مع سقوط نظام حكم بشار الأسد في سوريا، عادت قضية العقوبات السياسية والاقتصادية المستخدمة كإحدى أبرز أدوات الغرب عليه إلى الواجهة مجددًا، في ظل تدهور البنية الاقتصادية السورية وقطاعاتها الحيوية، وامتداد آثارها إلى النسيج الاجتماعي بشكل ملاحظ.
بداية، تعرَّف العقوبات الاقتصادية على أنها مجموعة تدابير تقييدية تفرضها المنظمات الدولية، كالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي أو دول قوية الاقتصاد كالولايات المتحدة، تجاه مجموعة من المسائل الاقتصادية، كأداء الاقتصاد بشكل عام والتجارة وحركة سوق المال وغيره في بلد محدد.
وتكون موجّهة ضد دول أو جهات غير حكومية أو شركات وأفراد، يشكّل سلوكهم أو سياساتهم انتهاكًا للقانون الدولي وحقوق الإنسان، أو تهديدًا للسلم والأمن العالمي أو الإقليمي، والهدف منها التأثير في سلوكهم ودفعهم إلى اتخاذ موقف معيّن، أو تقديم تنازلات معيّنة، إلا أنها فعليًا تؤثر على المجتمع ككلّ، بسبب التفاف الجهات والأفراد المعاقبين عليها عمومًا.
تاريخ العقوبات على سوريا
يعدّ العام 1979 هو تاريخ أول عقوبات اقتصادية فرضتها الولايات المتحدة الأميركية على سوريا في عهد حافظ الأسد، بسبب إدراج سوريا آنذاك ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب، على وقع دعمها المعلن لأطراف مثل “حزب الله” اللبناني، تلا ذلك عقوبات خفيفة محدودة بالمقارنة مع الفترة اللاحقة، كردٍّ على برنامج أسلحة الدمار الشامل الخاص بسوريا، وضلوع نظام الأسد في زعزعة أمن العراق.
في نوفمبر/ تشرين الثاني 1986، فرضت المجموعة الأوروبية حزمة من العقوبات شملت حظر بيع الأسلحة الجديدة إلى سوريا، وحظر الزيارات رفيعة المستوى، ومراجعة موظفي السفارة والقنصليات، وفرض تدابير أمنية صارمة فيما يتصل بالخطوط الجوية العربية السورية، وقد تم رفع هذه التدابير في عام 1994.
أما في العام 2003 أُقرّ ما يسمّى بـ”قانون محاسبة سوريا”، وهو مشروع قرار مرّره الكونغرس الأمريكي، في إطار متابعة سياسة ما وصفته واشنطن بـ”مكافحة محور الشر”، وهي السياسة التي انتهجتها إدارة بوش ليصبح قانونًا بهدف وضع حدّ لدعم النظام السوري للإرهاب، المتمثلة بحيازته على أسلحة الدمار الشامل، وإحكام قبضته على لبنان واستعداده لزعزعة استقرار العراق، فضلًا عن دعمه لمنظمات مثل “حزب الله” وحماس.
إذ تم فرض عقوبات أوسع تضمّنت حظرًا على معظم الصادرات الأمريكية إلى سوريا، ما عدا المواد الغذائية والدواء، وحظرًا على الشركات الأمريكية التي تعمل أو تستثمر في سوريا، وحظر شركات النقل الجوي السورية من السفر إلى الولايات وخفض العلاقات الدبلوماسية، إضافة إلى قيود على سفر الدبلوماسيين السوريين إلى الولايات المتحدة، ومنع التحويلات للممتلكات السورية.
وتجددت تلك العقوبات في عام 2006 وعام 2009، عبر استهداف البنك التجاري في سوريا، بما يقضي بمنع البنوك الأمريكية من التعامل معه، إضافة إلى استهداف القطاع المصرفي السوري، عبر فرض عقوبات على البنوك التي يشتبه في دعمها لنشاطات تمويل الإرهاب، وفرض قيود على سفر المواطنين الأمريكيين إلى سوريا.
ويمكن تقسيم العقوبات الأساسية الأمريكية إلى 9 فئات أساسية، هي:
- حظر تقديم المساعدة الحكومية الرسمية إلى سوريا، ومعارضة الولايات المتحدة للدعم الذي تقدمه المؤسسات المالية الدولية إلى سوريا، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
- حظر توريد السلاح.
- حظر السفر.
- حظر تصدير معظم السلع الأمريكية المصدر.
- حظر تصدير الخدمات الأمريكية إلى سوريا كخدمات الشحن والتأمين وتكنولوجيا المعلومات.
- قيود مالية واستثمارية والحظر على الشركات والمصارف الأجنبية التي تستخدم النظام المالي الأمريكي من أجل تخليص المعاملات ذات الصلة بسوريا.
- حظر استيراد النفط السوري والتعامل معه.
- عقوبات على وزارات وشركات الحكومة السورية وأصولها في أمريكا.
- عقوبات محددة الهدف ضد مسؤولين حكوميين سوريين ورجال أعمال وسياسيين ومناصرين للحكومة.
عقوبات ما بعد الثورة السورية
من بين الدول التي استخدمت العقوبات المرحلية على سوريا، أستراليا وبريطانيا وتركيا وسويسرا وكندا والاتحاد الأوروبي، إضافة إلى الأمم المتحدة، وكانت تلك العقوبات بعد اندلاع الثورة السورية أقسى وأشد تأثيرًا ممّا سبقها من عقوبات، وكذلك العقوبات الأوروبية التي مسّت بشكل مباشر التجارة ومنعت توريد المواد الأولية للنظام، كمستلزمات الإنتاج والآلات والتكنولوجيا، وفرضت عقوبات على مصرف سوريا المركزي وعلى حركة الأموال.
وبدأت المرحلة الأولى من العقوبات التي استهدفت المقومات الأساسية للاقتصاد السوري في نيسان/ أبريل 20111، وانتهت بعد 4 أشهر فقط.
ثم بدأت المرحلة الثانية التي هدفت إلى تغيير النظام السوري عبر تدمير بنيته الاقتصادية، من آب/ أغسطس 2011 حتى أيار/ مايو 2014، حيث شملت العقوبات لاعبين دوليين يعملون مع الحكومة السورية، بما في ذلك البنوك والمؤسسات المالية.
فيما بدأت المرحلة الثالثة منذ أيار/ مايو 2014 حتى الآن، عندما استهدفت الولايات المتحدة بعقوباتها على سوريا المؤسسات المالية في روسيا، باعتبار أن روسيا هي الداعم الأول للنظام والقادر على تغيير سلوكه.
وقسّمت ورقة بحثية ضمن برنامج “بحوث النزاع”، الفاعلين المستهدفين بالعقوبات منذ عام 2011 إلى مجموعتين رئيسيتين:
الأولى، مستهدفون بشكل مباشر: وهم الجهات الأمنية والعسكرية، مؤسسات ومسؤولون حكوميون، قطاع الطاقة، قطاع المصارف، تجّار الحرب ومحاسبو النظام، ومؤسسات وأصحاب أعمال دوليون على علاقة مع الحكومة السورية.
الثانية، مستهدفون بشكل غير مباشر: وهم المؤسسات الحكومية غير المعاقبة، قطاع الأعمال التقليدي، المجتمع المدني ومؤسساته، إضافة إلى فئة المواطنين العاديين.
من جهته يفرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على سوريا منذ سبتمبر/ أيلول 2011، وقد جدّدها مطلع العام 2012، قبل أن يعلن في مارس/ آذار 2021 أن العقوبات ستظل قائمة إلى حين حدوث تحول سياسي في سوريا.
وتعدّ عقوبات الاتحاد الأوروبي أضيق نطاقًا وأدق استهدافًا من العقوبات الأمريكية، فهي تقيّد التجارة في فئات محددة من المنتجات فقط، وتمنع المصارف من تخليص أنواع محددة من المعاملات المالية مع سوريا، والتعامل مع مصارف سورية محددة، إضافة إلى القيود على المساعدات الحكومية الرسمية لسوريا، وحظر الأسلحة واستيراد وتصدير سلع معينة، كالتكنولوجيا ووقود الطائرات النفاثة وبرمجيات التتبُّع والمراقبة، والمعدّات اللازمة لصناعة النفط والغاز والذهب والمعادن والسلع الكمالية.
أما القيود المالية والاستثمارية فهي أهم العقوبات الأوروبية، إذ تشمل حظر الاستثمار في صناعة النفط والغاز ومشاريع توليد الطاقة أو توفير القروض أو التسليفات لها، إضافة إلى حظر القروض الجديدة من الاتحاد الأوروبي.
وأثّرت هذه العقوبات بشكل كبير على التجارة الخارجية لسوريا، بما في ذلك البنوك والموانئ، ما جعل عمليات التبادل التجاري الدولي أكثر صعوبة وأسهم في تراجع معدلات الصادرات والواردات.
أبرز قوانين العقوبات
يعدّ قانون قيصر، الذي أقرّه الكونغرس الأمريكي لحماية المدنيين السوريين في ديسمبر/ كانون الأول 2019، واحدًا من أقسى العقوبات الاقتصادية والقانونية على نظام الأسد المخلوع، قبل أن يجري تطويقه أكثر بقانونَي “مكافحة الكبتاغون والتطبيع“.
وقد فرض قانون قيصر عقوبات على مجموعة متنوعة الأفراد والشركات والكيانات في بلدان ثالثة، ممّن يزاولون أنواعًا محددة من الأعمال التجارية التي تساهم في تمويل الحرب في سوريا، أو تساهم في مشاريع إعادة الإعمار مع الحكومة السورية، وكذلك مع الأفراد والشركات الخاضعين للعقوبات في سوريا.
وبشكل خاص، يشترط قانون قيصر على السلطة التنفيذية الأمريكية فرض عقوبات على الأشخاص والشركات والكيانات غير الأميركيين.
وتلَتْ قانون قيصر سلسلة من العقوبات الأمريكية والكندية والأسترالية والبريطانية والأوكرانية. ففي مارس/ آذار 2023، فرضت أوكرانيا عقوبات إضافية استهدفت 141 شركة و300 شخصية سورية، بعد زيارة الأسد لموسكو ودعمه للحرب في أوكرانيا، تضمّنت العقوبات تجميد أصول الدولة السورية داخل أوكرانيا وقطع العلاقات الاقتصادية.
مطالبات برفع العقوبات
بعد سقوط النظام، توالت الدعوات بالبدء برفع العقوبات عن سوريا، وإبقائها على شخصيات وكيانات مرتبطة بالنظام المخلوع، وفي أكثر من مناسبة طالب أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) قائد غرفة إدارة العمليات العسكرية، بإنهاء كل العقوبات المفروضة على سوريا، كي يعود النازحون السوريون في دول العالم إلى بلادهم.
وفي الصدد ذاته، دعت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أيضًا لرفع العقوبات الاقتصادية على سوريا، لا سيما بعد التحول السياسي الجذري، محذرةً من أن استمرار العقوبات في ظل غياب النظام السابق قد يؤدي إلى تحولها من أداة للمساءلة إلى عائق أمام جهود التعافي السوري.
وجاءت الدعوات أيضًا برفع العقوبات من داخل البيت الأمريكي، فقد دعا أعضاء في الكونغرس عبر رسالة مشتركة لإدارة الرئيس جو بايدن، إلى تعليق العقوبات المفروضة على سوريا بهدف دعم العملية الانتقالية، إذ بعث النائبان جو ويلسون وبريندان بويل برسالة مشتركة إلى البيت الأبيض ووزارتَي الخارجية والخزانة بشأن سوريا، أشارت إلى ضرورة تعليق العقوبات مع الأخذ في الاعتبار الأوضاع الراهنة في البلاد، والحفاظ على العقوبات المفروضة على مسؤولي نظام الأسد وغيرهم من المتورطين في جرائم ضد الشعب.
ماذا يعني إزالة العقوبات؟
كانت العقوبات إلى جانب الحرب الطويلة سببًا في تدهور الوضع الاقتصادي السوري وتراجع الإيرادات المالية العامة، فقد أدّى انهيار الإنتاج الصناعي والزراعي المحلي إلى زيادة اعتماد سوريا على الواردات، وانخفاض قيمة الليرة السورية بنسبة 141% مقابل الدولار الأمريكي، عدا عن تضخم أسعار المستهلكين ارتفع بنسبة 93%.
وحسب نسخة ربيع 2024 من تقرير المرصد الاقتصادي لسوريا، فإن للفقر في سوريا دلالة مكانية قوية، فأكثر من 50% من الفئات الأشد فقرًا يعيشون في 3 محافظات فقط (حلب وحماة ودير الزور)، وتسجّل المحافظات في الجزء الشمالي الشرقي من سوريا أعلى معدل لانتشار الفقر، أما الأسر التي تعيلها نساء والأسر النازحة داخليًا فهي الأكثر عرضةً لمخاطر الفقر.
في حديثه لـ”نون بوست”، أشار المستشار الاقتصادي أسامة القاضي إلى أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لهما شروط لرفع العقوبات، فالاتحاد الاوروبي لا يريد أن يرى لروسيا موطىء قدم في سوريا، وهذا يعدّ واحدًا من الشروط التي يطلبها بإلحاح، لأن روسيا بالنسبة إلى أوروبا مسألة حساسة بسبب أوكرانيا.
بينما الولايات المتحدة يرتبط رفعها للعقوبات القديمة والحديثة بتصرفات وصورة الحكومة الجديدة، فهي تريد التأكد من أن الحكومة الانتقالية التي تقودها هيئة تحرير الشام غير متطرفة، وأجندتها وطنية، ولا تقيد الحريات العامة أو حقوق الأقليات، وليست معبرًا لأحد من التنظيمات المتطرفة الأخرى المحلية أو العالمية.
ويتوقع القاضي أن أوروبا وأمريكا في طريقهما إلى إزالة العقوبات التي خنقت الاقتصاد السوري خلال الأشهر القادمة، كون الدولة منهارة اقتصاديًا والأزمة الإنسانية متفاقمة، فلا مشكلة حقيقية في ذلك، لكن فقط عندما يتم التأكد من وجود حكومة تكنوقراط وطنية، عند ذلك يمكن إقناع دول العالم بإزالة العقوبات.
وأوضح الخبير الاقتصادي أن إزالة العقوبات عن المصرف المركزي وعودة نظام سويفت إلى البنوك وتدفق الأموال، إضافة إلى إزالة العقوبات أيضًا عن تصدير النفط السوري واستيراد الطاقة التي تؤثر على الصناعة بشكل كبير، سينعش الاقتصاد السوري، وسيشجّع المستثمرين، لا سيما مع إعادة التعامل مع البنك المركزي السوري كوضع قانوني، إذا ما أرادت أي دولة أو كيانات أن تودع وديعة فيه.
ولفت القاضي إلى أن بعض الشركات التي تريد الدخول إلى سوريا من أجل الإعمار تتحرج بسبب العقوبات حتى لو استطاعت التحايل، لأنها أصلًا لا تريد أن تأخذ أي شبهة ومخاطرة في الاستثمار.
ختامًا، تبقى مسألة رفع العقوبات عن سوريا مرهونة بما يمكن للحكومة الجديدة أن تقدم من خطوات هادفة لبناء الثقة مع المجتمع الدولي، والتزامات أساسية بخصوص كثير من القضايا، كالموقف من الإثنيات والأقليات والتشاركية في بناء الدولة والعلاقة مع دول الجوار، لا سيما “إسرائيل”.