لا تكتفي روسيا بشيء، كل الملفات أمامها، ساحة للصراع مع القوى الكبرى، السيطرة وتسيد السوق الهدف الأساسي، فتلعب على جميع المتناقضات وتدرس احتياجات الصديق والخصم بعناية، وتعرف كيف تستفيد من ثغراتهما ونقاط ضعفهما، وهو ما مكنها من إعادة التموضع على الساحة الدولية كشريك قوي لا يهزم في حركة الاقتصاد العالمي، بداية من السلاح، نهاية بالسيطرة على سوق الدجاج، وهو آخر ما وصل إليه قطار التفوق الروسي على أمريكا والاتحاد الأوروبي والبرازيل والصين، لدرجة أنه طوع سوق الأخيرة ليخرج من المنافسة عن طيب خاطر، ويساهم في حجز التفوق لصالحه.
ماذا بين روسيا والصين في أسواق الدجاج؟
حتى وقت قريب مضى، كانت روسيا على قناعة أن المنافسة مع مصادر الدواجن الرئيسية في العالم، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والبرازيل، ليست سهلة على الإطلاق، في ظل اختلاف بنية السوق الروسية والأوروبية والأمريكية، بجانب التحالفات القائمة بين أمريكا وأوروبا التي تسعى دائمًا إلى إعاقة المنافسة الروسية أو تحجيمها على أقل المستويات، وظلت تقاتل لعبور المركز السادس الذي تحتله حاليًّا والقفز لمرحلة أعلى، حتى أحدثت انقلابًا خلال الأسابيع الماضية في أسواق الدجاج العالمية وخاصة مبيعات أجنحة الدجاج.
أدت العلاقات القوية بين الصين وروسيا في جميع المجالات إلى فتح السوق الصينية على مصراعيها للروس، لتلبية الجزء الأكبر من احتياجاتها، ولعب القدر لحسابهم بشدة، بسبب تفشي الوباء بين الخنازير أو ما يعرف بحمى الخنازير الإفريقية، ولأول مرة منذ الحقبة السوفيتية يصبح الدجاج الروسي البديل الأفضل ليس لروسيا وحدها، بل للعديد من دول العالم، في ظل التوقعات بهلاك نحو 30% من خنازير الصين بسبب المرض، ما يعطي دفعة قوية لتطوير صناعة الدواجن في روسيا، الطامحة لأن تصبح موردًا رئيسيًا للسوق العالمية.
وتعد الصين أكبر مستورد للحوم الخنزير في العالم، وتمدها دول الاتحاد الأوروبي مثل ألمانيا وإسبانيا والدنمارك وهولندا باحتياجاتها من اللحوم المطلوبة، بجانب الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، وكان معدل نمو إنتاج لحم الدجاج أقل قليلاً من معدل نمو لحم الخنزير، رغم ارتفاع حجم الإنتاج العالمي فيه بشكل مستمر، من 55 مليون طن عام 2001 إلى 90 ألف طن منذ عام 2017.
في أبريل الماضي، صدرت روسيا 54 طنًا من الأجنحة إلى الصين، وهو ما يعني أنها قادرة على سد احتياجات الأخيرة، إذا زاد تفشي حمى الخنازير الإفريقية في البلدان المجاورة لها التي أجبرتها حتى الآن على إعدام نحو مليون رأس خنزير، ما يفسح المجال أكثر وأكثر للدجاج الروسي لتسيد السوق الصينية.
والنمو السريع لسوق الدجاج الروسي في الصين، يصيب منافسيه بالقلق الشديد، من انهيار محتمل لصادراتها، بعد أن كانت تتفاءل بشدة، في الاستفادة من انتشار فيروس الخنازير بالصين، بجانب أن روسيا التي كانت المستورد الرئيسي للحوم الدواجن قبل 20 عامًا، هي العميل المحبب لمعظم دول آسيا وإفريقيا، وما زالت الطلبات تنهال عليها، خاصة على أرجل الدجاج والأجنحة التي تتسيد فيهما السوق العالمية بالفعل، وما زالت تواجه منافسة شرسة مع البرازيل والاتحاد الأوروبي وأمريكا على تصدير أرجل الدجاج واللحوم الداكنة.
قيمة مضافة
تلعب روسيا في صراعها مع الولايات المتحدة بسوق الدجاج على الأسعار، إذ وصل الفارق في أسعار ذبيحة الدجاج بين روسيا والولايات المتحدة خلال العام الماضي إلى متوسط 3.2 دولار للكيلوغرام الواحد من أمريكا، في الوقت الذي تبيعه روسيا بـ2.1 من دولار، وهو تحول تام في المشهد لصالح روسيا.
ويعد السبب الرئيسي في سيولة الأسعار بهذا الشكل، وتمكن روسيا من حسم الصراع مع الولايات المتحدة في سعر الدجاجة، إلى نمو حصة الإنتاج المحلي الروسي من الدجاج، التي تقترب الآن من 100% بفضل برنامج التطور السريع للماشية، ضمن نظام تطوير الزراعة في روسيا خلال السنوات الأخيرة، التي انخفضت فيها واردات لحوم البقر من 660 إلى 360 ألف طن، ولحم الخنزير من 620 إلى 260 ألف طن، ولحوم الدواجن من 530 إلى 220 ألف طن، وفي الوقت نفسه، تغير حجم استهلاك اللحوم ومنتجات اللحوم من سكان روسيا على مدى السنوات الأربعة الماضية، في المتوسط ، بما لا يزيد على 1%، وبالتالي، فإن نمو الإنتاج المحلي حل محل واردات اللحوم.
وضعت روسيا برنامجًا تقدميًا على مدار الأعوام الماضية، للحفاظ على ديناميات نمو صناعة الماشية لديها، وكان اقتحام الأسواق الجديدة مهمة معقدة وواسعة، ويتطلب أولاً حل العديد من القضايا المتعلقة بالرقابة البيطرية وإصدار الشهادات واللوجستيات والمبيعات، لتحديد موقف روسيا في التفوق بسوق اللحوم العالمية، وإظهار قدراتها الإنتاجية مقارنة بالجهات المنافسة لها، وهو ما أنجزته بالفعل.
بداية من عام 2015، انتعش معدل نمو إنتاج اللحم البقري في روسيا بسبب التدابير الاقتصادية التي اتخذتها منذ مطلع عام 2008، لعبور الأزمة العالمية وتأثيراتها على السوق مرورًا بانخفاض القوة الشرائية، وبفضل هذه التدابير، أصبحت روسيا في السنوات الأخيرة، من أكبر الشركات المنتجة للحوم البقر في العالم، بـ2% من حصة الإنتاج العالمي التي تتصدرها الهند بـ7% مرورًا بالولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل والاتحاد الأوروبي، ولكن الفارق بين الجميع، أن هؤلاء باستثناء روسيا، تستهلك أسواقهم المحلية كميات كبيرة من اللحم البقري، ما يمنح فرص التصدير بأكبر كميات ممكنة لموسكو، ويضعها ضمن أكبر منتجي لحوم التسمين في العالم.
وحاول الدب الروسي على مدار السنوات الماضية، التفوق في إنتاج وتصدير الديك الرومي، ويطمح أن يكون في القريب العاجل، من بين المصدرين الرئيسيين في العالم لهذا النوع من اللحوم الذي تسحوذ على أسواقه العالمية البرازيل والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وخاصة هولندا وبولندا وبلجيكا وألمانيا.
لماذا الدواجن؟
لأنها ملك البروتينات، والبروتين الأكثر استهلاكًا في العالم خلال العام الحاليّ وخاصة بعد انتشار حمى الخنازير الإفريقية في قطعان الخنازير بثلاث قارات و15 دولة، ومن المتوقع أن تصل خسائر الإنتاج في عام 2019 إلى 14% من إمدادات لحم الخنزير بالعالم، وهناك مؤشرات على ارتفاعها، ما يؤثر على انخفاض إجمالي الإنتاج العالمي من لحم الخنزير، ويرفع في المقابل من أسهم الدواجن.
ويدير شؤون سوق الدجاح منظمة IPC التي دشنت عام 2005، من البلدان الرائدة في إنتاج الدواجن، لتحديد المجالات ذات الاهتمام المشترك ووضع سياسات تحسين شاملة للصناعة العالمية، وتضم المنظمة حاليًّا 29 دولة عضوًا و56 عضوًا مشاركًا يمثلون أكثر من 88% من إنتاج الدواجن بالعالم، و95% من تجارة الدواجن.
وأدت خسائر سوق الخنزير في الصين بسبب الحمى المعروفة بـ”ASF” إلى هزات كبيرة في أسواق البروتين العالمية وخاصة في الصين التي تربي ما يقرب من نصف الخنازير في العالم، ورغم العثور على نفس المرض في روسيا وأوروبا الشرقية منذ عدة أعوام، يتم السيطرة عليه، في الوقت الذي يفتك بالصين وجنوب شرق آسيا وفيتنام والأخيرة خامس أكبر منتج للحم الخنزير في العالم، منذ منتصف عام 2018، ما يعطي مؤشرات على ضرورة تخفيض الإنتاج بالصين، وتراجع الإنتاج العالمي بنسبة كبيرة، ومن غير المرجح أن يعوض لحم الخنزير مكانته القيادية، إذا سيطر الدجاج على سوق البروتين العالمية.