ترجمة وتحرير: نون بوست
كانت الساعة تشير إلى الواحدة من صبيحة يوم الثلاثاء، عندما كان الآلاف من المحتجين يلوّحون بالأعلام خارج مقر قيادة الجيش السوداني ويستمعون إلى الخطابات حين يتطلّب الأمر إلقاء كلمة. وداخل المبنى، رفض المجلس العسكري الحاكم العرض الذي قدمه الممثلون المدنيون الذين أطلقوا عليه اسم “إعلان الحرية والتغيير” لتقاسم السلطة في البلاد. وفي تصريح له لمجلة “فورين بوليسي”، أوضح حيدر الصافي شابو، وهو أحد المفاوضين المدنيين، أن “المجلس العسكري يريد السيطرة على مقاليد الحكم في البلاد”، حتى أن العرض الذي قدّمه المدنيون المتعلق بإنشاء مجلس يضم عددا متساويا من المدنيين والشخصيات العسكرية قد رُفض.
على إثر ذلك، انقطعت الأنوار المُعلّقة على خشبة المسرح للحظات، وخيّم الصمت على الجسر، وسار الكثير من المتظاهرين بعيدا. لكن مشاعر اليأس لم تستمر طويلا. ففي غضون دقائق، عاد حشد من الشباب إلى المكان وبدأوا يدوسون على الجسر المعدني بصوت عال. ورُفعت الأعلام السودانية وصدح المتظاهرون بأناشيد “الحرية” من جديد.
قال كاميرون هدسون، أحد كبار الباحثين في المجلس الأطلسي: “لقد تعلّم المجلس العسكري في ظل حكم البشير كيفية قضاء وقت طويل في مناقشة تفاصيل دقيقة وجعل الأشخاص يضيّعون وقتهم، مما سيؤدي إلى إضعاف المعارضة لنفسها بنفسها”
لكن لا يبدو أن الجيش ينصت إلى هتافاتهم. فقد بدأت الثورة المضادة تتلمس طريقها للظهور، حيث تواجه الاحتجاجات التي انطلقت شرارتها في كانون الأول/ ديسمبر 2018 بشكل عفوي في جميع أنحاء السودان جرّاء الأوضاع الاقتصادية السيّئة، والتي انتهت بالإطاحة بالدكتاتور عمر البشير خلال الشهر الماضي، عقبة كبرى أمامها؛ لقد رحل البشير لكن نظامه يكافح للعودة إلى الحكم من جديد. وعلى الرغم من أن المجلس العسكري الحاكم قد وعد بأن يُسلّم السلطة للمدنيين عندما أطاحوا بالبشير، إلا أن الجيش العنيد يبدو أنه نكث بالعهد الذي قطعه.
حيال هذا الشأن، قال كاميرون هدسون، أحد كبار الباحثين في المجلس الأطلسي: “لقد تعلّم المجلس العسكري في ظل حكم البشير كيفية قضاء وقت طويل في مناقشة تفاصيل دقيقة وجعل الأشخاص يضيّعون وقتهم، مما سيؤدي إلى إضعاف المعارضة لنفسها بنفسها”. ومهما يكن الأمر، فإن هذه الاستراتيجية تنطوي على إيجابيات وسلبيات على حد سواء. فضلا عن ذلك، هناك دليل على حدوث انقسام داخل المجلس العسكري، ويخشى المسؤولون في الدول الغربية من أن يؤدي هذا التصدّع إلى مزيد من العنف الجماعي.
يوم الخميس، أفاد المدعي العام السوداني بأنه حاول اعتقال رئيس المخابرات السابق صلاح غوش لكن حرّاسه أحبطوا هذه المحاولة، وذلك وفقا لما نقلته وكالة الأنباء “رويترز”. إنّ هذا المؤشر يدل على أنّ جهاز المخابرات في البلاد، الذي يواجه تهما بالتعذيب وارتكاب أعمال وحشية في عهد البشير، يسير نحو حتفه. من جهته، سبق أن نفى غوش الادعاء القائل إنه كان رهن الإقامة الجبرية لمجلة “فورين بوليسي”، ولكنّه لم يستجب يوم الثلاثاء لطلب التعليق على الأمر. وتجدر الإشارة إلى أن غوش كانت تربطه علاقة وثيقة بوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وقد شارك في التخطيط للقيام بانقلاب سنة 2012 ضد البشير وناقش الأمر مع المسؤولين الأمريكيين.
أخبر الأطباء الذين يقدمون العلاج للمصابين المجلة بأنهم ألقوا القبض على ضابط مخابرات يرتدي الزي الرسمي لقوات الدعم السريع. لقد أطلق الجنود النار على المدنيين بالذخيرة الحية، مما أسفر عن مقتل ستة أشخاص وجرح 77 آخرين
إلى جانب ذلك، هناك دليل على وجود شقاق واسع النطاق داخل صفوف الجيش. فخلال الأسبوع الماضي، شاهد الطاقم الصحفي لمجلة “فورين بوليسي” رجالا يرتدون الزي الرسمي لقوات الدعم السريع -وهي وحدة شبه عسكرية خاضعة لسيطرة المجلس العسكري- وهم بصدد ضرب المدنيين ومهاجمة المعتصمين. فضلا عن ذلك، هناك دليل على وجود شخص تابع للجيش يريد تقويض المفاوضات. لقد سُحب ضحايا إطلاق النار واحدا تلو الآخر إلى موقع الاعتصام، وشكّل المحتجون حلقة واقية من حولهم أثناء قيام الأطباء بعلاجهم. وقال أحد المحتجين يُدعى دين الفاتح، وسط إطلاق النار: “نحن لا نشعر بالخوف”، مضيفا “نريد الحصول على حريتنا بطرق سلمية، لكننا لم نحصل على أي مساعدة”.
في سياق متّصل، أخبر الأطباء الذين يقدمون العلاج للمصابين المجلة بأنهم ألقوا القبض على ضابط مخابرات يرتدي الزي الرسمي لقوات الدعم السريع. لقد أطلق الجنود النار على المدنيين بالذخيرة الحية، مما أسفر عن مقتل ستة أشخاص وجرح 77 آخرين. من جهتها، نوّهت بعض الدول الغربية بأن استخدام العنف ليس سوى محاولة لاستفزاز المحتجين. كما حذرت الحكومة السودانية السفراء الأجانب من زيارة موقع الاعتصام قبل أيام من اندلاع أعمال العنف، مما جعل البعض يعتقدون أنها إشارة إلى أن هذا الهجوم كان مخططا له بشكل مسبق.
في الواقع، تعاني قوى إعلان الحرية والتغيير، وهي تحالف شكّلته الجماعات المدنية في البلاد، من انقسامات كبيرة في صفوفها. وخلال اجتماع عُقد إثر المفاوضات التي جدّت صبيحة يوم الثلاثاء، أعرب بعض أعضاء هذا التحالف عن خيبة أملهم من أن المفاوضين قدّموا عرضا لتقاسم السلطة مع الجيش. في المقابل، شعر البعض الآخر بالامتنان لأن المجلس العسكري رفض هذا العرض وتكهّنوا بأن رد المتظاهرين سيكون الرفض أيضا. في الأثناء، لا يزال هناك تباين شديد حول مستقبل السودان خارج البلاد، مع العلم أن ثلاث دول عربية يُعتقد أنها تدعم المجلس العسكري لأسباب مختلفة.
محمد حمدان دقلو “حميدتي”، وهو قائد قوات الدعم السريع المخيفة التي أفزعت منطقة دارفور، ومع أنه القائد الثاني في حكومة السودان الآن، إلا أنه يخبر الدبلوماسيين الأجانب أن الإطاحة بالبشير كانت فكرته
أكّد المسؤولون الغربيون أن الإمارات والسعودية تدعمان الجيش لحماية مصالحهما المالية والعسكرية، حيث يزود السودان التحالف العربي بالجنود الذين يقاتلون لصالحه في اليمن. ويدعم كلا البلدين الجيش بتقديم 500 مليون دولار للبنك المركزي السوداني، لكن هناك تكهنات بأن الأموال الممنوحة يمكن استخدامها لشراء ولاء الجيش. وحيال هذا الشأن، قال نونيهال سينغ مؤلف كتاب “الاستيلاء على السلطة: المنطق الاستراتيجي للانقلابات العسكرية” إن “الأموال المتأتية من الخارج مثيرة للاهتمام أكثر. ربما ستشتري هذه الأموال جميع ذمم أعضاء التحالف [العسكري]، مما يشير إلى أنهم يعانون من ضعف داخل صفوفه”.
أما مصر، فيبدو أنها تدعم المجلس العسكري من أجل منع انتشار الديمقراطية وبروز الإسلام السياسي. فالعلاقات العسكرية بين البلدين متينة، إذ تلقى العديد من كبار المسؤولين في الجيش السوداني تعليمهم في مصر. وأشار هدسون إلى أن “المصريين يتعاملون بصرامة شديدة للغاية مع المجلس العسكري، محاولين حثّهم على السيطرة على الحكومة”.
من بين أفراد الجيش السوداني محمد حمدان دقلو “حميدتي”، وهو قائد قوات الدعم السريع المخيفة التي أفزعت منطقة دارفور، ومع أنه القائد الثاني في حكومة السودان الآن، إلا أنه يخبر الدبلوماسيين الأجانب أن الإطاحة بالبشير كانت فكرته. كان حميدتي أحد أهم المتفاوضين مع المدنيين، كما تتعدّد التقديرات الاستخباراتية فيما يتعلق بحجم قواته.
مهما كان العدد الحقيقي للجنود الذين يعملون تحت إمرته، فإن جنود حميدتي يحظون بتسليح جيد في جميع أنحاء الخرطوم
في حين صرّحت بعض الدول بأن حميدتي يشرف على 20 ألف جندي في الإجمال إلى جانب بضعة آلاف آخرين في العاصمة الخرطوم، أفاد البعض الآخر بأن حميدتي يشرف على 20 ألف جندي متمركز في الخرطوم وحدها، مع وجود عشرات الآلاف في دارفور ومنهم المشاركون في القتال في اليمن نيابة عن السعودية والإمارات.
مهما كان العدد الحقيقي للجنود الذين يعملون تحت إمرته، فإن جنود حميدتي يحظون بتسليح جيد في جميع أنحاء الخرطوم، بالإضافة إلى مجموعات من القذائف الصاروخية المخزنة داخل الشاحنات. وقد صرّح بعض الجنود لمجلة “فورين بوليسي” بلهجة روسية، أنه من المرجّح أن حميدتي يتلقى أيضًا بعض المساعدة من طرف موسكو. فقد تلقى الجيش السوداني إمدادات من بعض الشركات التي تدعمها موسكو، كما أشار سكان قرية أم دافوق في دارفور إلى أن الأعلام الروسية ترفرف على ظهر القوافل في المدينة.
لكن الجيش السوداني ليس القوة الوحيدة المعادية للثورة التي تسعى إلى التأثير على فترة ما بعد البشير في البلاد. يُزعم أن رجل الدين المحافظ محمد الجزولي، والمتعاطف مع تنظيم الدولة عبد الحي يوسف، قد نظّما مسيرتين حديثتين تنذران بوجود تيار ديني متطرف في السودان، على الرغم من أنها مجرّد أقليّة. وخلال إحدى المسيرات، تجول مئات الرجال الذين يرتدون الجلابيات البيضاء وبعض النساء اللاتي يضعن شالات ملونة في شوارع الخرطوم، وهم يهتفون: “الشريعة، الشريعة أو الموت”. لم يستجب الجزولي لطلب إجراء مقابلة، بينما لم يكن بالإمكان التواصل مع يوسف.
في ظلّ تصاعد حدّة ثورة السودان المضادة، استجاب تحالف المسؤولين المدنيين الذي نظمّ الاحتجاجات بالطريقة الوحيدة التي يعرفها
في تصريح له لمجلة “فورين بوليسي”، أورد المراقب العام للإخوان المسلمين الأكثر اعتدالا في السودان، عوض الله حسن، أن الدستور السوداني يجب أن يتضمن نظاما مبنيا على الشريعة الإسلاميّة، وهو ما طالب به الجيش أيضا. وأفاد حسن بأن الإخوان لن يترشحوا كحزب سياسي مستقل في الانتخابات المقبلة، لكنهم سيدعمون الأحزاب الإسلامية الأخرى، مشيرا إلى أن الإخوان لا يتلقون أي دعم من خارج السودان، كما رفض تحديد عدد أعضاء المنظمة.
في ظلّ تصاعد حدّة ثورة السودان المضادة، استجاب تحالف المسؤولين المدنيين الذي نظمّ الاحتجاجات بالطريقة الوحيدة التي يعرفها. وفي هذا الشأن، صرّحت المتحدثة باسم تجمّع المهنيين السودانيين، سارة عبد الجليل، بأن الخطوة التاليّة تتمثّل في “تصعيد الحركة السلميّة من أجل تحقيق التغيير الديمقراطي الكامل”.
على امتداد أسابيع، عمل تجمّع المهنيين السودانيين الذي خطّط للاحتجاجات على تجنيد مجموعات من العمال بهدوء، من قبيل جمعيات النقل والكهرباء، للانضمام إلى إضراب وطني في حال فشلت المحادثات مع الجيش. وفي الواقع، تمّ تفعيل هذه الخطة بعد صباح يوم الثلاثاء. وقالت عبد الجليل إن الهدف من الإضراب هو “تقويض حركة البلاد وتعطيلها أمام أي إجراءات تقشفية بما في ذلك امتناع المجلس العسكري الانتقالي عن قبول حكومة مدنية”.
في المقابل، يعتقد الآخرون أن فعالية الإضراب على مستوى البلاد قد تكون محدودة في الوقت الحالي. وأورد صديق يوسف، وهو أحد المفاوضين المدنيين ورئيس الحزب الشيوعي السوداني، أن هذا شهر رمضان، والبلد تحتج، ولا أحد يعمل طوال اليوم على أي حال.
كثيرا ما يصف المسؤولون السياسة الأمريكية في السودان بأنها تخريبية أو غير موجودة في الأساس
إن الدول الغربية بدورها تشهد انقساما بشأن ما يجب اعتماده في السودان، إذ صرّح بعض الدبلوماسيين لمجلة “فورين بوليسي” بأنهم سيرفضون الاعتراف بالجيش إذا ما بقي في السلطة، بينما تفقد الدول الأخرى ثباتها. ووفقًا لمصدر خاص مطّلع على المحادثات، لم ينجح اجتماع التنسيق الذي انعقد في واشنطن الأسبوع الماضي بين الدول الغربية وشركائها الإقليميين (وكان من بين المشاركين ممثلون عن الأمم المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا والنرويج والاتحاد الأفريقي وإثيوبيا) في بلورة أي قرارات هامّة.
كثيرا ما يصف المسؤولون السياسة الأمريكية في السودان بأنها تخريبية أو غير موجودة في الأساس. ومن جهة أخرى، يعتقد البعض في البيت الأبيض أن تجمّع المهنيين السودانيين قد يكون مرتبطا بالإخوان المسلمين، دون توفّر أي دليل على ذلك، كما أن العلاقات الأمريكية مع التحالف المدني تبقى متوترة.
في سياق متصل، وصف أربعة من أعضاء تحالف الجماعات المدنية الصعوبات التي يواجهونها مع المسؤول الأمريكي الأعلى في البلاد، ستيفن كوتسيس، مشيرين إلى أنه كان يتصرّف بازدراء وبأسلوب متطلّب خلال الاجتماعات، كما وصفه أحدهم بأنه “متعجرف”. وقد رفض كوتسيس إجراء أي مقابلة، كما رفضت كل من وزارة الخارجية والبيت الأبيض الإجابة على أي أسئلة. لكن صرّح أحد مسؤولي المعارضة بأنهم لن يحضروا أي اجتماعات مع السفارة الأمريكية لأنها “مضيعة للوقت”.
المصدر: فورين بوليسي