس بشكله التجريدي وأمسكوا بأقلامهم ثم صاغوا لنا أدبًا يعبر عن مشاكل النفس. لا، الأمر ليس بهذه الطريقة لأن صراع الإنسان وحيرته واضطرابه مع نفسه هو أمر بالغ الحيرة والتعقيد، فما يشغل الإنسان في وقته الحالي وصراعاته ويمثل حيزًا كبيرًا من جزئه الداخلي هو ما كان الأدباء يهتمون ويحاولون علاجه في أعمالهم الأدبية منذ الأزل، وعلى الجانب الآخر، كان علم النفس يبدأ بتحليل وتفنيد وسلوك البشر ودوافعهم لفعل شيء ما، مثل السرقة والكذب أو الخيانة، وغيرهما الكثير، لأنها أشياء موجودة بالفعل وليست من وحي الأدب أو الخيال، ومع الوقت وجدنا أنه باستطاعة الكثير من الأدباء تجسيد ما يشعر به الإنسان والمشاكل التي تسبب له ألمًا داخليًا، مثل الصراع بين الخير والشر أو الخوف من الاعتراف بشيء ما أو مظهر الإنسان حينما يتعرى بأخطائه أمام الآخرين.
طبقًا لفرويد، رائد المدرسة النفسية، أنه يرى أن الفنان يبدع نبعًا من رغبته في أن يشبع شيء ما، ويكون في الغالب هنالك عائق بينه وبين إشباع هذه الرغبة مثل الحظر الاجتماعي أو التحريم الديني
يقول فرويد “إن الفنان مثله مثل العصابي ينعزل بعيدًا عن الواقع الذي لا يشبع غرائزه وينزوي داخل عالمه الخيالي الإبداعي، ولكنه على خلاف العصابي، يتمكن من إيجاد طريق العودة إلى الواقع”.
فطبقًا لفرويد، رائد المدرسة النفسية، الفنان يبدع نبعًا من رغبته في أن يشبع شيئًا ما، ويوجد في الغالب عائق بينه وبين إشباع هذه الرغبة، مثل الحظر الاجتماعي أو التحريم الديني، وفي النهاية يتمكن من أن يجد لنفسه مكانًا صلبًا على أرض الواقع عن طريق ما نسجه من خيال، أي أن مشاكل النفس الإنسانية، التي يهتم بها علم النفس في الأساس، والتي صاغها الأدباء في مشاكلهم هي ما أدت إلى ظهور هذا النوع من الأدب، الأدب النفسي الذي يهتم بكل ما هو خفي داخل النفس ولا يمكن للإنسان البوح به ببساطة.
أعمال روائية من الأدب النفسي
الجريمة والعقاب – ديستويفسكي
بدون أن نذكر علم النفس وقبل أن نتحدث عن هذا النوع من الأدب فإن ديستوفسكي هو الأديب الأعظم في هذه الناحية، ليست هذه الرواية فحسب، بل يمكننا أن نقول أن كل أعماله كانت تملك طابعًا نفسيًا وتجسد عذابات نفسية يتعرض لها الأبطال في سياقات مختلفة ومع مشكلات متعددة، وفي رواية الجريمة والعقاب التي واضح من أسمها أنها تتحدث عن جريمة، يغوص الكاتب في الأعماق ويصف بشكل دقيق الناحية السيكولوجية لنفسية القاتل وكيفية شعوره بالذنب وقبول اعترافه بحقيقته، لهذا فهي رواية نفسية بامتياز.
هاملت – شكسبير
يمكننا أن نتحدث عن شكسبير باعتباره كاتبًا مسرحيًا يعالج الأمور النفسية لأبطاله من الطراز الأول، وتوضح لنا كتابات شكسبير أن هذا النوع من الأدب هو أدب قديم وموجود منذ سنوات طويلة، قبل تطوّر علم النفس الحديث، هنا أذكر هاملت كمثال. في هذه المسرحية يوجد هاملت الأمير الذي قتل عمه والده، وتزوج أمه وحكم الإمبراطورية، هنا نجد أن هاملت البطل التراجيدي يشعر بالإثم لما حدث ويرغب في الانتقام لوالده مما حدث.
من الأدباء المعاصرين الذين برعوا في هذا النوع من الأعمال الأدبية هو الاديب النمساوي ستيفان زفايج، والذي عبر في كل رواياته عن صراعات أزليه وداخلية تؤرق أصحابها
فيظل يتخبط وتضطرب حياته، وصراعه النفسي يكمن في رغبته في قتل عمه والانتقام لأبيه حتى يتخلص من عذاباته، وبعد قصة طويلة من المحاولات التي لن تنجح من المرة الأولى، نجد أن هاملت سيتخلص من عقدته وينتقم ثم يموت هو في النهاية.
فوضى الأحاسيس – ستيفان زفايج
من الأدباء المعاصرين الذين برعوا في هذا النوع من الأعمال الأدبية هو الأديب النمساوي ستيفان زفايج، والذي عبر في كل رواياته عن صراعات أزليه وداخلية تؤرق أصحابها، على سبيل المثال رواية فوضى الأحاسيس، تعكس صراعين بين البطلين، بين الطالب وأستاذه، الطالب الذي يحب أستاذه ويقدسه لدرجة أنه مستعد لأن يفعل أي شيء له، والأستاذ الذي يحب الطالب ولكنه يعامله بسوء خشية وقوع شيء ما يخشى حدوثه، مع الوقت نكتشف أن المدرس مثلي الجنس، وأن علاقته بهذا الطالب تؤرقه وتجسد جانبًا من الخوف لديه يخشى أن يفصح عنه، وأثناء أحداث الرواية نرى نوعًا من دواخل النفس الإنسانية التي تخشى أن تظهر المعلم بشكل المذنب وسنرى كيف انتهى الصراع بين البطلين.
لا يمكننا أن نفصل النفس البشرية وما يدور حولها عن الأدب، فعلم النفس هو العلم المعرفي المخصص لدراسه سلوك الإنسان ودوافعه المختلفة، بينما الأدب هو التعبير عن تلك السلوكيات والدوافع ومحاولة التعبير عنها بشكل واقعي.